شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
تقييد الحريات في لبنان... على 100 قدم و100 ساق

تقييد الحريات في لبنان... على 100 قدم و100 ساق

سياسة نحن وحرية التعبير

الأربعاء 4 أكتوبر 202312:30 م

"المشهد كان مرعباً وصادماً"؛ جملة تكررت عقب مسيرة الحريات في وسط بيروت، التي أقيمت يوم السبت في 30 أيلول/ سبتمبر الفائت، حيث أقدمت مجموعات تابعة لجهات دينية وسياسية على اقتحام الوقفة الاحتجاجية ضد قمع الحريات، وحاصرت المتظاهرين/ ات ومارست بحقهم/ ن أشكالاً من العنف عن سابق إصرار، على مرأى من القوى الأمنية ومكافحة الشغب.

تقول الناشطة النسوية ليلى عيسى، التي كانت مشاركةً في مسيرة الحريات: "كانت أسباب وقفتنا الاحتجاجية واضحةً، وقد أتت في وجه كل الجهات التي تعمل على التضييق والتحريض المنهجي ضد الناشطين/ ات والصحافيين/ ات والكوميديين/ ات وغيرهم. وما حدث خلال وقفتنا الاحتجاجية من اعتداءات أتى نتيجة خطابات تحريضية ممنهجة على وسائل التواصل الاجتماعي ضد هذه المسيرة، والترويج لها عن قصد على أنها مسيرة لدعم مجتمع الميم-عين، ليصبح هذا الهجوم مبرراً ومشروعاً بالنسبة لهم".

تروي عيسى أنهم عندما وصلوا (أي الناشطين/ ات)، إلى ساحة رياض الصلح، ووجدوا أن القوى الأمنية قد أغلقت البوابة الرئيسية، عدّوا أن الدخول مسموح فقط للصحافيين/ ات، ثم تم توجيههم/ ن إلى بوابة أخرى، وطُلب منهم/ ن أن يدخلوا منها، والمفاجأة كانت أن هذا المنفذ مكتظ بعشرات الأشخاص المنتمين إلى جماعات دينية وسياسية؛ كانوا يحملون عصياً وجاهزين لاقتحام الوقفة.

تضيف: "عمدنا إلى قراءة البيان خلال 5 دقائق لسلامة الموجودين/ ات، ولكن المعتدين كان عددهم يتزايد حتى تمكّنوا من إقفال جميع المنافذ. لقد حوصرنا داخل ساحة رياض الصلح، ولم نستطِع الخروج إلا بآليات لقوى مكافحة الشغب. حينها بدأ المعتدون بمحاولات متكررة لفتح الشاحنة، وكان هناك اعتداء على إحدى المشاركات، لكنها سرعان ما أغلقت الباب بإحكام".

تحمّل عيسى مسؤولية ما حدث للجهات الأمنية والسلطات، التي لم تقُم بحمايتهم/ نّ بالشكل الكافي، بل على العكس ساهمت في زيادة الضغط وارتكبت انتهاكات، "رأينا بعض الأفراد من قوى الأمن والدولة يضحكون في وقت كانت الأمور فيه تبدو مرعبةً. وعندما طلبنا من بعض العناصر التدخل للحماية من الاعتداءات التي تعرضنا لها، رفضوا بشكل استفزازي وقالوا إنهم لا يرغبون في فعل أي شيء".

بين القوانين الدولية والتحديات المحلية

في السنتين الأخيرتين، يبدو واضحاً أن السلطات اللبنانية تنتهج سياسةً واضحةً في التضييق على الحريات العامة، وممارسة قمع ممنهج في وجه كُل من يطالب بوقف هذه السياسات التي تنتهك أبسط قواعد حقوق الإنسان والقوانين التي وقّع عليها لبنان في الأمم المتحدة، والتي من واجبه أن يلتزم بها.

ما حدث خلال وقفتنا الاحتجاجية من اعتداءات أتى نتيجة خطابات تحريضية ممنهجة على وسائل التواصل الاجتماعي ضد هذه المسيرة، والترويج لها عن قصد على أنها مسيرة لدعم مجتمع الميم-عين، ليصبح هذا الهجوم مبرراً ومشروعاً

ويواجه لبنان تحديات كبيرةً في هذا الصدد، فالتدخلات السياسية والضغوط على وسائل الإعلام والتحكم في التعبير تشكل تهديداً لهذا الحق الأساسي، ومعه يُطرح السؤال: كيف يمكن للمجتمع اللبناني الحفاظ على حريته في التعبير عن الآراء والأفكار في ظل هذه التحديات المستمرة؟

تؤكد العديد من المواثيق الدولية على حرية الفرد أو المجموعة في التعبير عن آرائها وأفكارها من دون أي قيود، ويتجسد هذا الالتزام في الدستور اللبناني، الذي يشير في مقدمته إلى انتماء لبنان لمواثيق الجامعة العربية والأمم المتحدة، والامتثال لأحكامها وللإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان. يُجسد الدستور هذه المبادئ في جميع ميادين الحياة دون استثناء، وتنص المادة 8 من الدستور على أن الحرية الشخصية محمية ومصونة بموجب القانون.

أما المادة 13 من الدستور، فتكفل حرية التعبير بجميع أشكالها، بما في ذلك حرية الرأي والكتابة والطباعة والاجتماع وتأسيس الجمعيات، وذلك ضمن إطار القانون. والدستور اللبناني يشير أيضاً إلى أن لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية تقوم على احترام الحريات العامة، ومن أبرز هذه الحريات حرية الرأي والمعتقد، وتعزيز العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات دون تمييز أو تفضيل.

يشدد المحامي علي عباس، وهو أحد المحامين الناشطين في الدفاع عن المتظاهرين/ ات الذين/ اللواتي تم اعتقالهم/ نّ منذ انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، على أن الدستور اللبناني يحمي جميع الحريات، وبشكل خاص حرية الرأي والتعبير. ويشير إلى أن لبنان ملتزم بمواثيق حقوق الإنسان، التي تكفل حرية الرأي والتعبير: "هذا الالتزام أصبح جزءاً لا يتجزأ من التشريع اللبناني، وهو مكمن حماية لحقوق المواطنين/ ات. وتالياً، أي تدخل من السلطات لقمع حرية الرأي والتعبير أو منع المواطنين من التعبير عن آرائهم يُعدّ انتهاكاً للدستور اللبناني وتكريساً لانتهاك شرعة حقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية، مما يشكل مسّاً واضحاً في حرية المواطن وحقه في التعبير عن آرائه".

في هذا السياق، قامت منظمة العفو الدولية في آب/ أغسطس 2023، بإطلاق حملتها بعنوان "رأيي مش جريمة"، وذلك للضغط على البرلمان اللبناني لإلغاء جميع القوانين التي تجرّم التحقير والذم. تشير سحر مندور، الباحثة المختصة بلبنان في منظمة العفو الدولية، إلى أن المواد التي يجب تعديلها تتعلق بالتشهير في قوانين العقوبات والعسكرية والمطبوعات، بما في ذلك إهانة الجيش والأديان وأي شخص يتولى مناصب سلطة وقوة.

وتشدد مندور على أن هذه المواد يجب ألا تكون جنائيةً، وأن العقوبات ينبغي ألا تشمل أو تصل عقوبتها إلى السجن. وتقول: "نحن في منظمة العفو الدولية نؤمن بحماية حرية الرأي والتعبير، والأمور الوحيدة التي لا تحميها حرية الرأي والتعبير هي الحض على الكراهية والعنف والتمييز والتفرقة بحسب الاتفاقيات الموقّع عليها لبنان. كل ما يتعلق بالسبّ والشتم يجب أن يكون محمياً بحق حرية التعبير، ولبنان ملتزم بذلك، وتالياً الحق في حرية الرأي والتعبير ليس موجوداً لحماية القول الحميد بل موجود تحديداً لحماية الكلام النقدي وغير الملتزم بأدبيات اللغة".

أي تدخل من السلطات لقمع حرية الرأي والتعبير أو منع المواطنين من التعبير عن آرائهم يُعدّ انتهاكاً للدستور اللبناني وتكريساً لانتهاك شرعة حقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية, فكيف السبيل إلى المواجهة؟ 

كما يؤكد تحالف الدفاع عن حرية الرأي والتعبير في لبنان في بياناته، وهو تحالف مؤلف من 15 منظمةً محليةً ودوليةً، على ضرورة تعديل القوانين اللبنانية وملاءمتها مع التزامات لبنان تجاه القانون الدولي، وضمان إجراء مشاورات هادفة مع المجتمع المدني بشأن مشاريع القوانين الجديدة، والتأكد من مراعاة مقترحات القوانين للمعايير الدولية، بما في ذلك: إلغاء تجريم القدح والذمّ والتحقير، بحيث تقتصر على المسؤولية المدنية ولا تترتّب عليها أي عقوبات سجنية، إلى جانب حصر التجريم فقط في التصريحات التي ترقى إلى التحريض على العنف أو الكراهية أو التمييز على أساس قومي أو عرقي أو ديني.

في رحاب الحرية!

تشير منظمة العفو الدولية إلى أنه "بعد حركة الاحتجاج في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، شهدنا زيادةً في التحقيقات والمحاكمات المتعلقة بحرية التعبير. خلال الفترة من 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، إلى 24 حزيران/ يونيو 2020، بحيث وثّقت المنظمة 75 حالةً، منهم 20 صحافياً تم استدعاؤهم بتهم القدح والذم والازدراء والتحقير".

تؤكد مندور أنه خلال العام الحالي فقط، تم توثيق أكثر من 10 حالات، من بينها 9 حالات قام فيها أشخاص يتمتعون بمناصب عالية في الدولة باستدعاء صحافيين وناشطين ونقابيين إلى الأجهزة الأمنية بسبب انتقادهم لهم، مشددةً على أن هذه الأجهزة لا ينبغي أن تجري تحقيقات في قضايا حرية التعبير.

وتضيف: "قوانين التشهير تُستخدم لمعاقبة الناشطين والصحافيين والنقابيين لقمع التعبير النقدي تجاه السلطة، وتالياً هي لا تحمي حق التعبير للأفراد الذين ليست لديهم حصانات أو مواقع سلطة، بل تحمي الأشخاص الذين يمتلكون السلطة والنفوذ والسلاح والمؤسسات الحاكمة. وهذا خلل واضح يجب إصلاحه، حيث يتم استغلال هذه القوانين لقمع حرية التعبير والقضاء يستجيب، وفي المقابل، لا يقوم بتلبية الأفراد عندما يطالبون بمحاسبة أشخاص في السلطة"، ملخصةً قولها بأنه: "يوجد تحيّز واضح ضد الناس الذين لا يمتلكون السلطة إنما يمتلكون الرأي".

في سياق آخر للانتهاكات المسجلة، يصرح المحامي عباس أنه منذ عام 2019 حتى اليوم، شهد المحامون خلال الدفاع عن المتظاهرين والموقوفين إثر التعبير عن رأيهم، العديد من انتهاكات حقوق الإنسان، مشيراً إلى أن أبرز هذه الانتهاكات سُجّلت خلال توقيف الناشطين والناشطات، وبشكل خاص خلال "الثورة" "كان هناك تجاهل واضح للقوانين، وبالأخص المادة 47 من أصول المحاكمات الجزائية التي تم تعديلها في العام 2020، لتمنح الموقوف حقوقاً أساسيةً مثل حقه في الاتصال بمحامٍ وحقه في طلب طبيب شرعي في حال التعرض للضرب وغيرهما من الحقوق والضمانات عند التوقيف".

ويضيف: "كان الناشطون/ ات يتعرضون للضرب والاعتداءات البدنية واللفظية خلال فترة التوقيف، كما كان هناك ترهيب معنوي ونفسي يستهدف الموقوفين/ ات قبل أن يتاح لهم حق الوصول إلى ممارسة حقوقهم القانونية. كما نلاحظ أن الممارسات تشمل أيضاً انتهاكات للحقوق الصحية كما الشخصية والخصوصية، حيث يتم التدخل في حسابات وسائل التواصل الاجتماعي للأفراد إلى جانب حلق شعر الرأس لبعض الموقوفين من دون موافقتهم بحيث أن كل هذه الأمور تمثل انتهاكاً للقوانين وحقوق الإنسان وإذلالاً لكرامة الإنسان".

ووفقاً لما ذكره "مركز الدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية-سكايز"، وهو مركز مختص بمراقبة حرية الإعلام والصحافة، فقد تعرّض 106 إعلاميين للاعتداء من جهات غير حكومية خلال فترة الانتفاضة في لبنان التي بدأت في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، واستمرت حتى آذار/ مارس 2021. وفي العديد من الحالات الأخرى، عمدت عناصر من أجهزة الدولة إلى الاعتداء على الصحافيين/ ات، بحيث سجّل مركز سكايز وقوع 80 حالة اعتداء نُفّذت على يد العناصر الأمنية ضد إعلاميين في أثناء أدائهم واجباتهم وخلال تغطية احتجاجات انتفاضة 2019، وبالرغم من وجود إثباتات وتوثيق لهذه الاعتداءات لم يتم توقيف أو محاسبة أي عنصر من العناصر الأمنية المعتدية.

وفي سياق آخر، أشار "مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية"، الذي يُعدّ وحدةً تابعةً لـ"قوى الأمن الداخلي"، ومسؤولاً عن مكافحة الجرائم الإلكترونية وتعزيز الأمن على الإنترنت، إلى أنه قام بإجراء 4،154 تحقيقاً في قضايا القدح والذم بين 1 كانون الثاني/ يناير 2015، و7 كانون الأول/ ديسمبر 2020.

تأثير قمع حرية الرأي

ترى الباحثة مندور أن "تصاعد الخطابات والكلمات التحريضية التي تشجع على الكراهية والعنف والقتل الصريح، والتي صدرت من أشخاص يشغلون مواقع عاليةً في الدولة، والتي تُعدّ مؤسسات ذات سلطة، بما في ذلك وزراء ورؤساء أحزاب ونواب وقادة دينيين، تعمدوا القيام بحملة كراهية وتحريض على العنف تجاه العديد من المجتمعات المهمشة، وكان مجتمع الميم-عين آخرها، وقبله اللاجئون، وكل هذا أتى بعد انتفاضة 17 تشرين ومع الأزمات التي تشهدها البلاد لأسباب متعددة أبرزها محاولة امتصاص الغليان الشعبي".

"نشعر بالقلق بشكل كبير من أن السلطة والأفراد الذين يمتلكون النفوذ في مختلف الميادين السياسية والدينية والعسكرية والاقتصادية، يستغلون هذا الغليان ويحاولون توجيهه نحو المجتمع نفسه بدلاً من تلبية مطالبه"

تقول "نشعر بالقلق بشكل كبير من أن السلطة والأفراد الذين يمتلكون النفوذ في مختلف الميادين السياسية والدينية والعسكرية والاقتصادية، يستغلون هذا الغليان ويحاولون توجيهه نحو المجتمع نفسه بدلاً من تلبية مطالبه".

فبالنسبة لها، تعكس الحملات الحالية لمعاقبة واستهداف مختلف الفرق والأفراد والمجتمعات التي نشطت، وشكلت نسيجاً أساسياً لانتفاضة 17 تشرين، تصاعداً في الجهود لقمع أي تنوع في الرأي العام. وتذكر: "المشهد خلال الاحتجاجات في 17 تشرين 2019 كان متنوعاً وشمل مجموعةً واسعةً من القضايا الاجتماعية والسياسية، وكان يشمل مجتمعاً مدنياً نشطاً. ولكن اليوم، توجَّه جميع جهود السلطة إلى معاقبة أي نوع من التنوع يختلف عن الخطاب الرسمي للأحزاب الحاكمة، بحيث أن السلطة تستخدم قوانين التشهير لإسكات الانتقادات وترهيب المجتمع المدني، وفي الوقت نفسه تستخدم لغة الحض على الكراهية والعنف لمعاقبة من يخالف الخطاب الرسمي، وهذا الاستخدام المزدوج للقوانين واللغة سيؤدي إلى تشويه معنى الحق في حرية الرأي والتعبير ويقوض مبادئ المواطنة والديمقراطية".

إذاً، ها هي السلطة السياسية بغوغائيتها تصرّ اليوم على محاولاتها إعادة تشكيل المجتمع وفقاً لمصالحها السياسية والمالية والأمنية، فتستخدم سلطتها لقمع حق الرأي والتعبير، محاولةً بكل جهد ترويض المجتمع بحيث يصبح الصوت الوحيد فيه هو صوت الأحزاب السياسية والطائفية الحاكمة. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image