اندمجت منطقة الهلال الخصيب الممتدة من العراق إلى شبه جزيرة سيناء، ثقافياً في الدولة العربية الإسلامية الناشئة في القرن السابع الميلادي، بشكل أسرع من دول عربية أخرى قائمة الآن، كمصر التي ظلّت لغتها القبطية سائدةً حتى القرن العاشر الميلادي تقريباً، قبل أن تصبح العربية لغتها.
ويُبَرَّر ذلك، بالتقارب بين العرب وسكان تلك المناطق قبيل الإسلام، وتجلّي ذلك في نشوء مملكتين عربيتين، في جنوب الشام وفي جنوب العراق، قبيل الوجود الإسلامي مباشرةً، هما مملكة الغساسنة (220 م-638 م)، والمناذرة (300 م-602 م). ولكن ثبت تاريخياً أن الوجود العربي في هذه المناطق يرجع إلى ما قبل ذلك بكثير.
البعض يحاول الربط بين العرب ودول الهلال الخصيب منذ 4 آلاف عام قبل الميلاد، كالباحث إبراهيم عبد الكريم الذي تحدث في كتابه "القومية العربية قبل الإسلام"، عن هجرات عربية إلى هذه البلاد، بحثاً عن الخصوبة وهرباً من الصحاري.
الموثق تاريخياً أن التفاعل العربي الذي وصل إلى الاندماج مع تلك البلاد، كان منذ العهد الآشوري في القرن التاسع قبل الميلاد، كما يوضح المستشرق إسرائيل إيفال في كتابه
ولكن الموثق تاريخياً أن التفاعل العربي الذي وصل إلى الاندماج مع تلك البلاد، كان منذ العهد الآشوري في القرن التاسع قبل الميلاد، كما يوضح المستشرق إسرائيل إيفال في كتابه "The Ancient Arabs: Nomads on the Borders of the Fertile Crescent, 9th-5th Centuries B.C"، وهو ما يتفق مع ما ذهب إليه المؤرخ العراقي الشهير جواد علي، في موسوعته "المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام".
فكيف حدث هذا التفاعل؟ وإلى أي مدى وصلت نتائجه؟ وماذا نتج عنه؟
العرب والآشوريون... من الصراع إلى الاندماج
العلاقة بين العرب والآشوريين كانت متوترةً في الغالب، وكثيراً ما دخلت القبائل العربية في صراعات عسكرية مع الدولة الآشورية، وتحالفت مع ممالك سورية صغيرة ضد الآشوريين الذين كانوا يهيمنون على المنطقة، ويفرضون على أهلها الضرائب والإتاوات.
ويرصد جواد مجموعةً من الحروب التي تحالف فيها ملوك وملكات عرب، كملكة تُدعى شمسي، وأخرى تُدعى زبيبة، مع خصوم الآشوريين.
ولكن أول إشارة للعرب في الكتابات الآشورية، وردت في كتابات "شلمنصر الثالث" ملك آشور، وكانت عن انتصاره عام 853-54 ق. م، على حلف عسكري مكوّن من ملك دمشق "بيرادري"، أو كما يسمّى في التوراة بـ"نهدد"، وعدد من الملوك الإرميين الذين حكموا مدناً سوريةً، بالإضافة إلى ملك إسرائيل "آخاب"، ورئيس قبيلة عربية يُسمّى "جندب" أو "جنديبو"، المُسمى في الكتابات الآشورية بـ"ملك العرب"، والذي أمدَّ جيش التحالف بألف جمل، ومئات من المحاربين.
ولم تحدد المصادر الآشورية أي منطقة عربية كان جندب يحكمها، ولكن القرائن التاريخية تشير إلى أنه كان يحكم قبائل عربيةً تقطن جنوب الشام، أو ما عُرف بمنطقة بادية الشام.
ويرجح جواد أن جندب كان يحكم تلك المنطقة، ويأخذ الإتاوات من الحكومات الكبيرة وقتها، مقابل حماية حدودها، والاشتراك معها في الحروب.
ولكن بعد ذلك، حدثت مواءمات، بالإضافة إلى ابتكار سياسة توطين العرب الشماليين ودمجهم إدارياً في الدولة الآشورية؛ ففي عهد تغلث فلاسر الثالث عام 734 ق. م، تقرر تنصيب عربي يُدعى إدبئيل في وظيفة kepu قيبو، أي والياً على منطقة تسمى "مصري"، و25 موضعاً من عسقلان.
بعد ذلك قرر الملك سرجون الثاني (727-705 ق.م)، دمج البدو الرحّل المقيمين جنوب الشام، في النظام الإداري الآشوري، وأسكن مجموعات منهم مدينة السامرة (جبال نابلس الفلسطينية حالياً)، بعد أن قضى سلفه الملك الآشوري "تجلات بلاسر" أو "تغلث فلاسر" على مملكة إسرائيل اليهودية المقامة فيها، وإجلائه أغلب أهلها من اليهود عنها.
العرب مواطنون آشوريون مميزون
كانت المجموعات العربية في السامرة أو على الحدود، تُمنح معاملةً تفضيليةً على المجموعات السكانية الأخرى، حسب ما رصد إسرائيل إيفال.
ردَّ الآشوريون إلى العرب ما سلبوه منهم في الغزوات السابقة، وكانت الضرائب التي تُفرض عليهم أقل مما يُفرض على مجموعات سكانية أخرى داخل الدولة الآشورية، ومنحوا زعماءهم سلطات سياسيةً واسعةً، مع الاكتفاء بتعيين موظفين إداريين أو مستشارين آشوريين لهم، وكان الهدف السرّي لعمل هذا الموظف أو المستشار أن يكون رقيباً أو جاسوساً للدولة على شيخ القبيلة.
الهدف من هذه السياسة كان تقليل الحاجة إلى النشر المباشر لقوات آشور العسكرية على حدود الدولة الجنوبية، وذلك لتأمين حركة التجارة، ودعم الدولة في مواجهة الأطماع المصرية والبابلية العسكرية في أراضيها، حسب ما يوضح إيفال.
بالإضافة إلى دعم العرب لملوك المدن السورية والفلسطينية الصغيرة الخاضعة للسلطة الآشورية عسكرياً، حسب ما يرصد ضرغام الدباغ في كتابه "الشرق في عيون الغرب".
إمارة عربية في فلسطين قبل الميلاد بـ500 عام
مع الوقت أصبح لتلك القبائل العربية في السامرة نفوذ كبير، وتجلّى ذلك في انصياعهم لقيادة موحدة، وتشكيلهم إمارة عربية، ينادى زعيمها بـ"أمير العرب".
من أشهر هؤلاء القادة كان "جُشَم العربي"، الذي تحالف مع سنبلط الحوروني، وطوبيا العبد العموني، في محاولة لإحباط إعادة بناء سور القدس، في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد، على يد النبي اليهودي "نحميا"، خوفاً من إعادة قيام مملكة اليهود وعودة نفوذهم في المنطقة، حسب ما جاء في التوراة.
وفي كتابه "بروتوكولات حكماء صهيون"، يستنتج الباحث والمؤرخ عجاج نويهض، أن جشم العربي كان من سلالة عربية حكمت السامرة، وآل إليه حكمها بالوراثة عن أجداده.
ولكنه لا يستبعد أن يكون جشم هو نفسه حاكم مملكة قيدار العربية، التي حكمت منطقة شرق نهر الأردن، منذ القرن السابع قبل الميلاد، في العهد الآشوري، بحسب النقوش الأثرية التي عُثر عليها في بيت أتوم أو ما يُعرف بـ"تل المسخوطة" بالقرب من مدينة الإسماعيلية، شرق مصر.
وتشير المصادر والاكتشافات الأثرية، إلى أن جشم كانت له السلطة العليا جنوب الشام وشمال شبه الجزيرة العربية، وفي عهده نشطت التجارة بشدة بين العرب والشوام، حيث عُثر على آثار لسلع عربية في مواضع مختلفة من فلسطين الحالية، بحسب جواد علي.
النبط... حين عُبِدَت أصنام الحجاز في شرق الأردن
بعد ذلك، وفي منطقة شرق نهر الأردن، قامت مملكة النبط، ولا يُعرف بالتحديد متى بدأ النبط بالتوافد على تلك المنطقة، ولكن بعض الآراء تميل إلى أنهم بدأوا بالاستقرار في تخوم الشام والعراق منذ عهد الإمبراطور الآشوري، آشور بانيبال (تـ627 ق.م)، أي بعد أقل من 100 عام من توطين سرجون للعرب في السامرة، وتدشين سياسة الدمج الإداري معهم.
ومع الوقت، كوّن النبط مملكتهم في فترة ما قبل الميلاد، ولكن لم يكتشف العلماء متى تأسست تحديداً، أو من كان أول ملوكهم، ولكن التواريخ التي جمعها جواد علي والمرتبطة بملوكهم تدور بين القرن الثاني والقرن الأول قبل الميلاد.
والرأي الشائع بين العلماء أن النبط عرب، وإن استعملوا اللغة الإرمية في كتاباتهم، ولكن أسماءهم كانت عربيةً خالصةً، وعبدوا الأصنام المعروفة عند عرب الحجاز نفسها، ورصّعوا كتاباتهم الإرمية بكثير من الألفاظ العربية، حسبما يوضح جواد علي.
وكان النبط من عرب الحجاز بالأساس ثم نزحوا شمالاً، وعملوا في الزراعة والتجارة وحرف أخرى، واتخذوا من مدينة البتراء عاصمةً لهم، وذهب البعض إلى أنهم من عرب اليمن وليسوا من عرب الحجاز، وهناك رأي ثالث لا يربطهم بالعرب مطلقاً، ولكن جواد علي يرجح أنهم من عرب الحجاز.
العلاقة بين العرب والآشوريين كانت متوترةً في الغالب، وكثيراً ما دخلت القبائل العربية في صراعات عسكرية مع الدولة الآشورية، وتحالفت مع ممالك سورية صغيرة ضد الآشوريين
امتد نفوذ دول النبط بين مصر والشام وشبه الجزيرة العربية، مستغلين موقعهم الجغرافي شمال شرق شبه الجزيرة، في تسيير حركة التجارة بين هذه البلدان، وفرض ضرائب عليها، ما عاد عليهم بفوائد اقتصادية كبيرة. وكان ميناء غزة هو الميناء المفضل للنبط على البحر الأبيض المتوسط، وفي بعض الأوقات ضمت المملكة إلى أراضيها كلاً من دمشق وسهل البقاع والأقسام الجنوبية والشرقية من فلسطين وحوران.
انتهت المملكة وأصبحت تابعةً لحاكم سوريا، ضمن الإمبراطورية الرومانية في بدايات القرن الثاني الميلادي، وآخر حاكم نبطي حفظته المصادر هو "مالك الثالث"، الذي حكم بين عامي 101 و106 بعد الميلاد، وظل الرومان يسيطرون عليها حتى الفتح العربي الإسلامي.
تدمر... العرب داخل سوريا
جنوب سوريا، وفي مدينة تدمر، خلال فترة زمنية يرجَّح أنها كانت في القرون الميلادية الأولى، كان للعرب مكان، حيث قامت مملكة تدمر. وبرغم وجود محاولات يهودية لاهوتية لنسب تاريخ قيام تدمر إلى القرن الثالث قبل الميلاد، وأنها من أعمال النبي والملك سليمان، إلا أن صاحب موسوعة "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" يؤكد عدم وجود دليل قوي من كتابات أثرية للتدمريين يعود إلى ما قبل الميلاد، وهو ما عليه أغلب المستشرقين.
كتابات تدمر الأثرية مكتوبة بالإرمية، إلا أنها تشمل كلمات عربيةً واضحةً، وعبد أهلها أصناماً عربيةً معروفةً، بجانب الأصنام الإرمية. ويوضح جواد علي أن ثقافة تدمر كانت خليطاً بين العربية والإرمية واليونانية واللاتينية.
وتُظهر كتابة عُثر عليها في مقبرة هناك، أن القوافل التجارية بين العراق والشام كانت تمر من المدينة، التي فيها قبائل عربية تأخذ الإتاوات لقاء تأمين القوافل.
ضمّ الرومان تدمر إلى إمبراطوريتهم في القرن الثاني الميلادي، ومع الوقت صاروا يسمّون أنفسهم بأسماء رومانية، وذابوا في الدولة الجديدة، التي ظلت تحكم المنطقة حتى دخلها العرب المسلمون في القرن السابع الميلادي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...