وسط حياة تُصوِّرها لنا المصادر العربية التراثية على أنها كانت ذكورية ومعادية للنساء، من المدهش أن نجد أن أشهر الآلهة عند العرب كانوا إناثاً، وقد عظمتهنّ قريش وزائرو مكة من الحجاج والتجار، في ظل سيادة عقيدة تصف هؤلاء المعبودات الإناث بأنهن "بنات الله".
ورغم ورود تسمية "بنات الله" في المصادر التاريخية الأولى، فإن تعبيرات أخرى وردت، ولعلّ ذلك بتأثير من الثقافة الإسلامية التي كُتبت في ظلها، وهي أن بعض هذه المعبودات كنّ مسكونات بشيطانات.
عن عبادة الأصنام بين العرب، تنسب المصادر التاريخية بدياتها إلى أحد وجهاء مكة. فقد روى أبو المنذر هشام بن السائب الكلبي (ت. 204هـ) في كتابه "الأصنام"، أن عمرو بن لحي الخزاعي "مرض مرضاً شديداً، فقيل له: إن بالبلقاء من الشام حَمَّة (بئر للاستشفاء) إنْ أتيتها برأت. فأتاها فاستحم بها، فبرأ، ووجد أهلها يعبدون الأصنام فقال: ما هذه؟ فقالوا: نستسقي بها المطر، ونستنصر بها على العدو. فسألهم أن يعطوه منها، ففعلوا، فقدم بها مكة ونصبها حول الكعبة".
اتسعت مكة لأصنام شتى. وبحسب الباحث الفلسطيني محمود سليم الحوت، في كتابه "في طريق الميثولوجيا عند العرب"، فإنه "لأسباب سياحية وتجارية واقتصادية كانوا يرحبون بكل أنواع الأصنام والأوثان لتشجيع عُبَّادها على زيارة مكة، مما أحدث حراكاً دينياً واجتماعياً واقتصادياً، وهكذا تحوّل الفضاء المكي إلى معرض للأصنام والأوثان بلغت ثلاثمائة وستين صنماً".
فضاء مكة عبَّر عن حياة دينية متنوعة، ضمت معبودات من الإناث، نسجت لها العرب عدة تصورات خيالية عن روابطها في ما بينها، وفضلت بعضها على بعض، وسردت عن كل صنم حكايات، ضاع الكثير منها واحتفظت المصادر ببعضها.
نائلة... معبودة ذات سمعة سيئة
تتميز نائلة بكونها معبودة أصيلة، غير وافدة، لم تأتِ مع عمرو بن لحي من الشام، ولم تكن ضمن الأصنام الخمسة المنسوبة إلى قوم نوح: ود، سواع، يغوث، يعوق، نسرا، والتي يُروى أن موج الطوفان قذفها على شاطئ جدة، وتطوع أحد الجن فأرشد عمرو بن لحي إلى مكانها قائلا له: "ايت ضف جدة، تجد فيها أصناماً مُعدة، فأوردها تهامة ولا تهاب، ثم ادع العرب إلى عبادتها تُجاب"، وفقاً لرواية أبو المنذر الكلبي في كتابه "الأصنام".
وعن قصة نائلة، يحكي الكلبي أن اسمها نائلة بنت زيد من جرهم، وجاءت من اليمن في وفد الحُجاج، مع عشيق لها من نفس قبيلتها يسمى إساف بن يعلي، فـ"دخلا الكعبة، فوجدا غفلة من الناس وخلوة في البيت، ففَجَر بها في البيت، فمُسخا، فأصبحوا فوجدوهما مسخين".
ورغم تحوّلهما إلى مسخين، أدخلهما العرب وسط الآلهة. ويعلّق الحوت على ذلك باعتباره نوعاً من "تلبس المقدس بالدنيوي أو العقاب من أجل الفطري والغريزي فينا، أو قد يكون إقصاء المادي والطبيعي أو هو امتزاج الأسطوري بالحقيقي، إنه درس ترهيبي لكل مَن تسول له نفسه أن يتجاوز المقدس".
وفي مصيرهما، يروي الكلبي قصة من صنف الخوارق مفادها أنه "لما كسرت الأصنام كسراً، خرج من أحدهما امرأة سوداء شمطاء، تخمش وجهها، عريانة، ناشرة الشعر، تدعو بالويل، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فقال: تلك نائلة قد أيست أن تعبد ببلادكم أبداً".
مناة... صاحبة سيف "ذو الفقار"
هي واحدة من أقدم المعبودات عند العرب قبل الإسلام. وصفها أبو الوليد الأزرقي (ت. 250هـ)، في كتابه "أخبار مكة"، بأنها كانت "للأوس والخزرج وغسان من الأزد، ومَن دان بدينهم من أهل يثرب وأهل الشام، وكانت على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد". وقديد اسم موضع في مكة.
أما الكلبي، فروى أن هذيل وخزاعة عظمتها، وأن ملك غسان الحارث بن أبي شمر الغساني أهدى لها سيفين، الأول اسمه "مخذم" بمعنى القاطع، والثاني "رسوب" بمعنى النافذ، وورد ذكرهما في شعر علقمة الفحل.
وفي بحثه عن حقيقة اسمها، ذكر سليم الحوت أن ياقوت الحموي اجتهد "في معرفة اشتقاق هذا الاسم، فيقول ولعله يكون المَنا وهو القدر في قولهم: ولا تقولن لشيء سوف أفعله/ حتى تَبين ما يمنى لك الماني. أي ما يقدر عليك".
"كانوا يقولون إنّ الملائكة وهذه الأصنام بنات الله، وكانوا يعبدونهم ويزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى"
وبحسب الباحث التونسي الساسي بن محمد الضيفاوي، في كتابه "ميثولوجيا آلهة العرب قبل الإسلام"، فإن مناة "إله من الثالوث العربي المكي تسمت بالغرنوق، والغرنوق طائر مائي أبيض، فلعلها آلهة في شكل طائر مما يفسر لنا مرة أخرى هذا العمق الطوطمي في ديانة عرب الجاهلية". ويقصد بـ"الطوطم" ارتباط بعض القبائل بتقديس طائر أو حيوان وإرجاع نسب القبيلة إليه.
انتهت مناة إلى تحطيمها على يد علي بن أبي طالب الذي جمع قلائدها وهداياها، واستولى على سيفيها الشهيرين. ووفقاً للكلبي، "وهبهما النبي صلى الله عليه وسلم لعلي، فيقال إن ذا الفقار سيف علي أحدهما".
العُزى... السعيدة أم اليائسة؟
لارتباط مكانها بالشجر، ذكر المؤرخ المصري السيد عبد العزيز سالم، في كتابه "تاريخ العرب في عصر الجاهلية"، أنه "أصبحت العزى إلهة الخضر، حينما قامت على ثلاث سمرات (شجر الطلح) في وادي نخلة، وصعدت إلى السماء في صورة امرأة حسناء وعرفت بالزهرة".
احتلت المرتبة الثانية بعد مناة. عظمتها قريش وخصتها بالزيارة والهدايا، وأقسم بها الشاعر درهم بن زيد الأوسي: "إني ورب العزى السعيدة/ والله الذي دون بيته سرف".
خوفاً من ضياع مكانتها، حكى الكلبي أن عبد العزى بن عبد المطلب المعروف بأبي لهب زار أبا أحيحة سعيد بن العاص بن أمية في مرضه الذي مات فيه "فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك يا أبا أحيحة، أمن الموت تبكي ولا بد منه؟ قال: لا ولكني أخاف أن لا تُعبد العزى بعدي. قال أبو لهب: والله ما عُبدت حياتك لأجلك ولا تُترك عبادتها بعدك لموتك. فقال أبو أحيحة: الآن علمت أن لي خليفة".
ويشير الساسي الضيفاوي إلى اختلاف المصادر حول طبيعة صنم العزى، ويقول إن صورتها "تتأرجح بين الصنم والشيطان والطائر، فهي واحدة من الغرانيق العلى أي الطيور البيض، وقيل كانت شجرة أو ثلاث سُمرات، وقد جعلوها بيتاً فوق مرتفع".
بعد فتح مكة، بعث النبي إلى صنمها خالد بن الوليد (ت. 21هـ) في ثلاثين فارساً فقطع أشجارها وهدم بيتها، وبحسب رواية الكلبي في كتابه "الأصنام"، بعد أن قطع خالد شجرتها، عاد إلى النبي فسأله: هل رأيت شيئاً؟ ولما كانت إجابته بالسلب أمره النبي أن يرجع للعزى فيتأكد من هدمها تماماً وقطع أشجارها.
"ليس من السهل تكوين فكرة صحيحة ووافية عن مفهوم الدين والتدين عند عرب الجاهلية، وكيفية عباداتهم لآلهتهم، وكيفية تصورهم لها، لعدة اعتبارات"
ويستكمل الأزرقي الرواية في "أخبار مكة" بأن خالد "انتهى إليها، وجرَّد سيفه، فخرجت إليه امرأة سوداء عريانة ناشرة شعرها، فجعل السادن (خادمها) يصيح بها، قال خالد فأخذني اقشعرار في ظهري، فجعل يصيح بها ويقول: أعُزى شُدي لا تكذبي/ أعزى ألقي القناع وشمري/ أعُزى إنْ لم تقتلي المرء خالداً/ فبوئي بإثم عاجل وتنصري. وأقبل خالد بن الوليد بالسيف إليها وهو يقول: كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك. فضربها بالسيف فجزلها باثنتين ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: نعم، تلك العزى قد أيست أن تعبد ببلادكم أبداً".
اللات... الصخرة المقدسة
يعود اسمها، وفقاً للكلبي والأزرقي، إلى قصة رجل كان يلتّ (يعجن) السويق (نوع من الطعام) عند صخرتها، فسُميت صخرة اللات. عظّمتها قريش وكان سدنتها من ثقيف، وحدد الكلبي موقعها بأنها "كانت في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى اليوم".
هذه القصة ينفيها سليم الحوت في كتابه "في طريق ميثولوجيا العرب". يذكر أن "ما يراه العرب من أن اللات نسبة إلى صخرة كان يهودي يلت عندها السويق، فسميت صخرة اللات، فلا يخرج عن كونه حديث خرافة وضعوه لعجزهم عن معرفة أصلها وكيفية دخولها بينهم وتوغلها في الجزيرة حتى وجدت لها مكاناً في نواحي الطائف، ولرغبتهم في إيجاد تعليل لوجودها".
في كتابه "دلائل النبوة"، وثَّق أبو بكر البيهقي (ت. 458هـ) نهاية العُزى على يد المغيرة بن شعبة (ت. 50هـ) الذي خرج لتحطيمها أمام جمهورها من الطائف، وتظاهر بالسقوط أمامها، فـ"ارتج أهل الطائف بصيحة واحدة وقالوا: أبعد الله المغيرة قد قتلته الربة. وفرحوا حين رأوه ساقطاً، وقالوا: مَن شاء منكم فليقترب وليجتهد على هدمها، فوالله لا تُستطاع أبداً. فوثب المغيرة بن شعبة فقال: قبحكم الله يا معشر ثقيف إنما هي لكاع حجارة ومدر، فاقبلوا عافية الله واعبدوه. ثم ضرب الباب فكسره ثم علا سورها وعلا الرجال معه فما زالوا يهدمونها حجراً حجراً حتى سَوّوها بالأرض".
الغرانيق العلى
ثلاثة آلهة عبدتها قريش وسمتها بالغرانيق العلى، وهي اللات والعزى ومناة، وضمتها مع الملائكة ووصفتها بـ"بنات الله". ويروي الكلبي أن قريش كانت "تطوف بالكعبة وتقول: واللات والعزى ومناة الثلاثة الأخرى فإنهن الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لتُرتجى. كانوا يقولون بنات الله وهن يشفعن إليه".
هذه العقيدة أثارت دهشة الزمخشري (ت. 538هـ)، إذ جمعت العرب بين عبادة الأنثى ووأدها، وفي تفسيره لقوله {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى. أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى. تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} (سورة النجم 22:19) قال: "كانوا يقولون إنّ الملائكة وهذه الأصنام بنات الله، وكانوا يعبدونهم ويزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى مع وأدهم البنات"، وفقاً لتفسيره "الكشاف".
وبحسب الزمخشري في تفسيره لآيات سورة النجم، فإن "اللات والعزى ومناة، أصنام كانت لهم، وهي مؤنثات"، وحول أنوثتها ذكر: "يجوز أن يراد أن اللات والعزى ومناة إناث، وقد جعلتموهن لله شركاء، ومن شأنكم أن تحتقروا الإناث وتستنكفوا من أن يولدن لكم وينسبن إليكم، فكيف تجعلون هؤلاء الإناث أنداداً لله وتسمونهن آلهة".
تحطيم الأصنام
في العام الثامن للهجرة، عاد النبي لفتح مكة وأمر بهدم أصنام العرب، في مشهد أبرزته مؤلفات السيرة. ففي "السيرة النبوية" لابن هشام، "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح على راحلته، فطاف عليها وحول البيت أصنام مشدودة بالرصاص، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يشير بقضيب في يده إلى الأصنام، ويقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً. فما أشار إلى صنم منها في وجهه إلا وقع لقفاه، ولا أشار إلى قفاه إلا وقع لوجهه".
ورغم توافر مثل هذه المعلومات عن الحياة الدينية عند العرب قبل الإسلام، فإن هناك عدة عوامل تؤكد أن الضائع أكثر من المتوفر. وبالعودة إلى كتاب الساسي بن محمد الضيفاوي، "ليس من السهل تكوين فكرة صحيحة ووافية عن مفهوم الدين والتدين عند عرب الجاهلية، وكيفية عباداتهم لآلهتهم، وكيفية تصورهم لها، لعدة اعتبارات لعل أهمها عزوف المؤرخين الإسلاميين والرواة والإخباريين عن الخوض في أمور وقضايا حاربها الإسلام".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...