مع بداية فصل الخريف، وفي مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 2000، استيقظ سكان القاهرة على سحابة سوداء ضخمة تغطي سماء المدينة، وبعد ساعات قليلة بدأت السحابة الكثيفة بالانتشار في محافظات الدلتا القريبة من العاصمة كالقليوبية والدقهلية، قبل أن تنتقل إلى محافظات الشرقية والاسماعيلية ودمياط والغربية والبحيرة وكفر الشيخ خلال الأيام اللاحقة.
أثبتت الحرائق الضخمة للمخلفات في حقول الأرز أنها السبب الرئيسي خلف هذه السحابة التي باتت تمثل قلقاً للمصريين والمؤسسات المعنية خلال السنوات والعقود التالية، بسبب آثارها البيئية والصحية الخطيرة، فعلى مدى أسابيع، أدت عمليات الحرق العشوائية إلى تراكم الدخان عبر طبقات الغلاف الجوي، لتحركه الرياح والعواصف، وأصيب مواطنون كثر بحالات ضيق التنفس والاختناق، وتدهورت حالة مرضى حساسية الصدر، وازدادت الحوادث المرورية على الطرق الرئيسية القريبة من حقول الأرز، بسبب كثافة الدخان الذي حجب الرؤية.
البداية
بدأت القصة قبل نهاية الألفية الثانية، حينما أحجمت جملة من الشركات الخاصة المسؤولة عن جمع قش الأرز من الحقول الزراعية، والمتعاقدة مع الحكومة، عن القيام بدورها، بسبب عدم وجود خطة واضحة لتدوير تلك المخلفات، وغياب العائد المادي للمزارعين من عملية التسليم، واقتناعهم بأن حرق قش الأرز يساعد على تدفئة التربة، بالإضافة إلى الاستفادة من تراب الحريق باعتباره سماداً عضوياً للتربة.
حرق المخلفات الزراعية هو المصدر الأول والأساسي لتلوث هواء القاهرة خلال موسم الخريف.
في إحدى قرى مركز ميت غمر في محافظة الدقهلية التي تشتهر بزراعة الأرز، يجلس الحاج حسين على رأس أرضه الزراعية التي تتجاوز مساحتها ثلاثة فدانات، ويتذكر الأوضاع قبل أكثر من عشرين عاماً، حينما اعتاد أن يحرق مخلفات الأرز في الأرض، حتى وإن كلفه ذلك دفع الغرامة التي أقرها قانون البيئة الصادر عام 1994، والذي نص على معاقبة من يحرقون مخلفات الأرز بالحبس أو الغرامة المالية التي تتراوح بين 5000 إلى 100 ألف جنيه مصري.
ممسكاً بعصا صغيرة ومتكئاً على حوض الري، حيث ترفع الماكينة مياه النهر عبر ترعة صغيرة إلى الحوض، يروي المزارع لرصيف22 الأسباب التي تدفعه إلى حرق مخلفات الأرز: "اعتدنا سرعة تنظيف الأرض بعد موسم الأرز استعداداً لموسم البرسيم، إذ لا يمكننا تخزين مخلفات الأرز بالقرب من الأرض لأنها تجذب الحشرات والفئران مما يضر بالمحاصيل الجديدة، وعملية نقل وتخزين قش الأرز في أماكن بعيدة مكلفة ومرهقة، ولم يكن أمامنا سوى حرقه في الحقول بعدما امتنعت شركات جمع المخلفات عن القيام بدورها، في ظل عدم وجود حافز مجزٍ من الحكومة للشركات والمزارعين".
كارثة بيئية وصحية
خلال السنوات اللاحقة، دأبت وزارة البيئة المصرية على التأكيد أن حرق المخلفات الزراعية هو المصدر الأول والأساسي لتلوث هواء القاهرة خلال موسم الخريف، وبالأرقام، فإن حرق قش الأرز يمثل 42% من مسببات تلوث الهواء، تليه انبعاثات المنشآت الصناعية وعوادم السيارات وحرق المخلفات الصلبة المكشوف. ويزداد إحساس سكان القاهرة والجيزة بحدة التلوث مع وقوعهما في منخفض مستطيل على جانبي النيل يحبس الملوثات في الجو ويزيد من تأثيراتها السلبية.
وفي هذا السياق يشير الدكتور اسماعيل البدري أستاذ الصحة العامة في كلية الطب بجامعة القاهرة، إلى أن تلوث الهواء الناتج عن السحابة السوداء أدى إلى تضاعف حجم الكارثة البيئية خاصة في القاهرة، التي تعد واحدة من أبرز عواصم العالم بشدة التلوث.
ويؤكد البدري لرصيف22: "أدت السحابة السوداء إلى زيادة معدل التلوث بمقدار عشرة أضعاف تقريباً، وظهرت آثار ذلك بسرعة على الأطفال وكبار السن ومرضى حساسية الصدر، وشملت الأعراض ضيق التنفس والتهاب الشعب الهوائية وحدقة العين، وتشنجات الجهاز العصبي، بالإضافة إلى تسجيل عدد ضخم من النوبات القلبية والذبحات الصدرية، خاصة من كبار السن الذين يقطنون بالقرب من مواقع الحريق".
وبناءً على تقرير صادر عن البنك الدولي عام 2019، فإن تلوث الهواء في القاهرة وحدها يكلف البلاد 47 مليار جنيه سنوياً ، ما يعادل 1.35% من الناتج المحلي الإجمالي.
لذا، بدأت وزارة البيئة عام 2020 في تنفيذ مشروع قومي لإدارة تلوث الهواء وتغير المناخ، ممول بقرض من البنك الدولي بقيمة 200 مليون دولار، يهدف للحد من انبعاث ملوثات الهواء وتغير المناخ في قطاعات حيوية في القاهرة الكبرى، وأقامت الوزارة نحو 120 محطة رصد لملوثات الهواء، من أجل توفير بيانات لمواجهة مصادر التلوث واتخاذ الإجراءات اللازمة.
رقابة وحملات توعية
بدأت وزارة البيئة بالتنسيق مع جميع الوزارات والهيئات المعنية بالعمل على مواجهة الظاهرة، من خلال إجراءات أهمها رصد ومتابعة انبعاثات التلوث في الهواء، وتعظيم العقوبات القانونية حيال المخالفين، فضلاً عن توفير المعدات اللازمة لكبس وفرم القش من أجل إعادة تدويره، مع دفع حافز مادي للمزارعين الذين يسلمون المخلفات، بالإضافة إلى تكثيف حملات توعية وإرشاد المزارعين من أجل الاستخدام الآمن والأمثل لمخلفات الأرز.
ضعف الحافز المادي الذي تقدمه الحكومة المصرية للمزارعين نظير جمع قش الأرز، لا يمثل عاملاً مشجعاً لكي يسلم الفلاح مخلفات أرضه الزراعية، كما أنه من الضروري المضي قدماً في توطين صناعات التدوير الأمثل للمخلفات الزراعية، من أجل القضاء التام على تلك الظاهرة الخطرة
وفي هذا الصدد يقول لرصيف22 محمد مروان مساعد رئيس مكتب الفرع الإقليمي لوزارة البيئة في محافظة الشرقية، إن الوزارة بدأت بشكل جاد بمواجهة أزمة حريق قش الأرز عام 2005، فقدمت جهداً كبيراً بالتنسيق مع وزارة الزراعة لتوعية المزارعين حول مخاطر حرق المخلفات على التربة والإنسان والحيوان، ومساوئ إهدار تلك الثروة التي يجب استغلالها بالشكل الأمثل، كما دشنت مراكز خاصة لرصد انبعاثات الملوثات، وتعاقدت مع جهاز الخدمة الوطنية للقوات المسلحة وشركات خاصة من أجل جمع وكبس مخلفات الأرز، مع دفع خمسين جنيهاً -قرابة دولار ونصف- كحافز مادي عن كل طن مخلفات، مع تتبع وضبط المخالفين.
ويضيف: "تزامنت تلك الجهود مع تعاقد الوزارة مع هيئات دولية وحكومية وخاصة لإنشاء نماذج متنوعة لمصانع إعادة تدوير المخلفات، فأُنشئت ثلاثة مصانع في محافظة الشرقية لإنتاج الغاز الحراري من قش الأرز، ومصانع أخرى في محافظات الدقهلية والمنوفية لتحويل قش الأرز إلى بدائل آمنة للتربة الزراعية ومصدر للسماد العضوي، كما شجعت الدولة القطاع الخاص على جمع وكبس مخلفات الأرز عبر توفير معدات الكبس بإيجارات رمزية، وأماكن مناسبة للجمع والتخزين".
هل أثمرت جهود الحكومة؟
ساهمت حملات التوعية بتشجيع المزارعين على كبس القش وفرمه لتقديمه كعلف للحيوانات وسماد عضوي للتربة، أو بيعه للشركات الخاصة وتحقيق ربح منه، وبعد قرابة عشرين عاماً من الجهود المتراكمة انحصرت ظاهرة السحابة السوداء بشكل كبير، وأعلنت وزيرة البيئة المصرية السيطرة على نسبة كبيرة من مصادر تلوث الهواء الناتج عن حرق المخلفات الزراعية، وفي العام الفائت، أشارت الوزيرة إلى أن نسبة جمع القش من المزارعين تجاوزت 86% من إجمالي القش الناتج عن الحصاد.
في قرية شبرا بابل مركز المحلة الكبرى في محافظة الغربية، التقى رصيف22 بأحد مزارعي الأرز، الذي حضر أكثر من دورة توعوية أقامتها وزارتا الزراعة والبيئة في مقر الجمعية الزراعية في البلدة للتعامل مع قضية حريق مخلفات الأرز.
وبسؤاله عن مدى تجاوب المزارعين، قال شريف حرب أن ظاهرة حريق قش الأرز بدأت في التلاشي، بعدما استجابت الغالبية العظمى من المزارعين لخطة الحكومة، مشيراً إلى أنه اعتاد منذ أربع سنوات على تسليم قش الأرز لشركة خاصة لقاء خمسين جنيهاً للطن، فتأتي الشركة بمعداتها إلى حقله لكبس القش قبل نقله لأماكن التخزين، وقد تشجع على ذلك بعد أن دفع 5000 جنيهاً عام 2018 كغرامة مالية بعد محضر حريق في أرضه، مضيفاً: "قيمة الحافز ضئيلة للغاية، ولكن عقوبة الحرق رادعة، وقد تأخذ كل مكسب الفلاح في موسم الأرز".
ويقول المزارع لرصيف22 إن الحكومة وفرت العديد من مراكز جمع وتخزين المخلفات الزراعية في معظم مراكز زراعة الأرز، كما شجعت المزارعين خلال دوراتها الإرشادية على إعادة تدوير قش الأرز، عن طريق فرمه بطرق بسيطة وإضافة بعض المواد الكيميائية واستخدامه كعلف للحيوانات وسماد عضوي للتربة، منوهاً إلى أن فئة من المزارعين يفضلون إعادة استخدامه لعدم توافر مقابل مادي مجزٍ لقاء تسليمه.
أدت السحابة السوداء إلى زيادة معدل التلوث بمقدار عشرة أضعاف تقريباً، وظهرت آثار ذلك على الأطفال وكبار السن ومرضى حساسية الصدر، وشملت الأعراض ضيق التنفس والتهاب الشعب الهوائية وحدقة العين، وتشنجات الجهاز العصبي، بالإضافة إلى تسجيل عدد ضخم من النوبات القلبية
متي تنتهي الظاهرة تماماً؟
يرى الخبير الزراعي وأستاذ إدارة الأراضي في كلية الزراعة في جامعة الزقازيق الدكتور شريف العاصي، بأن ضعف الحافز المادي الذي تقدمه الحكومة المصرية للمزارعين نظير جمع قش الأرز، لا يمثل عاملاً مشجعاً لكي يسلم الفلاح مخلفات أرضه الزراعية، ويطالب بأن يكون الحد الأدنى للحافز 200 جنيه مقابل الطن، في ظل تزايد أسعار الأسمدة والبذور والمبيدات.
كما شدد العاصي في حديثه لرصيف22 على ضرورة المضي قدماً في توطين صناعات التدوير الأمثل للمخلفات الزراعية، من أجل القضاء التام على تلك الظاهرة الخطرة، إذ أن تطوير عملية إعادة الاستخدام سيعود بالنفع على المزارع باعتباره المصدر الرئيسي للمنتج، وفي ظل تنوع استخدامات المخلفات الزراعية ضمن صناعات متعددة وكثرة الطلب عليها، سيجد الفلاح مقابلاً مادياً مناسباً لبيع مخلفات أرضه لأصحاب المصانع، وسيساهم ذلك في الحد من سياسة الحافز الحكومي الذي يكلف خزينة الدولة ما يمكن توفيره.
بين طموحات ورؤى الخبراء، وجهود الحكومة، واستجابة المزارعين، لا يزال المصريون بانتظار الإعلان النهائي عن التخلص من واحدة من أكبر الكوارث البيئية في بلدهم، واستمرار الالتزام بكل الخطوات الوقائية المتخذة منعاً لعودة الظاهرة من جديد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 9 ساعاترائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.