شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
خالع بصل يدير مقهىً ثقافياً... أشغال قمت بتجريبها

خالع بصل يدير مقهىً ثقافياً... أشغال قمت بتجريبها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الأربعاء 4 أكتوبر 202311:27 ص

أول عمل حقيقي، ومقابل أجرة، قمت به، كان في السادسة عشرة من عمري، وهو "عامل بناء" في مستوطنة أريئيل، قرب مدينة سلفيت. كانت سلفيت في تلك الأيام قرية صغيرة، وكانت أريئيل مستوطنة صغيرة. وأنا كنت صغيراً من عائلة كبيرة لا يستطيع شخص واحد، وهو أبي، إطعامها منفرداً. كان عليّ أن أعمل في العطلة الصيفية، لا لأساعد أبي في مصروف البيت، بل لأخفّف عنه مصروفي الشخصي، كشاب مراهق بدأ بالتدخين وبالتعرّف على البيرة كمشروب له مضار أفضل من مضار البيبسي.

كانت سيارة المقاول تتوقف أمام بيتنا في الخامسة صباحاً، وعليّ في هذا الوقت أن أكون قد صحوت وارتديت ملابس العمل، وجهزت زوّادتي ومطرة الماء. كنت أستقلّ السيارة مع خمسة رجال يتمتعون ببنى جسدية قوية، تستطيع رفع كيس الإسمنت ونقله عشرات الأمتار دون تأفف، بينما أتمتع أنا ببنية أقل ما يقال فيها إنها بائسة وضئيلة، ولا تصلح للعمل الشاق ولا لغير الشاق.

حاولت أن أتأقلم في اليوم الأول واليوم الثاني، ثم حاولت أن أتفلّت، قدر الإمكان، من المهام الصعبة، لكن المقاول كان له رأي آخر، حيث دفع لي أجرتي عن أربعة أيام عمل وطردني.

حين سألني أحد الموظفين: "ماذا أناديك؟"، صفنت مطولاً وأجبت: "خالع بصل، أو المشرف الطبي للمصنع، أو إذا بدك كلمة واحدة، ناديني سيزيف"
لم أقل لأمي إنني طُردت بسبب عدم قدرتي على حمل دلو الإسمنت، بل ألّفت قصة عن الكرامة الشخصية التي لا تسمح لطالب مجتهد مثلي أن يعمل في البناء، وعن الكرامة الوطنية التي تأبى لي بأن أكون في مكان كهذا. لم تجب إمي بأكثر من: "ريتك تغور إنت والكرامة اللي حاملها ومصدّق حالك".
المقاول أيضاً لم يسمح لقصتي أن تأخذ مجدها لأكثر من يوم وليلة، حيث أخبر أمي في اليوم التالي معتذراً بكلمات أنيقة: "يا خالتي سامحيني، إبنك ما بنفع لشي، والله حاولت ألاقيله شغل ع قدّه بس هو مش وجه شغل".
بعد سنة من هذه الحادثة، كانت أمي تنسى موضوع الكرامة، وتزغرد لابنها الذي نجح في الثانوية العامة وحصل على منحة لدراسة الطب. لكن حتى الحاصل على منحة دراسية يحتاج القليل من المال الإضافي لزوم تذاكر الطيران، إن قرر العودة لزيارة أهله، ولزوم الفودكا، إن قرر التغلّب على البرد بمشروب أقل ضرراً من الزمهرير الأوروبي، ولزوم الحب، إن قرّر التسريع في إتقان لغة البلد بعيداً عن صالة التدريس، وقريباً من صالة المطعم.
لم أكن أملك هذا المال بالطبع، فقرّرت البقاء في بلد الدراسة خلال العطل الصيفية، والبحث عن عمل.
في صيف السنة الأولى، أخذنا القطار بعيداً عن العاصمة، وتحديداً إلى قرية قريبة من البحر الأسود. هناك تم إسكاننا في مدرسة مهجورة تُستخدم كمعسكر للتدريب، ومع فجر اليوم التالي ركبنا الحافلة التي أوصلتنا إلى سهل له أول وليس له آخر.
كانت مهمتنا هي اقتلاع البصل من التربة السهلية الهشة، وتنظيفه ووضعه في صناديق. أربعون يوماً لم نفعل إلا اقتلاع رؤوس البصل، ولم نشم إلا رائحة البصل، ولم نحلم إلا بالبصل.
في صيف السنة الثانية، ذهبت مع زملاء العمل، من الطلاب الفلسطينيين والتشيكيين والكوبيين، إلى العمل في ورشة إنشاء سدّ قريب من الحدود البلغارية اليونانية. شاحنات ضخمة تأتي بصخور ضخمة، وتفرغ حمولتها على طرف السد، ومهمتنا هي دفع هذه الصخور ودحرجتها من الحافة العليا إلى الماء في الأسفل، من أجل زيادة القوة للجدار في مقاومة ضغط الماء.

شهران كاملان ونحن نكمل مهمة سيزيف في دفع الصخرة. الفارق الأول بيننا وبينه هو أننا لم نخدع إله الموت ثانتوس ليعاقبنا بهذا التكرار العبثي، والفارق الثاني هو أننا ندفع إلى الأسفل لا إلى الأعلى.

في السنة التالية ساقني الحظ إلى العمل في مصنع لمعلّبات ربّ البندورة، وبينما أنا أحمل صندوقاً تلو آخر وأفرغه في الخزان الكبير على أول المصنع، وإذا بامرأة في الثمانين من عمرها، توقفني وتسأل: "أنت طبيب؟". أجبت: "ليس بالضبط، فبيني وبين هذه المهنة ثلاث سنوات إضافية". قالت: "أقصد أنك تدرس الطب، هل تستطيع استخدام وفهم الميكروسكوب؟"، وعندما أجبت بالإيجاب، أخذتني إلى غرفة المختبر في المصنع وعلمتني كيف أفحص العينات قبل إقرارها، ما الشوائب التي لا يجب أن تكون في العينة، وما هي البكتيريا التي لا يمكن قبول المنتج بوجودها. وهكذا اشتغلت مشرفاً طبياً لمصنع يصدّر منتجاته آنذاك إلى نصف دول الشرق الأوسط.
اشتغلت بعد ذلك في خطوط أنابيب الري الواصلة بين نهر الدانوب وسهول شمال بلغاريا، ثم في مصنع للبيرة في مدينة بورغاس على البحر الأسود، ثم في مصنع للمرتديلا في الجنوب. وكان آخر عمل قمت به هو فرش الموكيت في شقق المجمّع الذي كانت تستثمر فيه ابنة وزير الثقافة البلغاري في العهد الشيوعي، على أطراف العاصمة صوفيا.
صرت طبيباً بعد أن جربت كافة أنواع الأشغال الشاقة والخفيفة، المتعبة والممتعة، المجدية والعبثية. والطب كمهنة إنسانية نبيلة، وكمهنة مجدية مالياً واجتماعياً، تفتقر إلى عنصر مهم من عناصر السعادة، ألا وهو الحرية. لم أستطع طوال أكثر من ربع قرن من ممارسة الطب أن أكون سعيداً بين أربعة جدران. لا يمكن للسعادة أن تأتي مع أنين المرضى وشكاواهم، ولا يمكن للحرية أن تتحقق مع اللوائح الصارمة لما يجب أن يكون عليه شكل الطبيب وهندامه وكلامه.
أصحو كل يوم على هاتفي يرن من أحد الموظفين: "دكتور خلصت القهوة.. دكتور أنا اليوم بدي أغيب وأحمد بغطي مكاني.. دكتور ماكنة الإسبريسو بتنفّس.. دكتور سلمى عملت حادث ومش رح تداوم"، إلى آخره من هذا العقاب الإلهي اليومي

لذلك فقد بحثت بشكل محموم عن شيء آخر أفعله على هامش الطب. ذهبت لدراسة الأدب العربي (حلمي القديم) وتم قبولي فيما بعد للتدريس في أحد كليات رام الله، لكن الإدارة فصلتني بعد سنة بحجّة أنني أتحدث مع الطلاب عن الله كثيراً. الغريب أن الإدارة التي فصلتني تنتمي إلى فصيل ماركسي من الفصائل الفلسطينية.

بعد ذلك أسست مع صديق شركة للمطبوعات وإدارة الفعاليات، ونجحنا فعلاً إلى الحد الذي صار فيه نهاري مقسوماً بين العيادة، وبين توصيل مطبوعات إلى طولكرم في الشمال، أو ترويج سياحي لآثار بيزنطية في قرية الكرمل في أقصى جنوب فلسطين، أو ترتيب لقاء كرة قدم تعارفي بين قريتيّ الحديدية والتواني، قضاء الخليل.
لكنني في لحظة توق إلى التغيير والخروج من الملل تنازلت عن كل شيء؛ بعتُ العيادة والشركة، وافتتحت مقهى ثقافياً في العاصمة الأردنية عمان. كان الهدف أن أستريح من كل شيء وأن أتفرّغ للكتابة وجني المال السهل من الروائيين والشعراء. لكنني وجدت نفسي وقد علقت في دائرة من العبث الجديد المتمثل بتقييد أكبر للحرية، ولو كان مصحوباً بمال جيد.

أصحو كل يوم على هاتفي يرن من أحد الموظفين: "دكتور خلصت القهوة.. دكتور أنا اليوم بدي أغيب وأحمد بغطي مكاني.. دكتور ماكنة الإسبريسو بتنفّس.. دكتور سلمى عملت حادث ومش رح تداوم"، إلى آخره من هذا العقاب الإلهي اليومي. ومع كل مطالبة من موظف أحاول التأكيد عليه ألّا يناديني بكلمة دكتور، لأن هذا الوصف متبوعاً بماكنة منفّسة، لا يمكن فهمه من مستمع افتراضي. وحين سألني أحد الموظفين: "ماذا أناديك؟"، صفنت مطولاً وأجبت: "خالع بصل، أو المشرف الطبي للمصنع، أو إذا بدك كلمة واحدة، ناديني سيزيف".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

تنوّع منطقتنا مُدهش

لا ريب في أنّ التعددية الدينية والإثنية والجغرافية في منطقتنا العربية، والغرائب التي تكتنفها، قد أضفت عليها رومانسيةً مغريةً، مع ما يصاحبها من موجات "الاستشراق" والافتتان الغربي.

للأسف، قد سلبنا التطرف الديني والشقاق الأهلي رويداً رويداً، هذه الميزة، وأمسى تعدّدنا نقمةً. لكنّنا في رصيف22، نأمل أن نكون منبراً لكلّ المختلفين/ ات والخارجين/ ات عن القواعد السائدة.

Website by WhiteBeard
Popup Image