من منّا لا يكترث ببلبلة السوشال ميديا، أو من منّا لم يعط وقتاً لاكتشاف تلك الأسماء الضالّة، وعندما أقول ضالّة، أعني بهذا التعبير تلك الأسماء التي افتعلت حالة مفاجئة وظهرت من لا شيء، فلم تكن حاضرة ولم تكن مهيّأة لتقدّم ما هو معتاد، للظهور بمظهر يليق بباربي الإنستغرام، على سبيل المثال.
جاءت هذه الأسماء منفّرة وفجّة في طرحها، لم توقفها معايير التألّق من مدخله اللامع بمجوهرات المؤثرات للحصول على لقب "الصيت الحسن" على وسائل التواصل الاجتماعي. أنجي خوري، الاسم الذي اعتدت تصفح أخبارها التي تعرضها دون أي ستر، كنت أنساق تماماً إلى عالمها خلف تلك الشاشة الصغيرة على هاتفي، ولطالما حفّزتني لمعرفة المزيد عنها، فكنت أتابعها بترقّب.
أعاود مراجعة حالاتها المضطربة، وأتساءل: أي امرأة هذه مثقلة بماضيها فأرادت أن تتعرى منه أمام العالم دون أي منافس، وكأن أنجي تضرب عرض الحائط كل من يحاول الثرثرة على جسدها بتفاصيله المحرّمة. لطالما أردت الكتابة عن أنجي تحديداً، لكن ما أعاقني هو التفكير دائماً بالسؤال التالي: ماذا أريد أن أكتب عن هذه الفتاة التي تشبهنا جميعاً، نحن النساء، في الوطن العربي؟
لطالما أردت الكتابة عن أنجي تحديداً، لكن ما أعاقني هو التفكير دائماً بالسؤال التالي: ماذا أريد أن أكتب عن هذه الفتاة التي تشبهنا جميعاً، نحن النساء، في الوطن العربي؟
رحلت أنجي خوري عن يومياتي وتناسيت صفحتها الخاصة وعريّها الفاضح، إلى أن استعاد يوتيوب وهج إطلالاتها مع رابعة الزيات ونيشان. مقاطع من مقابلات سابقة يُعيد تحديثها وكأنه بذلك يقدّمها مجدّداً كمثيرة للجدل في سوق السوشال ميديا.
شاهدت أنجي تبرّر نفسها دون معرفة حقيقة "الفخ" الذي وضعه لها أولئك الذين يعملون خلف ظل النظام الذكوري. نتعلّم أن نحب أجسادنا بالسرّ، وتعلّمنا أيضاً أن نعالج جروح هذا الجسد بالسرّ. عندما قبّلني أحدهم لأول مرة، فعلتها داخل غرفة ضيقة ومعتمة كيلا يرى خجلي وارتباك شفتي.
علّمتني أمي أن أسيّج جسدي بالاحتشام، لكن وفي المقابل، لم تحدثني عن هناء هذا الجسد عند قفزه خارج هذا السور الخانق، ومواجهته للمخادعين والمتربّصين به. كنت أتابع أنجي خوري كمعجبة، فكان جسدها يبوح عني حول رغباتي التي استبعدتها، وكنت أحياناً أتمنى لو أنني لم أتبنّ واقع "الفتاة المهذّبة" التي حولتني إلى دمية بلباس مرتب وهيئة مناسبة، أقابل بها أصدقاء العائلة والذين لطالما توقّعوا مني الأفضل مما يسعدهم.
سأل الاعلامي أنجي عن طفولتها، وهو مهيأ مع فريق عمله المسؤول عن تلك الحلقة "الدسمة"، ليراهن على إعداده المتماسك كما يظن، أن يحرج أنجي ويضعها في خانة الضحية المعنّفة من والدها، ولكن من دون ضمانات لحمايتها بعد انتهاء هذه المقابلة.
"أمك كانت تخون بيّك؟"، يأتي هذا الاستفهام ضمن شروط المتاجرة الدعائية في الترويج لقصص تستهوي المشاهد "المكبوت"، الذي سيتابع نيشان المتذوق في اختيار خلفية ضيوفه المصابة بشظايا التفكك الأسري، فتبدأ الحلقة بتتويج هذا المضيف عبر سؤاله المنحرف إنسانياً: "أنجي، هل أنت لقيطة؟".
"أنجي، هل أنت مدمنة على الجنس؟". وهل هي تهمة في أن نكون نحن النساء مدمنات على الجنس يا رابعة؟
في الماضي، كان لي صديقة رافقتها بالإرغام بسبب ظروف معيشتها القاسية، أذكرها الآن وأنا أحن لتلك المعارك مع عائلتي من أجلها، فكانت خلفية من أرافقهم معياراً له أولويّته، وكان لصديقتي والدة تمارس البغاء أمام عيون فتاتها. مع الوقت تبين لي بأنني كنت أدافع عن نفسي قبل صديقتي أمام عائلتي، التي توافق نيشان على منطق تراتبية البشر والتمييز بين شخص وآخر. أدخلتها منزلي وجعلت من صيت أمها المشبوه في قريتنا مواجهة خصبة لكي أتخطى جميع الحواجز التي ستعترض خيار عريي أو احتشامي.
في طريقي إلى منزلي على الأوتوستراد السريع، أراهن. نساء يقفن على أطراف هذا الطريق الملغّم بالرجال المجهولين، نساء يمكنني أن أجزم بأن الدنيا تخلّت عنهم ليروّجن لعمل قذر في انتظار جلسة عابرة يشبعن بها وحشيّة ذكورية هؤلاء الرجال. حيث يتحول هذا المشهد إلى ذعر أحمله معي لأستعيد بعضاً من البقع الزرقاء على قدمي أنجي، الفتاة التي ومن دون أن تبوح، نستطيع أن نشخّص هذا العنف على عريها، وباستطاعتنا أيضاً أن نفترض كل السيناريوهات القبيحة التي تتعرض لها تلك النساء في سيارة ذلك المجهول.
هل تعلم رابعة الزيات بأن بائعات الهوى على طرقاتنا هن أيضاً ضحايا؟ كان عليها أن تصنع برنامجاً يعوّض عليهن هذا العالم المشبوه والخطر الذي أجبرن عليه، لا أن تستغل عري أنجي لتستهين بها وتذلّها في حضرة واعظيها الكرام، ممن تشجعهم منابر المطبعين مع السلطة، ليكون تطرفهم في الحكم علينا، نحن النساء، أوسع انتشاراً. حوار مبتذل تصرّ فيه رابعة بأن أنجي خوري "بائعة هوى": "أنجي، هل أنت مدمنة على الجنس؟". وهل هي تهمة في أن نكون نحن النساء مدمنات على الجنس يا رابعة؟
أنجي خوري، من استرسل الجميع في مناداتها بعاهرة السوشال ميديا، وفقط لأن تحرّر إطلالاتها لم تراعِ قوانين النظام المتذلّل لسلطة رجال الدين. لا شك بأن أحداً لم ينبّه أنجي بأن تتعرّى في السرّ، ولا شك بأن أحداً لم يدافع عنها كفتاة يحق لها ما يحق لنا نحن الفتيات في تباهينا بأجسادنا، فالرخص ليس من خلال العروض الإباحية، بل بفعل كل جوانب الإثارة في العتمة.
يريدون من جمهور السوشال ميديا أن يحجب هذا العري لفتاة عربية فرّت من بقعتهم التي تخضع للرقابة وحكم الرجم. يهاجمون المتعريات على السوشال ميديا وهم من تلتقي بهم ليحدثوك عن هوسهم بأجساد الفتيات، وفق معايير جمالية سطحية ومنمّطة للمرأة. يوبّخون استعراض أنجي، إلا أنهم في المقابل يرتادون الأماكن التي تستقبل عرينا من دون شرط، فما عيب هذه الفتاة إن اختارت لنفسها هذه الصفحة الخاصة بها، لتطرح عليها جسدها كما شاءت وبطريقتها التي لا تصطنع الحياء.
"أمك كانت تخون بيّك؟"، يأتي هذا الاستفهام ضمن شروط المتاجرة الدعائية في الترويج لقصص تستهوي المشاهد "المكبوت"، الذي سيتابع نيشان المتذوق في اختيار خلفية ضيوفه المصابة بشظايا التفكك الأسري، فتبدأ الحلقة بتتويج هذا المضيف عبر سؤاله المنحرف إنسانياً: "أنجي، هل أنت لقيطة؟"
لا أجزم بأن ما تفعله أنجي صائب، ولكن لن أعترض صورها الخارجة عن مألوف سيدات مجتمعنا الراقيات، أمثال من يرتعبن من الفضائح، ومن يسرفن في التفكير بأفعالهن الصالحة التي تبقيهن في مكانة لا تهز عرش امتيازاتهن التي تبقيهن آمنات من "القال والقيل". هل تفقد أحد إن كانت أنجي خوري بخير؟ هل استطاع أحدهم أن يعاود التفكير بعري أنجي كفتاة تعرّضت للتحرش من والدها، وهي اليوم معرضة للقتل من رجل آخر يشبه هذا الوالد، أم استقبلتموها عبر شاشاتكم فقط لإعادة تذكيرها بأنها فتاة "نكرة"، وأنتم أنفسكم تستعرضون جسدها في استديوهاتكم الخاصة، لتعدموه بسخريتكم.
أحياناً أتساءل: لو أنا أيضاً أريد لنفسي هذا التعرّي خارج سرب المطبلين للرقي الذي استهواني، وفقط لأنني فتاة هذه العائلة التي حملتني ثقل ارتقائها في المجتمع.
إلى أنجي خوري، الوجه الجميل والجسد المنهك لتفاقم تورّطه، والذي يذكرني بارتعاشة جسدي كلما تعرّى وحيداً: ليتك تعلمين بأنني أنا أيضاً أريد أن أسافر إلى تلك الشواطئ التي تعوم بأجساد عارية من الرجال والنساء. أنا أيضاً مثلك أريد الانصياع لهذا التعرّي، ولكن دون أن أتعرّض للتحرش والاغتصاب أو الخطف والقتل.
إلى أنجي خوري التي تشبهني في عريها وصيتها السيء، أخاف على جسدك من الهلاك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...