لطالما كان الاحتكاك بين الشرق والغرب، صدامياً، أوجده سوء الفهم من كلا الطرفين، ونادرة هي محاولات إذابة الجليد. وكان الاستشراق من هذه المحاولات، إلا أنه ارتبط لفترة طويلة بالاحتلال، لذا، يصفه البعض بأنه "عامل وذريعة أخلاقية للاستعمار".
يُعرّف إدوارد سعيد الاستشراق في كتابه الذي يحمل الاسم نفسه، بأنه أداة يعتمدها الغربي: "في وضع إستراتيجيته (إبراز التفوق)، بأسلوب يتّسم بالاتساق، ومعناه وضع الغربي في سلسلة كاملة من العلاقات التي يُمكن أن تنشأ مع الشرق بحيث تكون له اليد العُليا في كل علاقة منها".
ولفترة طويلة، في الدراسات الاستشراقية، عومل الإسلام على أنه ممثل للشرق، والمسيحية ممثلة الغرب، وما بين الشرق والغرب صولات وجولات، فكما يقول صاحب "صدام الحضارات"، صامويل هنتنغتون: "العلاقات بين الإسلام والمسيحية كانت عاصفةً غالباً، كلاهما كان 'الآخر' بالنسبة للآخر". وبما أن المسلمين هم المُنافس الأول -بتعبير برنارد لويس- للغرب، لذا كان للأوروبيين تصوّر عن نبي المسلمين محمد، أو "ماهوميت" كما كانوا يسمونه، ويختلف هذا حسب المرحلة السياسية.
ولكن من أين نبدأ؟
لفترة طويلة، في الدراسات الاستشراقية، عومل الإسلام على أنه ممثل للشرق، والمسيحية ممثلة الغرب، وما بين الشرق والغرب صولات وجولات.
هكذا أراد الله
لا يُعرف تحديداً متى ظهر أول نصٍ أوروبي عن المسلمين، ولكن هناك من يرى أن أول نص كان إبان الصدام بين شارلمان والدولة الأموية في الأندلس، وهو أنشودة "رولان"، وهي ملحمة شعبية بصيغ شعرية، تصوّر المسلمين على أنهم وحوش ضارية، ناعتةً إياهم بالمحمديين (وهو اللفظ الذي سيصاحبهم إلى بواكير عصر النهضة)؛ لأنهم يعبدون محمداً بجانب أبولو الإله الإغريقي، كما يسمحون بتعدد الأزواج، لا الزوجات!
ستصاحب تلك الصورة النمطية فلاسفة وشعراء أوروبا، بالأخص، مع سقوط آخر معاقل المسلمين في الأندلس، غرناطة عام 1492 م، ثم ستعود تلك الصورة إلى الواجهة زمن الحروب الدائرة رحاها بين أوروبا المسيحية وتركيا الإسلامية.
في كتابه المنشور عام 2019، والمعنون بـ"وجوه محمد"، يسرد الباحث الأكاديمي الفرنسي جون تولان، في تسعة فصول، تطور النظرة الأوروبية الغربية إلى النبي محمد والشرق؛ مِن معبود، ودجال ومخادع، إلى مُصلح اجتماعي وثوري. وكلها رؤى مرهونة بالصراع بين الشرق والغرب.
ذلك الصراع خلق صوراً نمطيةً عن الشرق، تجلّت في الحروب الصليبية التي أطلق صرختها بطرس الناسك؛ ففي كتابه "حقائق عن التبشير"، يسرد عماد شرف صرخة بطرس الناسك: "هكذا أراد الله"، وتكوينه لجيش من الصعاليك غير منظم، كنواة للحروب الصليبية: "ثم وقف أوربان الثاني يرددها مرةً ومرةً، ويُعلن بعد ذلك في المجتمعين أنها أصبحت شعار الصليبيين، قائلاً: لتكن هذه العبارة التي أوحى بها الروح القُدس صرختكم للحرب من الآن... وليكن الصليب رمز خلودكم... فاحملوا الصليب على صدوركم وليكن لونه لون الدم". وكانت وجهة الحملات الصليبية دوماً نحو الشرق، حيث يعيث المسلمون فيه فساداً، ويبولون على قبر المسيح، كما ادّعى الصارخ بطرس الناسك.
ومع الوقت زحفت تلك الحملات نحو الأندلس، تحت اسم "حروب الاسترداد"، فحدث تأزمٌ حضاري، بسقوط واحدة من أهم الحواضر الإنسانية، والتي علّق عليها الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه في كتابه "العلم المرح": "لقد حرمتنا المسيحية من جني ثمار الحضارات العتيقة، وفي ما بعد حرمتنا مرةً أُخرى من جني ثمار الحضارة الإسلامية".
لا يُعرف تحديداً متى ظهر أول نصٍ أوروبي عن المسلمين، ولكن هناك من يرى أن أول نص كان إبان الصدام بين شارلمان والدولة الأموية في الأندلس، وهو أنشودة "رولان"، وهي ملحمة شعبية بصيغ شعرية، تصوّر المسلمين على أنهم وحوش ضارية، ناعتةً إياهم بالمحمديين (وهو اللفظ الذي سيصاحبهم إلى بواكير عصر النهضة)؛ لأنهم يعبدون محمداً بجانب أبولو الإله الإغريقي، كما يسمحون بتعدد الأزواج، لا الزوجات!
يضع القمر في كمّه
ولعل أشهر ما وقع فيه الأوروبيون في العصور الوسطى وبدايات عصر النهضة من مغالطات منطقية، مُغالطة رجل القش، وتعني رسم شخصية كاريكاتورية موازية للشخصية الحقيقية، ثم تُخلَع على تلك الرسمة الكاريكاتورية كل العيوب والنقائص المنوطة بها، وهذا عين ما فعله فولتير، الفيلسوف الفرنسي الذي يدّعي بعض المسلمين، أنه بدأ حياته ناقداً للإسلام، وما لبث أن مدحه في كتابه الأخير "قاموس فولتير الفلسفي": "أقولها لكم مرةً أُخرى: أيها الحمقى المتخلفون عقلياً الذين جعلكم بعض الجهلة تُصدّقون أن الدين المُحمدي شهواني وحسّي، ما من كلمة صدق في ذلك".
وبرغم أنه في الكتاب نفسه، وفي فصل آخر، يصف النبي محمد بالدجال: "أوشك محمد على الفشل عشرين مرةً، لكنه نجح في النهاية مع عرب المدينة، وصدّق الناس أنه كان صديقاً حميماً للملاك جبريل. إن ذهب امرؤ اليوم إلى القسطنطينية ليُعلن أنه المُفضل لدى الملاك الرئيس رفائيل، الأعلى مكانةً من جبريل، وأنه وحده من يجب أن يؤمنوا به، فسيعدموه على الخازوق في مكانٍ عام. على الدجالين، إذاً، أن يختاروا وقتهم بعناية شديدة".
ويصفه تارةً أخرى بالمحتال وقاطع الطريق، إذ اندهش من إعجاب الناس بالإسكندر وقيصر و"بمحمد، المُحتال، قاطع الطريق، ولكنه المُشرّع الديني الوحيد الذي كان يتمتع بالشجاعة وأسس إمبراطورية عظيمة".
هذا فضلاً عن بعض المغالطات والتناقضات التي وقع فولتير فيها، حينما سخر من عقلية المحمديين (المسلمين) ظانّاً أنهم يؤمنون بأن محمداً وضع القمر في كمّه!!
وفولتير لم يكن الأول ولا الأخير، فقد كان ضمن سياق تاريخي مُؤجج بسوء الفهم، إذ ينقل الكاتب محمد حسين هيكل في كتابه "حياة محمد"، عن إميل درمنجم، أنه قال: "لما نشبت الحرب بين الإسلام والمسيحية، اتسعت هوة الخلاف وسوء الفهم بطبيعة الحال، وازدادت الحدة، ويجب أن نعترف بأن الغربيين كانوا السابقين إلى أشد الخلاف؛ فمِن البيزنطيين من أوقروا للإسلام احتقاراً من غير أن يُكلّفوا أنفسهم مؤونة دراسته".
وعن سوء الفهم وسببه، يُرجح سعيد في تحفته "الاستشراق"، أنه كان سياسياً بحتاً: "ولَمَا كان الإسلام ينتمي في نظرهم دائماً إلى الشرق، أصبح مصيره الخاص داخل هيكل الاستشراق العام هو أن ينظروا إليه في أول الأمر كما لو كان وحدةً متجانسةً جامدةً، ثم ينظروا إليه بعد ذلك بمشاعر بالغة الخصوصية من العداء والخوف معاً".
احتقار "درمنجم"، وخوف "سعيد"، يبرزان بين الفينة والأُخرى؛ ففي كتابه "مصر الحديثة"، يتحدث المعتمد البريطاني، اللورد كرومر، بنبرة استعلاءٍ واستحقار للشرق والمسلمين قائلاً: "إن الجحود وقلة الاعتراف بالجميل من قِبل شعب ما تجاه منقذيه الأجانب قديم قِدم التاريخ نفسه، وأياً كان الحصاد الأخلاقي الذي قد نجنيه، يظل لزاماً علينا أن نؤدي واجبنا، وواجبنا كما قال بولس الرسول هو ألا نتعب من فعل الخير".
وأما عن الخوف، فيقول المستشرق اليميني برنارد لويس: "لمدة ما يقرب من ألف سنة، منذ أول رسو موريسكي في إسبانيا، وحتى الحصار التركي الثاني لفيينا، كانت أوروبا تحت تهديد مستمر من الإسلام".
لعل أشهر ما وقع فيه الأوروبيون في العصور الوسطى وبدايات عصر النهضة من مغالطات منطقية، مُغالطة رجل القش، وتعني رسم شخصية كاريكاتورية موازية للشخصية الحقيقية، ثم تُخلَع على تلك الرسمة الكاريكاتورية كل العيوب والنقائص المنوطة بها، وهذا عين ما فعله الفيلسوف الفرنسي فولتير
أنتم أسوأ من النبي العربي
لطالما كان التشبيه بالنبي محمد وصمة عار وإهانة كبيرة في الغرب، فحتى بدايات القرن العشرين كان الصراع السياسي والمذهبي بين الكاثوليك والبروتستانت يوظف النبي محمد على سبيل السخرية والتقليل من الآخر؛ ففي مقال بحثي له بعنوان "جذور النمطية للمسلمين في العقل الأمريكي"، يحكي لنا محمد الشنقطي، عن مهاجمة جون كوينسي آدمز للرئيس الأمريكي توماس جيفرسون، واصفاً إياه بـ"النبي العربي"، كما نعت القس المعمداني روجر ويليامز، قساً آخر، بـ"محمد جديد".
وفي أوروبا لم يختلف الحال كثيراً، إذ يحكي جون تولان في كتابه "وجوه محمد"، عن الصراع الكاثوليكي البروتستانتي، وكيف ساوى الكاثوليك بين البروتستانت ومحمد في كفة واحدة؛ ففي القرن السادس عشر برع رسامو الكنيسة الكاثوليكية في فن المكايدة، فأظهروا "ماهوميت" ومارتن لوثر في لوحاتهم، ولكن، كزنديقَين، مهرطقَين. وبرغم اعترافهما بطهارة مريم أم المسيح، إلا أن الكاثوليك لم يغفروا ذلك، فأظهروهما في إحدى اللوحات في قاع الأرض تحت أقدام المسيحيين المُخلصين الذين يتطلعون إلى العذراء.
فمثلما توهم فولتير أن محمداً وضع القمر في كمّه، تطرفت تلك الصور النمطية إلى حد ادعاء رسامي الكنيسة -دون بحث- أن محمداً مات في نوبة سُكر، وأكلت من لحمه الخنازير، لذا، حرّم المسلمون أكل الخنزير!
والسؤال: من أين كان يستمد الأوروبيون مصادرهم عن الإسلام والشرق؟
يُتابع تولان أن تلك الصور النمطية ظلت حاضرةً وبقوة، لا يُخالف تيارها أحد، نتيجة الاستشراق المُسيّس، إلا في حالات نادرة، كالمُستشرق الألماني إبراهام جيجر (1810 م-1874 م)، وتلميذه المستشرق جوستاف فايل (1808 م-1889 م)، اللذين اتفقا على كون "محمد ليس بدجال، بل مُصلح صادق"، ومستشرق ثالث شاركهما الرأي وهو إسحاق جولدزيهر (1850 م-1921 م). واللافت أن الثلاثة كانوا يهوداً، أُعجبوا بالنمط العمراني في مدينة بودابست المجرية، وتشابهه مع النمط العربي الأموي، ولكن مع الأسف، هُدم أغلبه على يد النازيين، كما يقول تولان.
وكما كان اسم محمد، يُشكل وصمة عار عند البعض، إلا أن آخرين رأوا فيه مدحاً، كالفرنسي فكتور هوغو الذي وصف نابليون بونابرت قائلاً: "كأنه محمد أتى من الغرب"، وكان نابليون، حسب كتاب جون تولان، يرى نفسه محمداً جديداً.
كما كان اسم محمد، يُشكل وصمة عار عند البعض، إلا أن آخرين رأوا فيه مدحاً، كالفرنسي فكتور هوغو الذي وصف نابليون بونابرت قائلاً: "كأنه محمد أتى من الغرب"، وكان نابليون، حسب كتاب جون تولان، يرى نفسه محمداً جديداً
ففي القرن التاسع عشر، بدأت تظهر أصوات حيادية قليلة بين بعض المُستشرقين، ولكنها لا تلبث أن تخفت إذعاناً لسياسات المُستعمر. ومن الأصوات الحيادية ذات الطابع الفني، لوحة تُظهر النبي العربي كإنسان تُحيطه هالة مُقدسة والملاك جبريل يهمس في أذنه. لكنها تُظهره أسود!
و وبرغم بشائر الحيادية، إلا أن التعصب كان الأوضح، ويظهر ذلك في كتاب "الأطهار في الغُربة"، للكاتب الأمريكي مارك توين؛ إذ أبرز الكتاب تعصبه تجاه العرب والمسلمين. ففي زيارته لفلسطين عام 1867 م، رأى في القدس عموداً فخارياً، ظنَّ أن المسلمين يحسبون النبي محمد سيحكم بينهم يوم القيامة جالساً عليه، فقال: "ليته حَكم عليهم من أحد الأماكن في موطنه مكة، ولم يتجاوز الحدود إلى أرضنا المُقدسة".
الجملة الأخيرة "أرضنا المُقدسة"، تُظهر تحيّز البعض ضد كل ما هو شرقي؛ فلقرون عديدة كان المُستشرقون يتناولون المسيح، كرجل أوروبي لا شرقي، بغض النظر عن أصله الفلسطيني. لذا، لا عجب أن تنتشر صورة الرجل الأوروبي الأشقر ذي العينين الزرقاوين، وتُنسب إلى يسوع. فأن يكون المسيح أسمر، أسود العينين والشعر، غير مقبول؛ إذ يكتسب المسيح قدسيته -حسب رؤية الرجل الأبيض- بانتساب الغرب إليه!
أخيراً، تلك الصور النمطية كان رواتها هم المستشرقون "فالذي يفعله المُستشرق هو تأكيد صحة صورة الشرق في عيون قرّائه، فهو لا يريد زعزعة المُعتقدات التي رسخت جذورها وثبتت من قبل"، كما يقول سعيد.
وبرغم تلك الصور، إلا أن هناك العديد من الدراسات الحيادية والعقلانية، التي أجريت على فترات متفاوتة، مثل كتاب "حضارة العرب" لغوستاف لوبون، وكتاب "وجوه محمد" لجون تولان، والذي لم يُترجم بعد. ولكن برغم ذلك تعود أحياناً بعض صور العصور الوسطى النمطية، في تصرفات صبيانية، كحرق نسخٍ من المصحف، أو رسم كاريكاتور مُستفز لشخصية محمد أو "ماهوميت"، أو فيلم مُسيء كـ"براءة المسلمين"، الذي لاقى هجوماً كبيراً من مثقفي الغرب، وعلى رأسهم سلمان رشدي نفسه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...