شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
من رسائلي إلى ماريا (2)... لو أن الحمقى يمكنهم الطيران لبات مجلس الشعب مطاراً

من رسائلي إلى ماريا (2)... لو أن الحمقى يمكنهم الطيران لبات مجلس الشعب مطاراً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأحد 20 ديسمبر 202008:56 ص
Read in English:

Letters To Maria... If Fools Could Fly, Parliament Would Be a Runway

من هذا الكون الفسيح، ومن قرية بعيدة اسمها القدموس، ومن داخل كوخ عتيق،

مساء الخير حبيبتي ماريا،

نحن هنا رجلان وكلب وعلبة سجائر رطبة.

أرسلتني الشركة التي أعمل فيها إلى هذه القرية لأتفقّد المستودعات وأجردها، كي أتأكد من عدم حدوث أية سرقة.

لا أعلم لماذا هذا الإجراء الروتيني، فالسرقة تتم عادة قبل وصول البضائع إلى المستودعات، كما أن السرقة تكون في التلاعب بنوعية وجودة البضائع وبالأسعار المزورة على الفواتير، وجميعنا في الشركة نعلم هذا.

ولا أعلم لماذا لا أزال أعمل معهم، فأنا لم أتقاضَ راتبي منذ أربعة أشهر بحجة الأزمة الاقتصادية، وكأنّ انهيار بورصة وول ستريت متوقف على راتبي الذي يبلغ عشرين دولاراً.

وصلت في التاسعة صباحاً بعد أن خضت معاركَ طاحنة للحصول على ربع مقعد في "السرفيس" (ميني باص يتّسع عادة لـ13 راكباً) المتجه إلى القرية. والآن، لا أجد وسيلة نقل للعودة فعلقت هنا. معظم أصحاب "السرافيس" يبيعون مخصصاتهم من الوقود المدعوم في السوق السوداء ولا يعملون.

هنالك رحلة واحدة تخرج من القرية إلى المدينة، ولكنها لن تخرج قبل غد، في الساعة السابعة صباحاً، وسنكون قرابة الثلاثين شخصاً، كمرطبان المكدوس الشهي. ولكن ذلك أفضل من العودة مشياً مسافة 400 كيلومتراً في الحر والبرد، فحتى المناخ في هذه البلاد متقلب المزاج.

عرض عليَّ أحد عمال المستودع أن أبيت في كوخه المتواضع لهذه الليلة، وبالتأكيد قبلت العرض.

ذهبت قبل قليل إلى السوق لأحضر بعض الطعام لنأكله أنا وصديقي، وما أدهشني في السوق هو أن الموز سعره أقل من سعر الطماطم!

لا أعلم كيف حدث هذا يا ماريا، ولكن أظنها من إنجازات الفريق الاقتصادي العجيب.

نحن أول دولة في العالم تكون فيها أسعار الأساسيات أعلى من أسعار الكماليات.

كل ما في هذه البلاد غريب عجيب، فالشعب يسأل من جهة والمسؤولون يجيبون من جهة أخرى مختلفة تماماً.

البارحة شاهدت أحد أعضاء مجلس الشعب يبكي على شاشة التلفاز ويصيح: تنكة زيت الزيتون صار سعرها عشرين ألف ليرة، كيف سيؤمّنها المواطن الفقير؟

عشرون ألف ليرة؟! لقد تعدّى سعرها المئة ألف منذ قرابة السنة ونصف!

لا أعلم من أين يحضر هؤلاء الأشخاص معدل الذكاء المطلوب للترشح لمجلس الشعب.

ولكن أقسم لك لو أن الحمقى يمكنهم الطيران، لبات مجلس الشعب مطاراً يا ماريا.

"أحضرت نصف كيلو من الموز وأوقية من الجبنة. حاولت إطعام الكلب من الجبنة، ولكنه رفض. لا أعلم لماذا. لكن صاحبه أخبرني أن الكلاب لا تأكل الطعام الفاسد، الحمد لله أنني لست كلباً يا ماريا"

المهم. لقد أحضرت نصف كيلو من الموز وأوقية من الجبنة. حاولت إطعام الكلب من الجبنة، ولكنه رفض. لا أعلم لماذا. لكن صاحبه أخبرني أن الكلاب لا تأكل الطعام الفاسد، الحمد لله أنني لست كلباً يا ماريا.

الطعام فاسد، والمياه غير صالحة للشرب، والمزروعات ترويها مياه الصرف الصحي وسوائل النفايات، والتعليم بدائي جداً والخدمات تكاد تكون معدومة.

لكن على الأقل هذا الكلب يستطيع أن ينبح أما أنا فلا.

المشكلة أننا في هذه البلاد كقوارير البيبسي التي نرمي فيها حبات من "المينتوس"، جاهزون للانفجار والفوران. ولكن عندما تأتي الحكومة وتفتح الغطاء، فجأة أتذكر أنني كركديه.

إنها تمطر في الخارج الآن، والبرد شديد ولا كهرباء ولا تدفئة والطرقات في الخارج تملؤها السيول لأنه، وفي كل مرة وفي كل سنة، تتفاجأ البلدية بقدوم الأمطار في الشتاء. ولكن لا عتب عليهم، فرئيس البلدية ترعرع في لندن حيث تمطر في الصيف.

تقدمت الشهر الماضي لمقابلة عمل في شركة جديدة، فسألتني موظفة الموارد البشرية سؤالاً أعتبره من أغبى الأسئلة التي وُجّهت إليّ في حياتي: "أين ترى نفسك بعد خمسة سنوات؟".

سيدتي العزيزة أنا أعمل 16 ساعة في اليوم، أشغل وظيفتين إحداهما بدوام كامل والثانية بدوام جزئي ومع ذلك أنا بالكاد آكل.

أنت نفسك يا سيدتي لا تعلمين ماذا سيحدث معك غداً فقد تموتين من المرض أو بحادث سير، فإشارات المرور معطلة منذ ثمانية سنوات، ملابسك إنْ تمزّقت، لا أعلم إن كنت تستطيعين شراء غيرها! نحن هنا نعيش يوماً بيوم.

عندما تسألينني أين أرى نفسي بعد خمسة سنوات لا أعلم عن ماذا تتحدثين! ربما في القبر أو في إلمانيا أو متسولاً على قارعة الطريق.

"تقدمت الشهر الماضي لمقابلة عمل في شركة جديدة، فسألتني موظفة الموارد البشرية سؤالاً أعتبره من أغبى الأسئلة التي وُجّهت إليّ في حياتي: "أين ترى نفسك بعد خمسة سنوات؟"... سيدتي... نحن هنا نعيش يوماً بيوم"

أمزح معك يا ماريا. بالتأكيد أجبتها الجواب المعتاد: "أرى نفسي مكانك وأراك أنت مديرة للشركة".

يا ماريا، اقتربت السنة على الانتهاء، وكانت سنة مؤلمة بشكل كبير ولم أستطع تحقيق أي إنجاز فيها ليُضاف إلى مجموعة السنوات الضائعة من عمري.

كل يوم، يزداد لديّ مقدار اليأس، فالمستقبل مجهول والحياة بلا طعم هنا.

نحن الجيل الذي لن يقول يا ليت الشباب يعود يوماً، فشبابنا كان وقوداً للحروب.

نحن الشوكة التي تحاول النمو وسط حقل من الزهور الصفراء ذات الرائحة البشعة.

المهم، كفانا تشاؤماً، أريد أن أنام الآن لكي ألحق رحلة الصباح إلى المدينة.

سأفترش أرض الكوخ متأملاً أن يشفق عليّ هذا الكلب ويحتضنني فيدفئني قليلاً.

أحبك بعدد مشاكل هذه البلاد يا ماريا، أحبك إلى اللانهاية وما بعدها.

انتظريني، انتظريني، ولا تستمعي إلى كلام جدتك.

إلى اللقاء.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image