يعاني الشاب محمد سلامة (26 عاماً)، من اضطرابات نفسية واكتئاب، ويفضّل البقاء في عُزلة لساعات طويلة في منزله، بعد تعرّضه لصدمة إثر مشاهدته عدداً من الضحايا الذين استشهدوا على مرأى عينه، وهم جميعهم من جيرانه الذين تقاسم معهم يومياته لسنوات، خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة، في شهر أيار/ مايو الماضي.
الخشية من الفضيحة والنظرة السلبية للمجتمع، دفعتا والد الشاب سلامة إلى اصطحاب نجله إلى أحد المشايخ في الحي من أجل تلاوة القرآن عليه، على أمل أن تتحسن حالته الصحية والنفسية ويعود إلى التعامل بشكل طبيعي مع محيطه والانخراط في المجتمع.
"بعض الأقارب نصحوني بالذهاب إلى أخذ استشارة من طبيب نفسي، إلا أني رفضت ذلك بشدة، لأن مجتمعنا هنا لا يرحم والفضيحة ستعمّ الحارة التي أسكن فيها، وسيقولون إن ابن أبي أحمد مريض نفسي، وهذه السمعة ستُلازم ابني والعائلة مدى الحياة"؛ هكذا يُبرر والد الشاب سلامة رفضه الحصول على أي استشارة نفسية بشأن ابنه، كما يقول خلال حديثه إلى رصيف22.
وبفعل الأحداث السياسية المتعاقبة على قطاع غزة والظروف الاقتصادية الصعبة، يتعرض آلاف المواطنين لضغوط نفسية هائلة، خاصةً في أوقات العدوان الإسرائيلي الذي يسقط فيه الكثير من الشهداء والجرحى وتُهدّم البيوت، مما يضاعف أعداد الإصابة بالصدمات النفسية.
ويفضّل الكثير من المواطنين الذهاب للعلاج البديل (الطب الشعبي)، في قطاع غزة، والبعض منهم قد يذهبون إلى مشعوذين بدعوى أنهم يُعانون من "المس" أو "الجن"، في ظل غياب ثقافة الطب النفسي والخشية من النظرة المجتمعية الضيقة والوصمة، فيتعذبون بصمت كي لا يقال عن أي واحد منهم "أهبل أو مجنون".
وسام (35 عاماً)، والتي تعمل محاميةً وعاشت فترة ارتباط فاشل أدخلتها في حالة أرق وقلق وشعور بالاكتئاب الدائم، رفضت بشكل قاطع عرض والدتها عليها بالذهاب إلى استشاري أو طبيب نفسي في ظل تفاقم الحالة التي تعانيها والعصبية الزائدة التي ترافقها.
تقول وسام لرصيف22، إنها حاولت الاتصال بشكل سرّي بأحد الأطباء النفسيين الذي نصحها بالمجيء إلى عيادته لأخذ استشارة طبية، "لكني خفت كثيراً، فأنا لا أعرف ما هو العلاج النفسي، وهل أحتاج إلى عقاقير نفسية، وهل يمكن أن يلاحظ من حولي أنني أتناولها؟ هنا ستحدث الفضيحة".
"بعض الأقارب نصحوني بالذهاب إلى أخذ استشارة من طبيب نفسي، إلا أني رفضت ذلك بشدة، لأن مجتمعنا هنا لا يرحم والفضيحة ستعمّ الحارة التي أسكن فيها"
اختارت وسام في نهاية المطاف الذهاب إلى صيدلية مجاورة لمنزلها، وشراء بعض العقاقير المُهدئة للأعصاب، معتبرةً أن ما جرى معها مجرد "حسد" من أعين الناس، كما تقول.
وبحسب منظمة الصحة العالمية ودراسة أجراها البنك الدولي في حزيران/ يونيو الماضي، فإن ما يقارب من 71% من سكان قطاع غزة يعانون من اضطرابات نفسية، ويحتاجون إلى الرعاية والعلاج نتيجة الحروب المتراكمة والحصار المستمر عليهم.
الخوف من الوصمة
يؤكد استشاري الطب النفسي في قطاع غزة الدكتور يوسف عوض الله، أن "من بين كل 10 أشخاص مرضى مراجعين يأتون لعيادة الطبيب النفسي 7 منهم يكونون قد زاروا معالجين تقليديين شعبيين قبل الوصول إلى العيادة"، ويُرجع في حديثه إلى رصيف22 السبب الأول الذي يدفعهم لذلك إلى "الخشية من الوصمة، وهي الشعور بالخزي والعار في الذهاب إلى الطبيب النفسي والخوف من النظرة المجتمعية من وصف المريض بـ'المجنون' أو غيرها من المسمّيات الأخرى".
من بين كل 10 أشخاص مرضى مراجعين يأتون لعيادة الطبيب النفسي 7 منهم يكونون قد زاروا معالجين تقليديين شعبيين
ويبيّن أن "قلة الوعي وتراجع ثقافة المجتمع حول الطب النفسي المتسقاة من الأفلام والمسلسلات، ساهمت في تصوير شكل الطبيب النفسي بطريقة سيئة الإخراج وجعلته مادةً للسخرية". يضيف: "كثيراً ما يتم سؤالي من قِبل الناس خلال عملي: يا دكتور، بعد عملك في الطب النفسي لمدة 20 عاماً، ألم تُصَب بالجنون؟".
ويوضح عوض الله أن "المعالجين الشعبيين منهم الصالح ومنهم الطالح، ومنهم من يستغل حاجة الناس، الذين يفضّلون الذهاب إليهم على التوجه إلى الأطباء النفسيين خوفاً من الوصمة والعار"، ويشير إلى أن قلة الوعي والإدراك بقيمة الطب النفسي، ساهمت في ندرة الأطباء النفسيين والعاملين في هذا المجال، وفق آخر بحث علمي أجري في الجامعات التي تدرّس الطب في قطاع غزة.
وبحسب الاستشاري، فإن نتيجة البحث العلمي كانت صادمةً إذ كشفت أنه من بين 100 طبيب يختار واحد تخصص الطب النفسي، وهو ما ساهم في ندرة الأطباء النفسيين والنقص الحاد الذي يؤثر على تقديم الخدمة للمرضى، في ظل الواقع الاقتصادي والمعيشي والنفسي الصعب في قطاع غزة.
ويلفت إلى أن "القطاع يضمّ مستشفى واحداً للطب النفسي لا يتجاوز عدد الأسرّة فيه 50 سريراً و6 مراكز حكومية موزعة على كافة مناطق القطاع، فيما يُقدّر عدد الأطباء النفسيين بقُرابة 180 طبيباً على مستوى قطاع غزة، وهذا يعكس حالة النقص الحاد في الكوادر الطبية التي تقدّم خدمة الطب النفسي".
الجدير ذكره أن مستشفى الطب النفسي الحكومي الوحيد أُنشئ عام 1980 على مساحة 6،000 متر مربع، في حي النصر وسط مدينة غزة، وتصل قدرته الاستيعابية إلى 50 سريراً فقط، موزعةً بين ثلاثة أقسام: رجال، ونساء، وأطفال، إلى جانب قسم المدمنين.
ويتحدث مدير عام برنامج غزة للصحة النفسية، ياسر أبو جامع، عن أن "الموارد العلاجية المتاحة في قطاع غزة غير كافية للتدخلات النفسية، وليست بالحجم المطلوب المتناسب مع 2 مليون و300 ألف شخص يعيشون في القطاع"، ويقول في حديثه إلى رصيف22: "هناك نقص في عدد الكوادر الطبية النفسية، كما يعاني القطاع من عدم توافر العقاقير الطبية اللازمة للعلاج النفسي، وإن توافرت فتكلفتها المادية تفوق كثيراً القدرة الشرائية للمريض".
غياب الوعي المجتمعي
يُعبّر أبو جامع عن أسفه بسبب الوصمة المجتمعية التي تمنع المرضى من التوجه للعلاج خشية نظرة المجتمع: "في بعض الأحيان لا يشكّل المريض النفسي خطراً على نفسه، بل على من حوله إذا كان يعاني من أعراض اكتئاب حادة".
"خفت كثيراً من الذهاب إلى الطبيب النفسي، فأنا لا أعرف ما هو العلاج النفسي، وهل أحتاج إلى عقاقير نفسية، وهل يمكن أن يلاحظ من حولي أنني أتناولها؟ هنا ستحدث الفضيحة"
وحول طبيعة المرضى الذين يترددون للاستشارة النفسية، يوضح أن غالبية الخاضعين للعلاج النفسي في مركزه هم ممن تلقوا صدمات نفسيةً بسبب ما خلّفته الحروب المتكررة على القطاع، بينما إذا كان المريض يعاني من مرض نفسي خارج دائرة تأثير الحروب، فإنه يرفض تلقي علاج ويشعر بالخجل بسبب الوصمة، وتحديداً إذا كانت امرأةً، وأحياناً قد يلجأ/ تلجأ إلى التدخل العلاجي النفسي لكن بعد فوات الأوان وتدهور حالته/ ا النفسية.
وبحسب اعتقاد أستاذ علم النفس في جامعة الأقصى الدكتور فضل أبو هين، فإن الإنسان في المجتمع الفلسطيني يفضّل الاعتراف بالإصابة بالسرطان على الاعتراف بأنه مُصاب بحالة نفسية معينة، لما يعتبره أنه شيء مُتعلق بذاته ومُستقبله ومستقبل كل من يتعلق به.
ويشير أبو هين لرصيف22، إلى أن "هناك حالةً من قلة الوعي بطبيعة المرض النفسي في قطاع غزة الذي يعتبره صورةً قبيحةً، خاصةً إذا ارتبط الأمر بجنس الأنثى، حيث تحاول العائلة إخفاء هذا المرض وعدم الاعتراف به أو الذهاب لتلقي العلاج، كونه وصمة عار ومصدراً للإحراج".
"في المجتمع الفلسطيني أكثر من يعاني هنّ الفتيات اللواتي بحاجة إلى علاج نفسي، على اعتبار أن الفتاة هي شرف العائلة، لذلك يلجأ ذووها إلى إخفائها ووضع حواجز كبيرة في علاقاتها الاجتماعية" وفق قوله.
ويشير إلى أنه لا يتم التعامل بشكل صحيح مع المريض، فهناك من يتمّ حجزه والتعامل معه بشكل أكثر حدةً وتمييزاً وعنفاً ومنعه من الاختلاط والاندماج في البيت والمحيط القريب منه. ويبين أن ذلك يفاقم الحالة الصحية للمرضى لا سيما الذين يعانون من اكتئاب وانطواء، الأمر الذي يدفعهم إلى إيذاء أنفسهم ومحاولة التخّلص من الواقع الذي يعيشون فيه من خلال الانتحار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم