الموت: "المجهول المقلق، السارق علناً، الجرح الغائر الذي لا يضمده شيء. سكون لا تحركه العواصف، رحلة سرمدية يُجبر الإنسان عند لحظة إقلاعها بالزهد في الرغبات، ليسافر بلا حقيبة مكتظة بالمقتنيات. في غيب ساعته لمعنى الحياة، التي لو عرفناها لعشنا نترقبه وفاتتنا الأيام".
لما بدأت أعي ما الكون، أخذني أبي من يدي ليعرّفني على شكل الحياة التي سأعيش بين أيامها. آنذاك بدت لي خطوطها العريضة ودوائرها المحدودة، حيث هو وأمي وأشقائي الثلاثة الذي يكبُرني أصغرهم بـ 10 أعوام.
تلك الدائرة الصغرى يرأسها هو، الذي تمحورت حياته منذ أن رأيته بين العمل صباحاً بالوظيفة، وليلاً بـ"دكان" كان قد امتلكه لإعانته على المصاريف اليومية. وهكذا عاش أيامه في الأعياد والمناسبات، حتى بعد التقاعد من الوظيفة لم يتغير كثيراً، بات النهار للنوم والليل للـ "دكان".
هذا أبي، ثلاثة وسبعون عاماً، تقاعد في الرابعة والخمسين من وظيفته التي يعيش على معاشها الآن، والمقدرة بـ أربعة آلاف جنيه مصري شهرياً، يموت بصمت سيبيري
لا أذكر أنه ذهب في عطلة صيفية للترفيه عن نفسه ولم ترد الإجازة في قاموس حياته، ما جعله لا يرتبط بشيء بقدر ارتباطه بـ"الدكان" الذي لم يخل قط من البضاعة وصوت إذاعة القرآن الكريم من القاهرة، حيث صاحبني البنا والحصري والمنشاوي وشعيشع والمنشاوي وعمران والفشني ومصطفى إسماعيل وعبد الباسط عبد الصمد، ولم يتركوني أبداً وكأن أبي أوصاهم بي، فكلما سمعت أحداً منهم -بخلاف تغير المكان- تذكرت العظة الأبوية التي قد تبدو متناقضة في بعض الأحيان.
16 عاماً مرت من بعد تقاعده، وأنا أشاهد الحياة الأبوية الروتينية ‑التي مهما توالت عليها الأحداث من أخبار وظواهر كونية لا تتبدل‑ وكأنه أدرك في لحظة تفكّر أنه في الكون نطفة، فحاوطها بدائرة ولم يهتم بامتدادها، ولم يطمح، رغم الإمكان، في تكوين إمبراطورية يرثها الأبناء والأحفاد، فانعكست حياة "الدكان" على فكره الذي بات لا يتسع لمزيد من البضائع/ أحمال الحياة.
والإنسان حينما يكوّن فكرة عن الحياة، من غير السهل أن يتنازل عنها. إن ارتبط وتعلق بشيء وآمن به، عاش وفنى له عمره. كما أبي و"الدكان" من كادت لهما الأقدار المكيدة على يد الساسة الذين يديرون البلاد. ففي خضم القرارات التي لا تفقه سر العلاقات بين الإنسان والجماد التي يجرها القلم لتعبث بأيام الناس كأبي، الذي لا يطمح في يومه سوى أن يحمل عشاء مُهندماً لزوجته ونجله الصغير، وأن ينفث علبة السجائر كاملة دون تفريطها من البقالين، وأن يكون في يومه حرّاً، يعيش بداخله معاني الذهاب والعودة، جرى القلم بإزالة المنطقة لتطوير ظاهر الحياة وتدمير باطنها.
هُجّر الناس شيئاً فشيئاً، وتحولت الأماكن من الصخب والضجيج للسكون، وبقى الحال كما هو عليه لمدة 3 سنوات. لم تمنح الحكومة "عقاد ناقع" لأصحاب المحال، وظل أبي وفياً للجماد الحزين، يذهب للاطمئنان على دكانه الفارغ يومياً، يونسه لبضع ساعات قليلة ويعود للإفصاح عن شكواه إلينا، أنا ووالدتي.
طلب مني تكراراً الكتابة عن هذا الوضع كوني أعمل بالصحافة، وعلى حسب قوله: "الكلام المتشاف بيغير الحال". لكن كلامك يا أبي لن ينشر، ليس لأنه لا يرتقي، بل لأنه يخالف -لا المعايير الصحفية- أقصد، بل المعايير الديكتاتورية.
يأس أبي من الوفاء للجماد الفارغ والإنسان الذي يسمع الشكوى ولا يبالي، وبالوقت دخل في نوبة سكون خلقها فراغ الأيام. بدا وكأنه يستسلم لاختلال الفكرة التي آمن بها، كما لو أنه سيارة تعطلت فشلّت حركة الميدان. لا تفقه النفس قواعد الأقدار، ولا يجيب الكون على الأسئلة الشاذة، والعقل، كما خُلق، محدود التدبر، وها هو الحزن يسكت الأصوات المشبوهة ويقتل الرغبات، ويتركه في الخواء ساكناً لا يتحرك.
هذا أبي، تقاعد من الحياة، اليقظة في يومه لا موعد لها كما هو النوم. ينفث غضبه في سجائره التي قلّ عددها، من العشرين إلى النصف، تكيفاً مع الظروف الاقتصادية. لا يخرج لاستشكاف الحياة، ما كان له فيها لم يعد سوى موت عالق. هذا هو مرض النهايات غير المرتبة. لا عقار يجدي. أصابه الاكتئاب والنسيان، وتلك أعراض كونية نابعة من ميتافزيقيا الفقد.
هذا أبي، تيقظه أمي حتى لا تجرّه كثرة النوم إلى ماهو أبعد. تيقظه من أجل اللاشيء سوى أن يتناولا معاً الطعام ويتسامرا حول موضوعاتِ شتى، لكن، ولأن كل هذا في ميزان حياته لا شيء بما كان، يغضب ويعرض عنه منفعلاً.
تنظر لي أمي بينما أنا جالس على الأريكة أقرأ رواية "جنوب الحدود - غرب الشمس" لموراكامي، تدعوني للتحرك من أجل تغيير الوضع، أصارحها بأنها سنّة الكون، مستعيناً بالآية القرآنية "الله الذي خلقكم من ضعف، ثم جعل من بعد ضعف قوة، ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة". لا ترضيها الإجابة وإن أبدت عكس ذلك، فإلإنسان لا يؤمن بالنهايات إن جاءت مخالفة لقناعاته.
هذا أبي، تقاعد من الحياة، اليقظة في يومه لا موعد لها كما هو النوم. ينفث غضبه في سجائره التي قلّ عددها من العشرين إلى النصف، تكيفاً مع الظروف الاقتصادية. لا يخرج لاستشكاف الحياة، ما كان له فيها لم يعد سوى موت عالق
أعود لمتابعة القراءة التي عكست المشهد الذي أعيشه، حيث سألني موراكامي: "هل سمعت عن مرض الهستيريا السيبرية؟". وفي هذه اللحظة وقبل أن يطرح عقلي الإجابة، نهض أبي دون ضغط من أمي، وخرج نفث سيجارته اليتيمة وعاد للنوم مرة أخرى، ومعه أنا الذي تابعت تلك الحركات الروتينية، وعدت بعدها للإطلاع على إجابة هاروكي.
تقول الإجابة: "حاول أن تتخيل هذا: أنت مزارع، تعيش وحدك في السهول الجرداء في سيبيريا. يوماً بعد يوم تحرث حقولك. كل ما تستطيع أن تراه العين لا شيء. في اتجاه الشمال يوجد الأفق، في اتجاه الشرق يوجد الأفق، و في اتجاه الجنوب أو الغرب نفس الشيء. كل صباح، عندما تشرق الشمس من المشرق، تذهب إلى العمل في الحقول. عندما تكون الشمس مباشرة فوقك، تأخذ استراحة لتناول طعام الغداء. عندما تغرب في الغرب، تعود إلى البيت لتنام. ذات يوم، شيء داخلك يموت. يوماً بعد يوم تشاهد شروق الشمس في الشرق، ثم تمر الشمس عبر السماء، ثم تغرب في الغرب، وشيء ينكسر داخلك ويموت. ذات يوم ترمي محراثك جانباً، تفرغ رأسك تماماً من التفكير، تبدأ بالمشي نحو الغرب. تتجه نحو الأرض التي تقع غرب الشمس. و كمثل شخص مستحوذ، تواصل المشي، يوماً بعد يوم، دون أن تأكل أو تشرب، حتى تنهار على الأرض وتموت. هذه هي الهستيريا السيبيرية".
هذا أبي، ثلاثة وسبعون عاماً، تقاعد في الرابعة والخمسين من وظيفته، التي يعيش على معاشها الآن، والمقدرة بـ أربعة آلاف جنيه مصري شهرياً، يموت بصمت سيبيري.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ يومينمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم