كانت الصوفية، منذ أن نشأت، محل إدانة واستنكار من العلماء والساسة، إلا أن الآية انقلبت وبدأت الصوفية بالظهور واللمعان كحركة دينية تدعو للسلام والتسامح. في المقابل، بدأت الجهود نحو حنق الإسلام السياسي وجهوده في محاربة التصوف، بعد سنوات من الدعم السياسي والعلاقة المتوترة والمتشنجة وتقاذف الاتهامات والتشكيك في الحق بين الطيفين، وما زالت الصوفية اليوم تواجه أفكاراً مغلوطةً وصوراً نمطيةً نجح الإسلام السياسي في ترسيخها لدى الشعوب، وساهم بعض المتصوفين في تكريسها من خلال ممارستهم لسلوكيات ينبذها كبار أعلام التصوف.
ثُلث الطرق الصوفية عبارة عن عائلات تعهدت التربية والطريقة ويتولى أبناؤها طريق آبائهم بالوراثة.
الصوفية والصور النمطية
شيخ الطريقة الهاشمية الشاذلية في الأردن، إسماعيل الكردي، يقول لرصيف22: "هناك من يدّعي التصوف ويشوش على الصوفية الحق، وهناك انحرافات تمارسها بعض الطرق تنمّ عن جهل، مثل ادّعاء بعضهم القدرة على التعامل مع الجن وإظهار الكرامات، و'ضرب الشيش' المتمثل في وضع السيف في البطن وإخراجه من منطقة الظهر".
مدير معهد المعارج للدراسات الشرعية عمر القدومي، يقول لرصيف22: "الصوفية تمثّل الركن الثالث من أركان الإسلام، أي الإحسان الذي يتناول الاستقامة ومنهج العمل الروحي والأخلاقي".
ويضيف القدومي: "هناك بعض الممارسات الصوفية التي تحتاج إلى إدانة شرعية لعدم ارتباطها بسند ديني ومخالفتها للشريعة، فبعض الممارسات لم تلتزم بالمنهج الصوفي وتمثُّل قيمه ونمطه وإحسانيته. وبالرغم من ذلك، الجسم الصوفي في العالم الإسلامي يتصدره الكثير من العلماء والمفتين والقادة الروحانيين الذين لهم مطالبات بتصحيح مسار التصوف ورفض تلك السلوكيات".
ويشير القدومي إلى ضرورة "العودة وسؤال أهل الذكر قبل إصدار أحكام مسبقة وتكوين انطباعات عن الصوفية التي عانت من الخطاب الديني المتشدد في المنطقة العربية، والتي ساهمت في إلصاق تهم مستعجلة بالتصوف عادّةً إياه جامداً وموالياً مشاريع استعماريةً، وفاقم من تلك المعاناة الزمن المادي والعولمة اللتان جعلتا خطاب الروح أمراً مستغرباً ومستهجناً".
الخبير في الحركات الإسلامية حسن أبو هنية، في حديثه إلى رصيف22، يقول: "الصوفية تيار اجتماعي، في البداية كانت تدعو للزهد والابتعاد عن الدنيا والسلطة السياسية، وكانت بشكل فردي ثم تمأسست بتشكيل الطرق الأولى الكبرى، كالقادرية والرفاعية والشاذلية والنقشبندية، وأصبحت داخل الصوفية مدارس وتيارات، وتختلف سلوكيات كل طريقة عن سلوكيات الأخرى؛ مثلاً هناك طرق يؤمن أتباعها بالحلول والاتحاد وبعضها يراها بدعةً"، مشيراً إلى أن "التصوف نزعة وظاهرة إنسانية تخترق جميع الأديان ووُجدت في جميع الفلسفات وهي كظاهرة لا تقتصر على الدين الإسلامي ولكن لكل منها خصوصيتها".
ويرى الباحث ومؤلف كتاب "أسرار الطريق الصوفي"، د. محمد أبو رمان، في حديثه إلى رصيف22، أن "بعض طرق الصوفية تقوم بسلوكيات تتضمن خزعبلات وخرافات، وهناك طرق انحرفت بشكل كبير عن المنهج الصوفي الذي وضعه علماء التصوف الأوائل، وتالياً هذه السلوكيات ساهمت في نفور الثقافة الاجتماعية من التصوف، فبعض المظاهر التي تعدّها الصوفية كرامات يعدّها المجتمع والرأي العام أمراً مقلقاً، إلا أن هذه الانحرافات الصوفية منتقَدة من كبار أعلام الصوفية".
الموقف الرسمي الأردني من التصوف
الخبير في الحركات الإسلامية حسن أبو هنية، يقول: "السياسة الدينية في الأردن داعمة للتصوف، خاصةً مؤخراً بعد الانقلاب على السلفية"، ويعزو أبو هنية الأسباب إلى "غياب الطموح السياسي للصوفية في الأردن حيث التدين الشعبي والصوفي جزء من تاريخ المجتمع، وهذا ما جعله محط اهتمام ورعاية رسميتين".
ويشرح الباحث أبو رمان أنه "خلال العقود الماضية كانت هناك محاربة ووصم للتصوف بوصفه أقرب إلى الرجعية والدروشة، وهذه الوصمة ساهمت فيها الأنظمة العربية والإعلام، ولكن اليوم الأمر اختلف فعند المقارنة بين صورة المتصوفين في الأفلام العربية قبل 20 سنةً، والتي كانت تقرن التصوف بالشعوذة، وصورتهم اليوم، نجد أنها بدأت تُظهر التصوف على أنه رسالة للتسامح والروحانية والابتعاد عن تسييس الدين".
ويضيف: "هذا كله ساهم في تواري المتصوفين عن الأضواء، لأنهم موسومون في المجتمع، أما اليوم فانقلبت الصورة رأساً على عقب، وهذا مرتبط بمرحلة الحداثة وما بعد الحداثة، فبعد أن كان يُنظر إلى الروحانيات كلها بوصفها دجلاً وغير منطقية، بدأت النظرة بالتغير وأصبح هناك رد اعتبار للتصوف".
ويرى أبو رمان، أن "الثقافة والصورة النمطية اللتين تكونتا عن الصوفية، لا يمكن أن تختفيا في يوم وليلة، خاصةً بعد 'سلفنة الثقافة الاجتماعية'، بمعنى أن انتشار السلفية بشكل واسع بدعم حكومي وكونها تاريخياً الخصم اللدود للتصوف الذي جعلته سطحياً وبدعةً، انعكس على الثقافة الاجتماعية. أما اليوم، فاختلف المشهد؛ السياسات الرسمية العربية انقلبت ضد السلفية، وبدأت تتعاطف مع الصوفية على أنها بديل عن الإسلام السياسي، وهذا ما أتاح المجال للصوفية للبروز قليلاً".
هل يورث مشايخ الصوفية الخلافة لأبنائهم؟
يجيب الشيخ القدومي: "نملك ثلاثة اتجاهات للتصوف في الأردن؛ هناك عائلة تعهدت التربية والطريقة وتالياً يتولى أبناؤها طريق آبائهم، ويشكلون ثلث الطرق، وهناك ثلث من الطرق عبارة عن شباب بعضهم حديثو عهد في التوبة وبعضهم من صغرهم تربوا على هذا المسلك وكُتبت له الأهلية وساهم المشايخ في تصديرهم وتقديمهم، والثلث الأخير من ظهروا في الأمر ووجدوا أنفسهم في المسلك الصوفي، ولا يمكننا إغفال أن هناك عدداً لا يستهان به من المتصوفين الذين لا ينتمون إلى أي طريقة أو أي زاوية صوفية".
بينما يرى الخبير في الحركات الإسلامية حسن أبو هنية، "أن الأصل هو أن لا وراثة في الطريقة أو العهد لكن هناك طرقاً أصبحت تتوارث العهد في الطريقة، خاصةً عندما تحولت الصوفية إلى مؤسسات وبات لديها هيكل شبه إداري وممتلكات مالية بملايين الدنانير، وتالياً الأمر لم يعد منصباً روحياً أو علمياً فقط، هناك تداخل اجتماعي اقتصادي سياسي ومادي، وتالياً من يملك الخلافة سيورث كل هذا".
حضور المرأة في المجتمع المتصوف أكثر وضوحاً منه في الحركات الإسلامية، والعديد من النساء الصوفيات كان لهن دور كبير في هذا المسلك، كما شهدنا حركات نسويةً تخصصت في التصوف مثل القبيسيات والفضاعيات
المرأة والتصوف
الباحثة المتصوفة تسنيم ياسين، تقول لرصيف22: "تجربة المرأة في التصوف مختلفة، ولها خصوصيتها، فطبيعة تكوين آدم من التراب والمرأة من ضلع آدم، أي أن حواء خُلقت من الحياة، وتالياً ملكتها العاطفية أكبر، تجعلها أقرب إلى الأمور الروحانية".
وتضيف: "التصوف عبارة عن أخلاقيات لا عن خلوة كما يعتقد كثيرون، وروح التصوف لا علاقة لها بالمرأة والرجل".
الدكتور أبو رمان يقول: "حضور المرأة في المجتمع المتصوف أكثر وضوحاً منه في الحركات الإسلامية، والعديد من النساء الصوفيات كان لهن دور كبير في هذا المسلك، كما شهدنا حركات نسويةً تخصصت في التصوف مثل القبيسيات والفضاعيات".
ويعزو أبو رمان عدم الظهور النسوي في الصوفية إلى "طبيعة المجتمعات وطبيعة الظاهرة الدينية التي يغلب عليها الظهور الذكوري على الظهور الأنثوي، وهذا لا ينفي أن التصوف منهج يميل إلى عدم الاستعراض، وانتشار ما بعد الحداثة كمدرسة فقهية وبدء ظهور التصوف بشكل أفضل لذا سنشهد خلال الفترة القادمة بروز نساء صوفيات معروفات".
ويرى أبو رمان أن "الصوفية أكثر مدرسة دينية قدّمت للمرأة مساحةً واسعةً من الحقوق والحريات وأنصفتها في النص الديني، وعند تأمل الأشعار الصوفية نجدها تتغزل بأسماء نساء، إذ صوّرت الذات الإلهية بالمرأة وسبب ذلك الخوف من ملاحقة السلطة السياسية والفقهية آنذاك، بالرغم من ذلك نجد تلك الأشعار تربط دائماً الحب والعشق بالتصوف وهذا أمر ظاهر".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...