ربما تكون معارضاً مثلاً لصنف معين من السلوكيات، أو معارضاً لأي نمط اجتماعي عام يعدّ نظاماً مريحاً لسكان قطاع غزة وحكامه الذين يضعون الأنظمة والأنماط الآمنة التي لا تعرّضك للشك والمساءلة، فليس ضرورياً أن تكون معارضاً سياسياً لتقع تحت المراقبة، يكفي أن تصرّح بأن لديك أنماطاً شخصية خاصة، وأنك تستخدم عقلك أحياناً للتفكير.
ولإيضاح بعض المسائل قبل الانزلاق أكثر في هذا المقال، فإن حكام غزة ليسوا فقط رجال السياسة والدين، وأعضاء الحكومة، وقادة الفصائل الفلسطينية، بل السكان أنفسهم، أو دعنا نقول "النمط الفكري اليومي" هو من حكام قطاع غزة أيضاً.
فالحاكم في النهاية هو جزء من الشعب، يحكم بالوعي الجمعي العام، إذن، فعلى المواطنين أن يتساءلوا: لماذا لا يخرج من شعبنا حكام عادلون ونزيهون، بدلاً من أن يسألوا: لماذا ذلك الحاكم غير عادل وغير نزيه؟!
كيف يتشكل نظام الحكم الفلسطيني؟ وهل هو نظام وفقاً للتعريف الحقيقي للنظام؟!
وفقاً لكتاب "الأمير" لميكافيلي، فإن السلطة تتشكل بطريقتين، إما بالتفوّق أو بالاستيلاء، أي تفوّق جماعة معينة على جماعة أخرى أقلّ حظاً، وعليه فإن تلك الجماعة المتفوّقة ستحظى بالنفوذ والسيطرة، وأيضاً تتشكّل السلطة عن طريق الاستيلاء، أي فرض السيطرة على منطقة ما بالقوّة والعنف والترهيب، هاتان الحالتان الطبيعيتان لتشكّل السلطة أو النظام.
وهذا ما يضعنا في تساؤلات عظمى إذا ما حاولنا صناعة بعض الإسقاطات الميكافيلية على النظام الفلسطيني في غزة، ما يدفعنا للتفكير بكيفية تشكل أنظمة الحكم الوطنية تحت حكم الاحتلال؟!
لقد تشكل النظام في غزة عبر أحزاب وحركات وطنية تأسّست لهدف آخر غير الإدارة المدنية، وهو النضال والتصدي لجيش الاحتلال الإسرائيلي، دون أن تمتلك أي خبرات سياسية أو تنظيمية كافية لتشكيل نظام مدني يؤسّس لدولة، انتهاءً بحكم حركة حماس وقوى المقاومة لغزة، وما نتج عنه من حالة استنفار دائم أبعد ما تكون عن المواطنة الطبيعية.
وهنا يجدر الذكر بأن المواطن الفلسطيني منذ الهجرة في العام 1948، لم يحظ مطلقاً بأي فرصة حقيقية لتقرير مصيره، فهو لطالما كان بين مطرقة الاحتلال وضرورة النضال، منتظراً لحل مدني يمكّنه من تدارك مأساة الهجرة والبدء في تأسيس بناه الاجتماعية مجدّداً، لصياغة شكل الدولة الفلسطينية التي وضعت حجر أساسها منظمة التحرير الفلسطينية ولكن ما لبثت أن تشتّت خطاها، خاصةً بعد الانقسام الفلسطيني في العام 2007.
القضية الفلسطينية متجمدةً في مكانها، والسمة العامة للأحوال هي الجمود وانعدام الرؤية والأمل، ولا شيء غير "الطوشة الفلسطينية المعتادة" بين الحركات الفلسطينية وتشكيلاتها الاجتماعية، وفي خضمّ هذا كله، تتغوّل إسرائيل في استيطانها، وفي تفتيت الكلّ الفلسطيني
ويحاجج البعض بأن لا حديث عن المواطنة المدنية، ولا حديث عن تقرير المصير بالنسبة للمواطنين الفلسطينيين طالما هناك احتلال اسرائيلي، وأن حالة القتال يجب أن تظلّ مفتوحة إلى الأبد حتى موت إسرائيل أو موت الفلسطينيين فوق أرضهم، ولكن لا يفكر أولئك المندفعون بأنه إن لم يكن القتال من أجل الدولة الفلسطينية فهو نضال بلا أي قيمة.
وأن تمكين الفلسطيني من تقرير مصيره، والعمل على إقامة حالة مدنية حرة، هو نضال أيضاً، فما الذي يمكنه أن يقوّض بشاعة العقل الإسرائيلي المتطرّف أكثر من مجتمع فلسطيني مستقرّ، منتج ومبدع، ومتمسّك بحقه في دولته ومقاومته غير المقيدة أو الموجّهة أو المحدّدة بنمط معين.
"نظرية التغريد خارج السرب"
إن الأمر مضحك، فلطالما وصَمَت عبارة "خارج السرب" صاحبها بأنه مخبول أو آت من عالم آخر، المضحك هو كيف أن وعي المجتمعات المضطهدة يصنع آليات دفاعية ضد أولئك الذين يزعجونه باستمرار بكلمات مثل، "حرية" و"مساواة" و"مواطنة" و"رفاهية العيش"، فيصفهم بالمغرّدين خارج السرب.
ولكن المفارقة أن أولئك الخارجين عن السرب، أصحاب الأصوات المزعجة المنادية بكلام غير مفهوم، هم الذين يحفظون المجتمعات من التعفّن والزوال، فلو أن الشعوب تستكين وترتاح إلى أوضاعها القائمة، وتكتفي بما هو موجود دون رغبة بالتجديد والمواكبة والتأقلم، فهي حتماً ستفنى، وعليه، ربما على النظام ومعارضته، في آن معاً، أن يصغوا أحياناً إلى تلك الأصوات التي تأتي من الهوامش، حيث تغرّد الطيور الحرّة خارج الأنماط المرسومة مسبقاً، إذ هي ملّت الخطوط الواضحة.
وهذا يؤسّس لفكرة جوهرية بالنسبة لقطاع غزة، أو الحالة الفلسطينية عموماً، إذ لا يمكن أن تستمر القوى الفلسطينية في التناحر داخل نفس تلك الحلبة المغلقة، بنفس الأدوات ونفس الأساليب والمعطيات القائمة على التفاضل الوطني والديني والأخلاقي، فبينما ذلك التناحر العقيم قائم على أشدّه منذ عقود، فإن الشعب الفلسطيني يشتعل غضباً منذ عقود أيضاً.
فالقضية الفلسطينية متجمدةً في مكانها، والسمة العامة للأحوال هي الجمود وانعدام الرؤية والأمل، ولا شيء غير "الطوشة الفلسطينية المعتادة" بين الحركات الفلسطينية وتشكيلاتها الاجتماعية، وفي خضمّ هذا كله، تتغوّل إسرائيل في استيطانها، وفي تفتيت الكل الفلسطيني عبر مستوطناتها في الضفة الغربية، وحصارها لقطاع غزة، واستخدامها للصراع الفلسطيني-الفلسطيني من أجل خدمة أجنداتها في تمزيق الحالة المدنية الفلسطينية، وهدم حلم الدولة.
ما الذي يعنيه أن تكون معارضاً من غزة!
كما ذكرت مسبقاً، فإن الشعب الفلسطيني في غزة، وفي كل المدن الفلسطينية عموماً، لم يحظَ يوماً بفرصة لتقرير مصيره، فهو لطالما تخبّط من الفوضى إلى الفوضى، فلم يكن لديه يوماً متسعٌ من الرفاهية يمكّنه من التفكير بضرورة وجود نظام منتخب شعبياً، يمكن معارضته أو موافقته دون امتثال لإملاءات الحزب أو الانتماء!
كل ذلك أسفر عن تباينات هائلة في تصورات الفصائل الفلسطينية الحاكمة وارتباطاتها الاقليمية، إذ كل فصيل منها ينظر إلى توجهاته على أنها الصواب المطلق والأقرب لفلسطين، حيث أصبح من الصعب أن تعارض فصيلاً فلسطينياً دون أن تتهم بالخيانة! بالإضافة إلى عدم وجود سلطة فلسطينية موحّدة يمكن للمواطن أن يتفاعل معها بشكل "رسمي".
وبناءً عليه، أصبح على المعارضة أن تحمل معنى آخر، وهو الاستماتة من أجل خلق النظام، أي الفوضى الرامية إلى تنظيم البنى الاجتماعية والسياسية والمدنية، وليس تلك الفوضى التي تطمح لمزيد من الفوضى.
كل فصيل ينظر إلى توجّهاته على أنها الصواب المطلق والأقرب لفلسطين، حيث أصبح من الصعب أن تعارض فصيلاً فلسطينياً دون أن تتهم بالخيانة! بالإضافة إلى عدم وجود سلطة فلسطينية موحّدة يمكن للمواطن أن يتفاعل معها بشكل "رسمي"
فالظروف التي شكلت القوى الفلسطينية، على اختلاف توجهاتها، هي ظروف غير طبيعية وغير مستقرة، وبالتالي فتلك القوى ترى بأن دخولها ضمن نظام فلسطيني واحد ومستقرّ قد يؤدي إلى فنائها، وعليه فهي ستختار بقاءها حتى وإن كلّف الأمر تمزّق الكل الفلسطيني، وهنا تكمن الأزمة!
أما أن تكون معارضاً من قطاع غزة فذلك يعني أن تكون مبتكراً في خلق الأنماط الاجتماعية الجديدة التي تردم الهوة بين القوى المسيطرة والشعب، انطلاقاً من حقيقة أن ليس هناك سلطة فعلية تؤسّس لعلاقة رسمية بين الحاكم والمحكوم في غزة، تحمي الأفراد من الاتهام بالخيانة إن قدموا اعتراضاتهم، وتحقق إرادة فلسطينية موحدة، تلك الإرادة التي تُقصي بتلقائية كل الأصوات النشاز التي تضع مصالحها أولاً، دون اكتراث بالحالة الفلسطينية المدمرة في غزة.
فن الحياة بالثورة على النمط السائد
إن أكبر الجدليات التي أثارها الفلاسفة عبر التاريخ دارت حول السؤال عن "فنّ الحياة"، هل يكون بالمحافظة أم بالمواجهة؟ وهل المواجهة تكون من داخل البنى الاجتماعية، أم من خارجها؟ وبهذا الصدد كتب ويليام لارج: "إن الرغبة في الصدام مع الواقع من خارج الواقع هي أشبه بمجابهة العدم.."، وعليه فإن الواقعية في الحالة الغزية تكون مطلباً جوهرياً لا مناص منه.
هذا ما يعني أن الحراكات المعارضة في قطاع غزة يجب أن تبدأ من الفكر اليومي أولاً، أي أن يثور الشعب على نفسه عوضاً عن الثورة على نظام غير موجود، إذ يتطلب الأمر صياغة عقد اجتماعي جديد يؤسس لمجتمع قادر على تنظيم نفسه بنفسه، بحيث يشمل: حرية التفكير، وحرية الاعتقاد، وحرية الاحتجاج على قمع الحريات وتقييد المواطنة والحركة الثقافية، دون تهميش أي من مكونات المجتمع على أساس الجنس أو الانتماء، أو التوجه.
إن الاعتراض يجب أن يبدأ بالاحتجاج على التنميط، والقوالب الجاهزة، والتناحرات المتوارثة، وبالخروج عن المناطق المريحة نحو مواجهة فعلية مع الذات الفلسطينية وعلاقتها بكل الموجودات حولها، والبدء في رسم اتجاهات جديدة وتصورات أكثر وعياً حول ما يريده الفلسطيني.
وفي ظل وجود احتلال إسرائيلي يهدّد كل أشكال الاستقرار المدني والاجتماعي، بل ويطمح لاجتثاث المجتمع الفلسطيني من جذوره مستفيداً من حالة الصراع الداخلي الفلسطيني، فتكون المعارضة المنعتقة من ظلام الرجعية والتناحر ضرورة أساسية للحفاظ على الوجود الفلسطيني بأسره، وإشارةً صارمة للقوى الفلسطينية الحاكمة أنه آن أوان توحيد القرار الفلسطيني، والاصغاء إلى صوت الإرادة الفلسطينية الخالصة بمعزل عما تقتضيه المصلحة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...