"الإسلام وخلق الهوية الأوروبية"، يبدو عنواناً مغايراً لأحد أهم أبحاث الكاتب والمؤرخ السلوفيني توماش ماستناك، لربطه بين هويتين متصارعتين، من ناحية ومن ناحية أخرى، كونه، يضع الأولى "الإسلامية"، في موقع الفاعل.
وربما يبدو هذا العنوان مستهجناً، ومثيراً للسخرية بالنسبة لأولئك الذين ينظرون بإجلال للهوية الأوروبية، ويرونها ثابتة منذ الأزل؛ صيغت وتشكلت من تلقاء نفسها بمعزل عن الثقافات والهويات الأخرى، والحروب العسكرية، بالأحرى الحروب الصليبية، التي كانت تجربة حاسمة في تكوين ما أصبح يُطلق عليه "أوروبا".
أما توماش ماستناك (أستاذ العلوم السياسية بجامعة سلوفينيا)، فقد كان جسوراً، ومثابراً في بحثه هذا، فهو كباحث مخضرم، أدرك أنه يعمل ويفكر ويبحث في منطقة شائكة، ومن ثم استعان بوثائق وكتابات تاريخية لمنظري "حركة السلم"، و"هدنة الرب" من باباوات الكنيسة، وكذلك مفكري العصر الوسيط، كل ذلك متبوعاً بتحليلاته التي استخدم فيها الكثير من المناهج البحثية، للوصول إلى نتيجة مفادها أن الإسلام كان له دور محوري في تشكيل الهوية الأوروبية، وما يزال كذلك بالنسبة للحفاظ عليها.
تطورت حركة السلم التي تتصرف باسم الرب إلى حروب صليبية ضد المسلمين، فكان منتصف القرن الحادي عشر نقطة الانطلاق لحرب متصلة ضد الإسلام في البحر المتوسط
هذا البحث الشائك لماستناك، صدر في حقبة التسعينيات في كُتيب صغير عن دار النيل للطباعة بالإسكندرية، ومن اللافت أنه لا توجد نسخة أجنبية منه، حيث ترجمه مباشرة إلى العربية المترجم المصري الراحل بشير السباعي، أثناء الفترة التي قضاها ماستناك في مصر، إذ كان يُدَرِس بالجامعة الأمريكية بالقاهرة. وبعد عدة سنوات تطور الكُتيب الصغير إلى كتاب ضخم، صدرت نسخته العربية عن المركز القومي للترجمة بعنوان "السلام الصليبي"، ترجمة بشير السباعي أيضاً.
يبدأ توماش بحثه، بدحضه لعبارة أحد أهم المؤرخين الأوروبيين هنري بيرين، فقد وصف بيرين توسعَ المسلمين في القرنين السابع والثامن بأنه "عدوان هدد أوروبا من جانبين؛ الناحية العسكرية، وكذلك هويتها". أما ماستناك من جانبه فقد رأى أن "هذا الكلام مغلوط وسافر، فأوروبا لم تكن موجودة في تلك الفترة، وكان ما يزال يتعين تشكيل هويتها، وربما كانت أوروبا شخصية من الميثولوجيا الإغريقية وفكرة جغرافية غامضة".
ومن هذا الجدل والنقاش الفكري بين توماش وبيرين، نصل إلى أن أوروبا لم تتشكل جغرافياً أو هويتياً، نتيجة للغزو العالمي (المسلم)، لأنها ببساطة لم تكن موجودة. ثم يُلاحقنا الباحث بقوله "إن تشكيل أوروبا بدأ بالحرب المقدسة (الحروب الصليبية)، التي خاضها المسيحيون اللاتينيون ضد المسلمين بعد ذلك بأربعة قرون. فهذه الحروب كان لها أثر عميق على الأفكار والمؤسسات الغربية وهياكل السلطة". لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن: كيف كان الإسلام محورياً في تشكيل أوروبا؟
جاء "السلم" -هذه العملية التي عادة ما تتشكل من جحيم الحرب، وتكون مخضبة بالدماء-، ككلمة السرّ في بحث ماستناك، لكنها ليست كلمة مشفرة، فتحقيق السلم بين الجماعة المسيحية وتحقيق الوحدة الأوروبية، كانا الهم الرئيسي لدى السياسيين والمفكرين والباباوات وفي ما بعد قادة الحكم، غير أن هذا الطموح السياسي، كان مستحيلاً في تلك الفترة دون البحث عن مخرج؛ فثمة حروب داخلية كانت دائرة بين الجماعات المسيحية، من شأنها أن تعرقل عمليتي السلم والوحدة، وهنا توصل الساسة والمفكرون ورجال الكنيسة إلى أن المخرج هو توجيه وتسريب هذا العنف الدامي بين المسيحيين إلى الخارج، بالأحرى إلى عدو خارجي، وتم الاتفاق على اختيار المسلمين كعدوّ، لا بد من مقاتلته والقضاء عليه، ومن هنا خرجت فكرة الحروب الصليبية من رحم عمليات السلم المسمومة والمسماة بـ"هدنة الرب".
أوروبا لم تتشكل جغرافياً أو هويتياً، نتيجة للغزو العالمي (المسلم)، لأنها ببساطة لم تكن موجودة.
هنا علينا أن نعود إلى ما يقوله توماش نصاً:"إن السلم والوحدة الأوربيين، كانا مرتبطين ارتباطاً حميماً بالحرب ضد أولئك الذين كان يُنظر إليهم على أنهم يُهددون تلك الوحدة. ضد أعداء في الداخل وفي الخارج، وقد جرى جعل المسلمين (العدو)، من بين جميع الأعداء الممكنين، وجرى على نحو سافر، اعتبار الحرب ضدهم، مخرجاً للعنف الذي كان من شأنه لولا ذلك أن يجتاح الجماعة المسيحية وأوروبا".
وعبر عمليات السلم والحملات الصليبية، تم صوغ هياكل سلطة محورية في شبه القارة الأوروبية، وكذلك صياغة العلاقات بين السلطات التي كانت قائمة آنذاك "الملكية البابوية والممالك الزمنية"، وخلال صياغة العلاقات بين هذه الكيانات، تم صياغة الكيانات نفسها التي لم يكن لها شكلاً مؤسسياً في ذلك الوقت. وظهرت الحروب الصليبية بوصفها "الاتحاد الغربي الأول"، وظهر "خلق جيش صليبي" بوصفه علامةً على تقدّمٍ مثير نحو "السلم والوحدة الأوروبيين".
التاريخ الذي يرويه ماستناك، إنما يبدأ بصنع "السلم"، الذي أقيم على حساب العدو "المسلم"، بالأحرى عن طريق شنّ الحروب ضده. ويتتبع الباحث مسيرة السلم هذه، عبر استعراضه وتحليله للكثير من مشروعات الوحدة الأوروبية، وبالتوازي مع ذلك، يُبرز كيف تشكلت وتطورت أوروبا جغرافياً وهوياتياً، في إطار علاقتها بالآخر المسلم، وكيف أصبح هناك عالم مسيحي وعالم غير مسيحي، وكذلك كيف كانت سياسة التطهير العرقي مكوناً أساسياً من مكونات مفهوم أوروبا منذ البداية.
ولنبدأ بحركة "سلام الرب"، وهي حركة دينية، كانت رسالتها تتمحور حول إقامة "النظام الذي شاء له الربُّ أن يسود". ظهرت في أواخر القرن العاشر وأوائل القرن الحادي عشر فيما يُعرف الآن بوسط فرنسا، وكانت تهدف إلى إنهاء الحرب والعنف الداخليين بين الجماعات المسيحية، وتوجيهه إلى الكفار (العدو المسلم)، وألحقت الكنيسة بنفسها محاربين، وظهرت أخلاق عسكرية مسيحية، ومن ثم جرى إضفاء الطابع المسيحي بشكل تدريجي على الحرب.
ومن هذه الحركة، صدرت القوانين المسيحية الجديدة وهي بحسب ماستناك: "لا يجوز لأيّ مسيحي أن يقتل مسيحياً آخر، لأن من يقتل مسيحياً إنما يريق بلا شك دم المسيح". ويرى الباحث أن هذا القانون كان بمثابة دعوة إلى العنف ضد الآخر، المختلف دينياً، ويضيف أن "الآخر أصبح محدداً ومعروفاً منذ تأسست هذه الحركة وهو العدوّ المسلم. وكان آنذاك تركياً. فقد كانت الجماعات المسيحية تنظر بحسرة إلى النجاحات العسكرية التي يحققها الأتراك ضد المسيحيين (اليونانيين)".
تطورت حركة السلم التي تتصرف باسم الرب إلى حروب صليبية ضد المسلمين، فقد كان منتصف القرن الحادي عشر نقطة الانطلاق لحرب متصلة ضد الإسلام في البحر المتوسط، ويوضح ماستناك أنه عبر هذه الحروب، تطورت المسيحية إلى جماعة، ومن خلال خلق عدو مشترك تتعين محاربته بالقوى الموحدة لجميع المسيحيين، أصبحت المسيحية جماعة واعية بنفسها ويضيف:"ما كان جديداً لم يكن هو أن عدواً قد جرى النظر إليه على أنه آخر، بل أن آخر محدداً قد جرى تصويره على أنه العدو".
بعد فترة زمنية أصبح هناك وعي بأن كياناً جماعياً جديداً يُسمى "أوروبا"، آخذاً في الظهور وأن هويته بحاجة إلى التعبير عنها، ومن ثم تم الشحن المتزايد لفكرة أوروبا في القرنين "الرابع عشر والخامس عشر"، وأصبح محتوى هذه الكلمة عاطفياً. وبدأت فكرة أوروبا تعمل كحامل للوعي السياسي الغربي المشترك، وقد جرى التعبير عن هذا الوعي في مواجهة "الخطر التركي". وجغرافياً حُددت الأرض الأوروبية بدقة، وتم ربط هذه الوحدة الجغرافية بالمسيحية، وفي فصلها عنها في الوقت نفسه، ويوضح ماستناك:"كانت المسيحية تتطابق مع أوروبا وكانت أوروبا هي أرض المسيحية، وقد تشكل هذا التطابق على أساس خسارة أرض مسيحية في آسيا الصغرى. ولأن المسيحية كمفهوم لا تتطابق مع أوروبا، بمعنى أنها أوسع منها كونها ديانة عالمية، فقد أصبحت أوروبا المسيحية، كذلك مفهوماً عالمياً".
هذا الالتقاء المهيب الذي لا يمكن فيه التوفيق بين عالمية مسيحية وجغرافية أوروبا المحدودة، هو ما حفز وعي أوروبا بذاتها، ليس فقط ككيان تطور على أساس هويته الدينية إلى مجال ثقافي، بل حفزها تجاه عمليات التوسع العسكري"إن العالمية المسيحية المتضمنة في أوروبا، كانت إحدى مصادر التوسع الأوروبي". لكن الخطر التركي كان عائقاً أمام أوروبا في تحقيق طموحاتها العسكرية، وليس ذلك فحسب، بل كان مهدداً لها في عقر دارها، وقد رأى المفكر ورجل الدين بيكولوميني بأن الاختراقات التركية في أوروبا آنذاك هي في الوقت نفسه هجوم على الدين المسيحي، ونبّه الأوروبيين "ما لم نحمل السلاح ونخرج لملاقاة العدو، فإننا نرى أن الدين سوف يزول. إننا سوف نصبح بين الأتراك في الوضع الذي نجد فيه جنس اليهود المحتقر بين المسيحيين". ويرى ماستناك أن بيكولوميني بهذا التحريض قد أفصح عن القاعدة الذهبية لأوروبا الجديدة وهي "لا تسمحوا للآخرين بمعاملتنا بالشكل الذي نعامل به الآخرين".
يقول أستاذ العلوم السياسية توماش: "إن السلم والوحدة الأوربيين، كانا مرتبطين ارتباطاً حميماً بالحرب ضد أولئك الذين كان يُنظر إليهم على أنهم يُهددون تلك الوحدة. ضد أعداء في الداخل وفي الخارج، وقد جرى جعل المسلمين (العدوّ)، من بين جميع الأعداء الممكنين"
بعد أن تم انتخاب بيكولوميني بابا، عقد مؤتمراً، يدعو فيه إلى الاستعداد لحملة صليبية جديدة، لكن المؤتمر قد فشل، إلا أنه "البابا"، نجح في صوغ إستراتيجية جديدة تتمحور حول طرد التركي من أوروبا، وعن طريق هذه الإستراتيجية، بحسب الباحث، "سوف تخرج أوروبا إلى الوجود، وسوف تكون قادرة على تشكيل نفسها. إن الحرب المقدسة هي المبدأ التكويني الدينامي لأوروبا".
لم تنجح طموحات الساسة والمفكرين الغربيين في تأسيس أوروبا موحدة، وما حدث هو أوروبا تتكون من دول مستقلة ذات سيادة، لكن الفكرة الصليبية والخطر التركي، ظلتا مستحوذتين على العقلية الغربية. حتى أن الإنسانيين الأوروبيين الذين كفوا عن الدعوة إلى تحويل شفرات المحاريث إلى سيوف، لم تخلُ خطاباتهم - بحسب توماش- من الأفكار الصليبية القديمة.
ويختتم المؤرخ السلوفيني بحثه بموقف الرمز الأبرز للتنوير، فولتير، مما سُمي بالخطر التركي الإسلامي، حيث وصفه بالموقف الرجعي والمتطرف. يقول: "لقد تمنى فولتير إبادة الأتراك واعتبرهم أكبر لعنة حلت بالأرض إلى جانب الطاعون. وأعرب عن أسفه العميق لأن الدولة المسيحية، بدلاً من أن تُدمر العدو المشترك، منشغلة بتدمير إحداها الأخرى. كما أفضى للقيصرة كاترين الثانية: انتصري على الأتراك وسوف أموت مرتاحاً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...