في سنة 1932 اعترض قاطعو الطريق سيارة معطلة وسط الصحراء، متجهة من بغداد إلى دمشق. نزل منها شاب أنيق في الرابعة والثلاثين من عمره، تبدو عليه علامات الذعر الشديد وفي يده منديل أبيض استخدمه لمصافحتهم خوفاً من التقاط أي جراثيم. حاول إخفاء اسمه ولكن أحد مرافقيه قال لهم: "هذا محمد عبد الوهاب، المطرب المصري الشهير". تغيرت ملامح الرجال ورسمت على وجوههم ابتسامة عريضة: "آه. أنت حقاً عبد الوهاب؟". رد الأخير بابتسامة خجوله، دون معرفة إن كان اسمه سيؤدي إلى الإفراج عنه أو اختطافه ومقتله.
بعض المؤرخين يقولون إن أحد الرجال قال له "أنت عبد الوهاب نفسه الذي غنى عن ليلى؟"، في إشارة إلى أوبريت "مجنون ليلى" التي قدمها عبد الوهاب في فيلم "يوم سعيد" مع المطربة السورية أسمهان. ولكن هذه المعلومة خاطئة بالمطلق لأن الفيلم الشهير أنتج سنة 1939 فيما كانت زيارة عبد الوهاب الوحيدة إلى العراق سنة 1932. المؤكد الوحيد أنهم عندما تأكدوا أنه فعلاً محمد عبد الوهاب – بشحمه ولحمه – هيأوا له الطعام وأصلحوا سيارته، فغنى لهم بعض أغنياته الشهيرة، عرفاناً بالجميل.
مقاطعة شركة النقل البريطانية
رحلة عبد الوهاب العراقية كانت مليئة بالمفاجآت، وكان آخرها ما حدث معه في جوف الصحراء يوم عودته من بغداد. كتب عن بعض طرائف تلك الزيارة مقالاً في مجلة الراديو المصرية قال فيه: "كنت تواقاً لزيارة العراق من كثرة ما سمعت عنه ممن عرفوا أهله وخبروا أخلاقهم ولمسوا مروءتهم".
صدم عبد الوهاب لما قرأ من هجوم ظالم ضده في بعض الصحف، كما أن مشاهداته الأولية في بغداد لم تكن مرضية، حيث وجد مجتمع تقليدي ومغلق، بالمقارنة مع الانفتاح الكبير الذي كان يعرفه بالقاهرة
ولعل عبد الوهاب كان يقصد بهذا الكلام صديقته أم كلثوم، التي زارت بغداد قبله بأشهر، أو المطربة المصرية منيرة المهدية، التي جاءت قبلهما بسنوات طويلة. وفي طريقه إلى بغداد في سوريا، أراد الانتقال براً إلى بغداد عن طريق شركة بريطانية للنقل ولكن السوريين ألحوا عليه أن يركب مع شركة سورية ويقاطع البضائع الأجنبية، واقترحوا عليه شركة عكاشة رويشة المحلية.
نزل عبد الوهاب عند رغبتهم، ويا ليته لم يفعل، إذ أن السيارة السورية التي نقلته كانت قديمة، تتوقف كل بضعة كيلومترات لإجراء عمليات صيانة، ما جعل الرحلة تستغرق ثلاثة أيام بلياليها، بدل من 24 ساعة. أي أن وسائل النقل تعطلت معه مرتين، ذهاباً وإياباً.
في بغداد
وعندما وصل بغداد، وجد أن حملة عشواء كانت قد نظّمت ضده ودعا البعض لمقاطعة حفلاته، حفاظاً على "الأغنية العراقية" ومنعاً للتجديد الذي عُرف به عبد الوهاب، وكان في مقدمتهم الشاعر الشعبي عبود الكرخي، أحد المجاهدين القدامى مع الملك فيصل الأول منذ زمن الثورة العربية الكبرى. وكان سعر تذكرة الحفل عالية جداً -ما بين 5 إلى 10 روبيات– ما لا يتناسب مع مدخول الفرد العراقي في ظلّ الأزمة الاقتصادية العالمية التي ألقت بظلالها الثقيل على العراقيين.
الملك فيصل، وباستثناء الحفاوة والترحيب، لم يقلد عبد الوهاب أي وسام، كما فعل حفيده مع أم كلثوم عند زيارتها بغداد سنة 1946.
يشرح عبد الوهاب أيضاً أن العراقيين كانوا ميالين إلى الموسيقى التي تدمج بين الألحان العربية والبدوية "ولم تكن الموسيقى الحديثة وقتئذ قد دخلت فن العراق". صدم لما قرأ عن هجوم ظالم ضده في بعض الصحف، كما أن مشاهداته الأولية في بغداد لم تكن مرضية، حيث وجد مجتمعاً تقليدياً ومغلقاً، بالمقارنة مع الانفتاح الكبير الذي كان يعرفه بالقاهرة: "التقاليد العربية القديمة كانت ضاربة جناحها على العائلات العراقية، فقل إن تقابل سيدة عراقية في الطريق، واذا سارت المرأة العراقية في الشارع تسير محجبة من قمة الرأس إلى أخمص القدمين، بحيث لا يرى الإنسان إلا شبحاً قاتماً لا يظهر منه قلامة أظافر".
وكان الانتقاد مزدوجاً من الصحافة العراقية من جهة ومن المصرية أيضاً، التي استغربت زيارة عبد الوهاب إلى بغداد وتركه مؤتمرَ الموسيقي الأول المنعقد يومها في القاهرة (28 آذار/مارس–2 نيسان/أبريل 1932).
حضر حفل الافتتاح وغنى أمام الملك فؤاد وضيوفه، ولكنه اعتذر عن حضور بقية الأنشطة بسبب مواعيده المسبقة في بغداد والدعوة الشخصية التي تلقاها من الملك فيصل الأول لحضور افتتاح المعرض الزراعي والصناعي العراقي. استغربت الصحافة المصرية كيف يترك ملك مصر للمثول أمام ملك العراق، ويفضل المشاركة في معرض للزراعة والصناعة العراقية عن مؤتمر مخصص للموسيقى في بلده وهو من أسيادها وأساطينها.
في ضيافة الملك فيصل الأول
نزل في جناح خاص خُصص له في دار الضيافة في محلّة السنك في شارع الرشيد، ومنه توجه إلى القصر الملكي لتسجيل اسمه في دفتر التشريفات وكتابة بعض كلمات الثناء بحق البلد المضيف ومليكه. استقبله حاجب الملك تحسين قدري – وهو ضابط دمشقي جاء مع فيصل من سوريا – وعندما طلب إليه عبد الوهاب تحديد موعد لمقابلة الملك رد قدري: "ميعاد إيه؟ خش قابله هو بانتظارك".
فُتح الباب ووجد عبد الوهاب الملك فيصل الأول جالساً من دون جاكيت، وعلى رأسه حطة الرأس الفيصلية. دار بينهم حديث مجاملة وترحيب، وفي طرف الحديث الجانبي، التفت عبد الوهاب إلى شاب وسيم كان جالساً إلى جانبه تحدث معه ممازحاً عن حرّ البلاد.
وفي ذكرياته عن اللقاء يقول عبد الوهاب: "وأنا قاعد في القصر، قعد جنبي واحد سألني عن اللي شفته... قلت إني كنت فاكر إني هشوف العباسيين والعز... ولقيت حرّ قرف... ما أعرفش إيه اللي مقعّد الملك هنا". وكانت الصدمة عندما علم أن الشاب هو ليس إلّا الأمير غازي بن فيصل، وليّ العهد، والمعروف أن عبد الوهاب كان يهرب من حر القاهرة ويلجأ إلى منزه بلودان بريف دمشق بشكل سنوي، وهذا ما يفسر انزعاجه الشديد من حرّ بغداد.
الحفل الأول: 1 نيسان 1932
المعرض العراقي كان من تنظيم الجمعية الزراعية الملكية، برعاية مباشرة من الملك فيصل، وقد أقيمت فعالياته في مقر الجمعية والأراضي المجاورة لها في منطقة الباب المعظم، وهي اليوم تضم دوائر أبنية وزارة الخارجية سابقاً ووزارة الدفاع. سمّيت الأرض التي أقيم عليها الحفل بحديقة المعرض، وبقيت بعد انتهائه حديقة عامة للأسر البغدادية، وتقام فيها أنشطة ثقافية وفنية.
حفلة الافتتاح كانت في 1 نيسان/أبريل 1932، غنى فيها عبد الوهاب قصيدة "يا شراعاً وراء دجلة يجرى" لأمير الشعراء أحمد شوقي الذي نظمها خصيصاً بمناسبة زيارة عبد الوهاب إلى بغداد. وفي الحفلات المتتالية غنى رائعة "يا جارة الوادي" ومعها "الهوى والشباب" و"انا أنطونيو"، كما دعي لإقامة حفل خاص في القصر الملكي، بحضور الملك فيصل والأمير غازي.
أكبر دليل على نجاح حفلات عبد الوهاب كان في الإقبال الجماهيري الكبير، على الرغم من ارتفاع سعر البطاقات، كما أنه أقام حفلات إضافية مجانية لذوي الدخل المحدود وبقي مقيماً في بغداد شهراً كاملاً.
أكبر دليل على نجاح حفلات عبد الوهاب كان في الإقبال الجماهيري الكبير، على الرغم من ارتفاع سعر البطاقات. كما أنه أقام حفلات إضافية مجانية لذوي الدخل المحدود وبقي مقيماً في بغداد شهراً كاملاً
وقد انعكس النجاح على أفلامه التي عرضت بعدها في بغداد، مثل "الوردة البيضاء" في سينما الرافدين (سينما سنترال)، وفيلم "دموع الحب" سنة 1936. وقف طابور من الناس أمام أبواب السينما، وعندما نفذت البطاقات، كسروا جميع الواجهات الزجاجية، وأُجبرت إدارة السينما على فتح جميع الأبواب لاستيعاب الزحف البشري لمشاهدته على الشاشة.
انزعاج الملك
أما الملك فيصل، وباستثناء الحفاوة والترحيب، لم يقلده أي وسام، كما فعل حفيده مع أم كلثوم عند زيارتها بغداد سنة 1946.
يبدو أن ما قاله للأمير غازي ممازحاً وصل إلى مسامع الملك، وبعد شهرين من عودته إلى القاهرة، أرسل رسالة لفيصل بتاريخ 26 حزيران/يونيو 1932 (لا تزال محفوظة في المكتبة الوطنية ببغداد) يطلب إليه تعيين أحد أقربائه، ويدعى فهمي خالد علي، في أحد الوظائف الحكومية في العراق. أجابه رئيس الديوان الملكي في 18 تموز/يوليو 1932 باطلاع الملك على رسالته وأنه لا توجد وظيفة شاغرة في الدوائر العراقية "حالياً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون