في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، كان محمد عبد الوهاب يأتي سنوياً إلى فندق بلودان الكبير، شمال غربي دمشق، هرباً من الحرّ الشديد في صيف القاهرة أو بحثاً عن السكينة والهدوء خلال فصل الشتاء. كانت تربطه علاقة طيبة بكثير من السوريين، من مطربين وملحنين ومسؤولين، كما أنه تزوّج سنة 1958 من السيدة السورية نهلة القدسي، الزوجة السابقة لرئيس الحكومة الأردنية عبد المنعم الرفاعي. ويفتخر السوريون كثيراً بأنه لحّن وغنى قصيدة "دمشق" لأمير الشعراء أحمد شوقي، التي جاء فيها البيت الشهير: "سَلامٌ مِن صَبا بَرَدى أَرَقُّ/ وَدَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمشقُ".
عبد الوهاب في بلودان
وتعود علاقة عبد الوهاب بسوريا إلى زيارته الأولى سنة 1925، إذ جاء بصحبة شوقي، وحلّ ضيفاً على نائب دمشق فخري البارودي، في منزله الكبير بحيّ القنوات. ويحكى أنه تفاجأ عند رؤية نهر بردى للمرة الأولى، وهو نهر صغير بالمقارنة مع النيل، طوله لا يتجاوز 71 كيلومتراً، وقال باندهاش: "ده بردى؟". بعدها بخمس سنوات، كانت زيارة العمل الأولى له إلى سوريا، لإحياء حفلات في كلًّ من دمشق وحلب، لم تخلُ من المفاجآت أيضاً بالنسبة لموسيقار الأجيال.
الشيخ تاج يمنع حفلة عبد الوهاب الثانية في دمشق
تزامنت حفلات عبد الوهاب سنة 1930 مع انعقاد المؤتمر النسائي الشرقي في قصر العظم داخل سوق البزورية بدمشق، الذي رخّصت له حكومةُ الشيخ تاج الدين الحسني، وهو قاضٍ شرعي سابق ورجل دين معمّم ولكن منفتح. وقد تتالت في جلسات المؤتمر السيداتُ على المنبر بخطب حماسية عن حقوق المرأة، وكانت من بينهن صفوة مردم بك (زوجة جميل مردم بك) وأسماء عيد (زوجة فارس الخوري)، مع مندوبات عن العراق ولبنان وإيران وأفغانستان.
عبد الوهاب مع حافظ الأسد في السبعينيات
واجه الشيخ تاج معارضةً شديدة من خصومه بسبب هذا المؤتمر، وتحديداً من رجال الدين والأئمّة، ولكنه أصرّ عليه ولم يمنعه. وفي المقابل أبدى تشدداً في تعامله مع عبد الوهاب لكي يُرضي ما تبقى له من مؤيدين في الشارع المحافظ، فقام بمنع حفلة عبد الوهاب النسائية الثانية بحجة أن الحاضرات في العرض الأول (وكان عددهن 1500 سيدة سورية) قمن بالتمايل طرباً على ألحانه، ما خدش حياء المجتمع السوري المحافظ.
مُنعت ثاني حفلات محمد عبد الوهاب النسائية في دمشق بحجة أن الحاضرات في العرض الأول (وكان عددهن 1500 سيدة سورية) قمن بالتمايل طرباً على ألحانه، ما خدش حياء المجتمع السوري المحافظ
وقد أقيم هذا الحفل "الماتينيه" المخصص للنساء في أوبرا العباسية القريبة من محطة الحجاز. كان هذا البناء قد شيّد حديثاً سنة 1925 وكان طابقه الأرضي على الطراز العثماني، يستخدم مقهى في النهار وفيه لمسات من فن الباروك العالمي، وفي الدور العلوي مسرح وملهى (وهو اليوم مقرّ فندق سميراميس). كانت حفلته الأولى ناجحة بكل المقاييس، وقد علّق عبد الوهاب عليها وعلى جمهوره من السيدات السوريات: "كما أعجبت نساء دمشق بنا، فقد أعجبنا بإحساسهن الفني وأدهشنا ذوقُهن الرفيع في تكييف النغم".
عبد الوهاب مع نزار قباني في السبعينيات
وفي حديث له مع مجلّة مصر الدنيا المصورة (تموز/يوليو 1930)، تساءل عبد الوهاب عن موقف حكومة دمشق وكيف لها أن تمنعه من الغناء بعد النجاح الباهر الذي حققته أمسيته الأولى، فقال: "إذا كان الحيوان يرقص ويهز رأسه من طرب الموسيقى التي يعتقد العالم أجمع أنها سِحر سماوي، فكيف يمكن أن يقف شعور المرأة أمامها صلباً وجافاً؟ هل عبد الوهاب بفنه الجميل أشد خطراً على الرجعية من الخطب الحماسية المثيرة التي ألقيت في المؤتمر (النسائي)؟". ثم تجدد الصدام بين عبد الوهاب والمؤسسة الدينية السورية بعد ثلاث سنوات، عندما عمل رجال الدين على منع عرض فيلمه الشهير "الوردة البيضاء" سنة 1933.
عمالقة الفن العربي عبد الوهاب وعبد الحليم وأم كلثوم مع الموسيقار السوري فريد الأطرش
عبد الوهاب و"سمّيعة" حلب
أما المفاجأة الثالثة بعد صدمة بردى وصدمة منع حفلة دمشق، فكانت في حلب، عصب الموسيقى الشرقية وبيت الفنّ المشرقي. حدثنا عن هذه الحفلة المطرب السوري صباح فخري، وهو صديق مقرب من عبد الوهاب، وقد سمع مجرياتها منه شخصياً خلال لقاءاتهم المتكررة في دمشق وحلب والقاهرة. كانت حلب الثلاثينيات محجاً لكل الفنانين والملحنين، الناشئين منهم والمحترفين، ويقول فيها سيد درويش: "من صفقت له حلب صفق له العرب".
كانت حلب الثلاثينيات محجاً لكل الفنانين والملحنين، الناشئين منهم والمحترفين، ويقول فيها سيد درويش: "من صفقتْ له حلب صفق له العرب"
وكان عبد الوهاب يستعد لإحياء أولى حفلاته في حلب وقد وقف خلف الكواليس منتظراً افتتاح الستارة. نظر من مكانه فوجد الصالة شبه خالية، ليس فيها إلا بضعة رجال متقدمين بالسن، أمّا بقية المقاعد فكانت فارغة تماماً. صُدم من هذا المشهد، وعندما احتج أمام مدير الصالة ومتعهد الحفل، معتبراً أنهم قصروا في الترويج له، كان جوابهم: "أستاذ عبد الوهاب، لا تقلق. هؤلاء هم (سمّيعة) حلب، يأتون لمعاينة أي مطرب جديد قبل الموافقة عليه، وحكماً سيعجبون بما ستقدمه حضرتك".
حفلة عبد الوهاب في حمص سنة 1930
وبالفعل، أحيا عبد الوهاب هذا الحفل مرغماً، وكانت نتيجته أن بقية الحفلات كانت مباعة بطاقاتها بالكامل (SOLD-OUT) بعد أن أثنى "السمّيعة" على عبد الوهاب، وشهدوا بأنه أسطورة في اللحن والعزف والغناء، أسطورة لن تكرر. وظلّ هؤلاء ومن جاء بعدهم من "سمّيعة،" يميزون جيداً بينه وبين عبد الحليم حافظ، الذي كانوا يعتبرونه مؤدياً جيداً وفناناً موهوباً، ولكنه لا يرقى إلى مرتبة عبد الوهاب الفنية.
وفي مطلع أيام الوحدة السورية المصرية، طلب الرئيس جمال عبد الناصر من عبد الوهاب مرافقة وفد فني مصري إلى الإقليم الشمالي لإحياء مجموعة حفلات، ولكنه حاول الاعتذار لأن الوفد كان مقرراً أن يسافر بالطائرة، وكان عبد الوهاب يخشى السفر بالجو، ويحاول تجنبه قدر المستطاع، كما أنه كان شديد الحرص على صحته، يتجنب الأماكن المزدحمة، ويحمل منديلاً في جيبه دوماً، يغسل يديه به بعد مصافحة أي شخص. مع ذلك ذهب عبد الوهاب إلى دمشق بالطائرة مجبراً، لكيلا يُزعل عبد الناصر، ولكنه رفض الغناء في الحفلة المقررة يومها في سوريا، واكتفى بتقديم عبد الحليم ليحلّ مكانه في تلك الأمسية، فغضب "السمّيعة" واحتجوا قائلين: "جئنا لأجل محمد عبد الوهاب، لا عبد الحليم حافظ".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.