في لقطة من المسلسل الكوميدي "مو"، من إنتاج نتفلكس، يغضب محمد، أو مو، وهو لاجئ فلسطيني في الولايات المتحدة، عندما يقابل بائعة تعرض عينات من منتج جديد هو الحمص بالشوكولا، لإحساسه بالإهانة لتراثه وثقافته. يخرج من جيبه قارورة زيت زيتون يحملها معه دائماً ويطلب من البائعة تذوقه مع الخبز فقط لتختبر النكهة الأصلية للطعام الفلسطيني.
أُحسّ بنفس الشعور وأنا أتجوّل في تورونتو. يُثير استغرابي الهوس الكندي، والغربي عموماً، في مزج الأطعمة وابتكار أطباق هجينة من مطبخين غريبين عن بعضهما تماماً.
فوجئت بأن الحمص بالشوكولا ليس نكتة على الإطلاق، فالذوق الغربي يستسيغ فعلاً هذا الخليط الذي يبدو غريباً للقادم من أرض الفتة والحمّص
فوجئت بأن الحمص بالشوكولا ليس نكتة على الإطلاق، فالذوق الغربي يستسيغ فعلاً هذا الخليط الذي يبدو غريباً للقادم من أرض الفتة والحمص وبوز الجدي*.
تجعلني طريقة المزج هذه أتخيل الذوق الغربي كأخطبوط يمد أذرعه بعشوائية ليخطف فاكهة ولحماً وتوابل وأعشاباً من هنا وهناك، ويخلطها معاً كيفما اتفق.
تَخبِصُ أذرُع الأخطبوط كل شيء ببعضه: تُخبز فطائر الجبنة العكاوية مع الأفوكادو، وتُزين البيتزا بالفلافل والشاورما، ويُخلط الحمص، أو "المسبحة" بلهجة دمشق، بالشوكولا أو الأفوكادو أو البيستو أو الهالابينيو.
هناك مطعم في تورونتو يدعى راستا باستا، ويعتمد على خلط المطبخ الجامايكي بالإيطالي، ومطعم آخر يقدم السوشي بوريتو، وبيتزا السوشي، كما أن هناك مطاعم تقدم السوشي بمكونات المطبخ المكسيكي.
دعاني صديقي مرة لتناول السوشي في مطعم ياباني يحبه لأنه يقدم السوشي بطريقة عصرية ولا تلتزم بالطرق المعتادة.
يسألني صديقي وهو يقضم قطعة سوشي محمّرة بالزيت مثل دجاج كنتاكي ويشاهد تعبير الاشمئزاز على وجهي:
"ومالمشكلة؟ هو طعام في النهاية. لماذا علينا أن نلتزم بوصفة محددة؟ من قرّر أن السوشي يجب أن يُقدم نيئاً؟"
أُجيب بذهول: "اليابانيون أنفسهم؟ لمئات السنين؟". يضحك لغيظي ويرد بأن اليابانيين أنفسهم يقدمون السوشي المقلي، سواء في كندا أو في ألمانيا أو في اليابان.
سواء عبر الطريقة الغربية في دمج الأشياء ببعضها، أو بطريقة يابانية بحتة، فالطعام الياباني يتطور بشكل مستمر.
الطعام ذاكرة مجتمعية
يؤلف الطعام جزءاً من الذاكرة المجتمعية، ويختزن التغييرات الاجتماعية والأحداث الزمنية بصورة رمزية.
ظهرت الكثير من الأطباق النباتية مثلاً عند حلول المجاعات والقحط أو الكوارث البيئية، وتعكس بالمقابل تفضيلات المكونات ونكهات البيئة الطبيعية والطقس.
يُخبرنا الطعام أيضاً الكثير عن القيم الدّينية والاجتماعية والمناسبات والتقاليد والهامة.
من الطبيعي أن يعكس الطعام الحياة المعاصرة والتغيرات الاجتماعية المرافقة.
مالمشكلة في أن نقبل ببساطة إذاً أن الطعام يتطور، وأن ذائقتنا تتطور؟ ألا يجدر بنا أن نكون ممتنين على الأقل لأننا لا نتناول الحبوب الخضراء والصفراء والزرقاء بديلاً عن الطعام، كما في قصص الخيال العلمي القديمة.
لا مشكلة في التطور التلقائي، فمن البديهي أن يُعبر تطوره عن تطور المجتمع ذاته.
يظهر هذا في الذائقة اليابانية في المزيد من الاصطفاء والهوس بالكمال، فالكثير من الأطعمة المصنفة الأفضل والأغلى عالمياً تأتي من اليابان، مثل لحم أبقار الواغيو والكوبي، وبطيخ يوباري الأصفر الذي يزيد سعر حبة واحدة منه مئتي دولار أمريكي، وأسماك التونا الضخمة التي تُباع بمزادات يومية بأسعار خيالية، حيث بيعت أغلى سمكة تونا على الإطلاق بمبلغ 3.1 مليون دولار أمريكي في عام 2019.
يعود سبب الغلاء الفاحش لهذه المكونات للذائقة اليابانية بطبيعة الحال، فعجول الواغيو، على سبيل المثال، تتمتع بمستوى مُعين من الدهون، بالإضافة إلى جودة وطعم معينين يسببهما تناول أعشاب مناطق محددة ذات تُربة خاصة في اليابان، وسبب غلاء أسماك التونا الكبيرة هو تفضيل اليابانيين لطعم لحم التونا الذي يحتوي نسباً أكثر من الدهون (أوتورو)، ولا يتواجد ذلك إلا في أسماك التونا التي يزيد وزنها عن وزن معين، فالموضوع هنا ارتقاء بذوق معين واصطفاء بشكل مستمر يزيد من جودة الطبق النهائي، وبالتالي يجسد تطور الثقافة.
حضر اليابانيون السوشي لمئات السنين ولم يخطر لهم تحميره بالزيت أو تحضيره كبيتزا إلا عندما قدموه للجمهور الغربي.
يُضاف طبعاً إلى هذا ملامح الثراء والرفاهية الاقتصادية التي تتمتع بهما اليابان لتنعكس بدورها في الطعام.
من ناحية أخرى، فإن مفهوم الأوماكاسه Omakase، وهو نمط في تقديم السوشي الفاخر الذي تتنافس المطاعم اليابانية الفاخرة من أجل تقديمه بأجود المكونات وأصناف السمك الطازجة، يُعود في أُصوله إلى مطاعم الشوارع والأسواق حيث يتناول الصيادون وعمال السوق وجبة الغداء مما يتوفر لدى المطعم من صيد اليوم.
ربما يكون اليابانيون أنفسهم من يقلي السوشي، وربما يكون العرب هم أنفسهم من يُسوقون للحمص بالشوكولا، إلا أن المكون الغريب عن الثقافة واضح في الحالتين، سواء كانت طريقة التحمير الغزير الغربية البحتة، أو الشوكولا التي تعشقها أوروبا.
الدافع في الحالتين إرضاء الذوق الغربي، لا تطور طبيعي للطعام.
حضر اليابانيون السوشي لمئات السنين ولم يخطر لهم تحميره بالزيت أو تحضيره كبيتزا إلا عندما قدموه للجمهور الغربي.
الشاورما مثال رائع لهذا، إذ تُسمى وتُحضر بشكل مختلف في كل بلد. فيغلب في سوريا تحضير شاورما الدجاج مع صلصة الثوم والمخلل.
لا يضع الأتراك مع الدونر سوى صلصة الطماطم، أو الصلصة الحارة، والكثير من الخضار والملفوف أو الخس. أما في اليونان، فيضيفون الطماطم والخيار والثوم والبصل وصلصة التزاتزيكي المصنوعة من اللبن.
أن نحضر سوشي المكدوس وفتة الشوكولا وملوخية جراد البحر، وندعو هذا تطوراً للمطبخ السوري، فسأشك في هذا
تطورت الذائقة بشكل مختلف في كل منطقة بما يتناسب مع الثقافة والمكونات والأذواق المحلية. وفي المقابل، تُعامل الشاورما كمكون إضافي هنا، فتستخدم لتزيين طبق البوتين الكندي (البطاطس المقلية مع صلصة اللحم وقطع الجبن)، أو تُحشى في البوريتو المكسيكية، أو تُزين البيتزا!
يُعرف معجم كولينز المزج بأنه نمط طهو يعتمد استخدام الطرق الغربية والمكونات الشرقية، بينما يُشير معجم أوكسفورد إلى مزج المكونات الأوروبية و"الشرقية".
هو إذاً مفهوم غربي بحت يختلف عن التمازج التلقائي بين الأطعمة بسبب احتكاك الثقافات مع بعضها. تنتثر التوابل الهندية مثلًا على طول طريق الحرير، وتختلط مع الموز المشوي والفاصوليا والذرة لتؤلف المطبخ الكريولي، الابن الهجين للتزاوج الاستعماري بين الثقافة الهندية والكاريبية، أو مطبخ الكاجون. حتى المزج له "أصوله"، إن صحّ التعبير.
أما أن نحضر سوشي المكدوس وفتة الشوكولا وملوخية جراد البحر وندعو هذا تطوراً للمطبخ السوري، فسأشك في هذا.
*بوز الجدي من أشهر المطاعم الدمشقية التي تقدم المأكولات الشعبية مثل الفتات والفول والحمص والفلافل
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...