طفا فوق سطح مواقع التواصل الاجتماعي، بعد زلزال الحوز الذي ضرب المغرب، في الثامن من أيلول/ سبتمبر، وأودى بحياة نحو 3 آلاف شخص، جدل بخصوص إعادة إعمار المناطق التي دمّر فيها الزلزال نحو 50 ألف مسكن بشكل جزئي أو كلي.
دافع البعض عن ضرورة تجميع سكان القرى والدواوير المتضررة في قرى نموذجية قريبة من المدن توفّر كل الاحتياجات الأساسية، فيما عارض آخرون الفكرة الأولى ودافعوا عن الحق في إعادة إعمار القرى والبلدات نفسها مع مراعاة الخصوصيات الاجتماعية والثقافية للمنطقة، وثقافة "تمازيرت"، التي تعبّر عن هوية الأمازيغ المغاربة.
الأرض هي البيت
في هذا الصدد، صدر بلاغ للديوان الملكي في الرابع عشر من أيلول/ سبتمبر، لتفعيل البرنامج الاستعجالي الخاص بإعادة إيواء المتضررين من زلزال الحوز، والذي شدد على ضرورة إعادة الإعمار تحت إشراف تقنيّ وهندسي منسجم مع تراث المنطقة، ويحترم الخصائص المعمارية المتفردة.
تُعدّ الأرض في المناطق الأمازيغية المتضررة من الزلزال، أو في باقي مناطق المغرب، مكوناً أساسياً للهوية الأمازيغية، وهنا تساءل كثيرون عن التضاريس الجبلية الوعرة والمعزولة كلياً، التي طالها الدمار، ولماذا ظلّ السكان متشبثين بهذه المناطق التي تفتقد البنيات التحتية؟
عادةً، حين يلتقي الأمازيغ في ما بينهم، لا يسألون بعضهم عن أسمائهم العائلية أو مناصبهم، بل أوّل ما يسأل عنه الفرد: "ماد تكا تمزيرت نك؟"، أي "من أي أرض أنت؟"، إحالةً إلى القبيلة أو الدْوَّار (القرية)، كما أن حال القبيلة أو الدوار أول ما يسأل عنه العائد من سفره «مانزا تمزيرت؟"، كيف حال الأرض، وهنا يتبين لنا أن الأرض مكون أساسي في تحديد هوية الفرد الأمازيغي وانتمائه.
في حديثه إلى رصيف22، يؤكد حسين آيت حمو، ابن دوار تيوشي، إقليم شيشاوة، غير البعيد عن مراكش، أن ارتباط السكان بقراهم وجبالهم برغم الكوارث الطبيعة، يندرج في إطار الهوية الأمازيغية التي تقوم على الإنسان والأرض واللغة، وأن "تمزيرت تكا تمزيرت"، أي الأرض هي الأرض، ولا يمكن لأحد أن يتخلى عن المنطقة التي ترعرع فيها مهما كانت الظروف قاهرةً.
يضيف الناشط المدني في جماعة (تقسم إداري) أمزوضة المتضررة من زلزال الحوز، "أن انتقال البعض من الجبل إلى السفح في المنطقة ذاتها، يكون غالباً إلى الجماعات القروية التي تتشكل في المناطق المنبسطة، ويعودون باستمرار إلى أرض الأجداد خلال العطل والأعياد والمناسبات".
يستدرك المتحدث ذاته بالقول إن كبار السن يفضلون الجبل ولا يرحلون عنه مهما حدث، على عكس الشباب الذين يرحلون إلى المدن الكبرى من قبيل الدار البيضاء ومراكش وأكادير، للعمل، إذ إن معظم التجار في المدن الاقتصادية كالدار البيضاء ينحدرون من جنوب المغرب، خصوصاً منطقة سوس وشيشاوة، ويزورون دواويرهم مرّةً في السنة أو أكثر.
ويرى حسين آيت حمو، أن الارتباط بالأرض نفسي أكثر مما هو اجتماعي، ولا يرتاح الأمازيغي إلّا في المنزل الذي وُلد فيه والمنطقة التي ترعرع فيها آباؤه وأجداده، وأن الأمازيغ اختاروا الاستيطان في الجبال لا السفوح، والجبل مرتبط بالأساس بنمط عيشهم، وبنظام رعيهم للماشية وبالفلاحة، وكان دائماً محصناً خلال الفترات الاستعمارية.
من جهة أخرى، يرى أمزال عبد الرحمن، أن الأصوات التي نادت بتجميع الساكنة، تنمّ عن جهل تام بالرابط الروحي والوجودي للساكنة بأرضهم.
تلك الأراضي عاش فيها أجدادهم وولد فيها آباؤهم
ويفسر المتحدث، وهو متحدّر من دوار تمزكلت، إقليم تزنيت، ذلك بأن تلك الأراضي عاش فيها أجدادهم وولد فيها آباؤهم، وإن عاش البعض منهم في المدن ووصلوا إلى أعلى المراتب في حياتهم المهنية، فيظل هذا الرابط الروحي يناديهم خلال العطلات والأعياد، خصوصاً بعد التقاعد حيث يفضّلون العيش في أحضان الجبل وفي أرض الأجداد على المدينة.
ويرى عبد الرحمن الذي كان من أشد المدافعين عن إعمار الأراضي المتضررة من زلزال الحوز، أن إعمار المناطق المنكوبة جراء الزلزال هو مطلب سكانها، والدولة ملزمة بالبحث عن حلول مع المنتخبين المحليين وممثلي السكان لتمكينهم من الولوج إلى الخدمات العمومية.
وبخصوص تراجع هذا الارتباط القوي بالأرض لدى الشباب الأمازيغي، يقول: "من الصعب أن ينفك هذا الرابط لأنه رابط ثقافي واجتماعي، والشباب اليوم أشد ارتباطاً بأصلهم الأمازيغي وبالعادات والتقاليد وإن كانت زيارتهم لـ'تمزيرت' مرةً واحدةً في السنة، إلّا أن أخبار الدوّار وساكنته لا تفارقهم طوال السنة".
الحرمان من الأرض أشدّ أنواع العقاب
يقول هشام بوبا، الباحث في علم الاجتماع: "لا يمكننا تجميع سكان المناطق المتضررة من الزلزال في قرى نموذجية، لأن هذا النمط لا علاقة له بنمط العيش لدى ساكنة المنطقة. دائماً في المناطق الأمازيغية هناك ارتباط بين 'تمزيغت' (اللغة الأمازيغية)، و'تمزيرت' (الأرض)، أي الارتباط بين الأرض والهوية، ولا يمكن الفصل بينهما".
إعمار المناطق المتضررة يجب أن يراعي نمط حياة السكان
وعلاقتهم مع الأرض أو "تمازيرت"
وفق الباحث فإن القبائل الأمازيغية تُعرّف عن نفسها بالأراضي التي تملكها. كما أن الشخص الوافد على هذه القبائل يُعدّ وافداً لأنه لا يمتلك أرضاً، وليس له الحق في امتلاكها.
تبقى ملكية الأرض والارتباط بها المعياران الأساسيان في تحديد الهوية لدى القبائل الأمازيغية، كما أن راعي الغنم "الخَمَّاسْ"، وإمام المسجد في القبائل الأمازيغية، يعدّان أيضاً وافدَين ولا يحق لهما امتلاك الأرض ولا يتم إشراكهما في المسائل السياسية والاقتصادية المتعلقة بالقبيلة، كما أن أشدّ أنواع العقاب الذي كان يعاقَب به أفراد القبيلة إن خالفوا الأعراف هو النفي من المنطقة بشكل كلّي، لعلمهم بأهمية الأرض وولع الفرد بها.
يوضح بوبا أنه بالرغم من ارتباط بعض المناطق الأمازيغية بالهجرة الخارجية أو الداخلية، إلا أن تلك الهجرة تبقى مؤقتةً بحثاً عن فرص للعمل، وتكون مؤقتةً لجمع المال والعودة إلى أحضان الأسرة والأرض، وتالياً فالأرض هي الرأسمال الأولي لتعريف الفرد وأصوله، وإن حُرم الأمازيغي من أرضه يُحرم من أصله وقبيلته.
ويشير الباحث نفسه، إلى أن إعمار المناطق المتضررة يجب أن يراعي نمط حياة السكان مع الحفاظ على الأرض والبنية المعمارية في المنطقة، التي هي انعكاس للبنية الاجتماعية والثقافية، ويسجل أن المنازل المتقاربة تبيّن حجم الترابط الاجتماعي والتضامن بين السكان، كما أن مساكن المنطقة يتقاسمها الناس مع دوابّهم إما في الطابق السفلي أو الباحة الخلفية للمنزل، فضلاً عن الحقول التي تمتلكها الساكنة، والحقول هنا لا يمكن ترجمتها بالمردودية بل باستغلالٍ موسمي شخصي، وهذه الأرض تدخل في إطار الواجب الاجتماعي، وأن الساكنة برغم هجرتها للعمل أو الاستقرار في المدن في بعض الأحيان إلا أن العودة إلى الأرض ضرورة للحفاظ على موروث الأجداد.
البقاء ممكن
في المقابل، يقول نافع أبو عبد الله، أستاذ سوسيولوجيا الهجرة: "لا يمكننا الجزم بأن الزلزال سيدفع بالسكان إلى الهجرة صوب المدن، ما دمنا لم ننجز دراسات ميدانيةً مقارنةً خصوصاً بين الفئات العمرية". ويستدرك بأن الزلزال يمكن أن يساهم في الهجرة القروية نوعاً ما، على عكس الجفاف الذي يدفع بالساكنة إلى الهجرة اضطرارياً، وهنا يجب استحضار متغير العمر الذي يمكن أن يكون سبباً في الهجرة أو العكس. فقبل الزلزال كان شباب الحوز وسوس بغالبيتهم يعملون في المدن الكبرى كالدار البيضاء لأسباب موضوعية تحتم عليهم الهجرة من قبيل البطالة والهشاشة الاقتصادية وضعف البنيات.
الارتباط العاطفي بالأرض ينتج ثقافةً لا ماديّةً خاصةً بسكان المنطقة
يرى الباحث أن الفئة العمرية الشابة ستهاجر نحو المدن بحثاً عن عيش أفضل بسبب الكوارث الطبيعية أو غيرها، عكس الكبار الذين يرفضون الهجرة نحو المدن لأن الرابط العاطفي أو الروحي تجاه الأرض أقوى عندهم، ويصعب عليهم التخلي عنها، لكن ربما سيضطر بعض كبار السن إلى الهجرة بسبب الدمار الذي أودى بحياة أهاليهم وصور الدمار التي ستظل تطاردهم.
وبخصوص إعادة إعمار الدولة للمناطق المتضررة، يتساءل أبو عبد الله: إلى أي حد يمكن للدولة أن تبني مساكن تقليديةً بطابع يحترم هوية المنطقة وثقافتها؟ وكيف يمكن لهذه المساكن أن تكون آمنةً ومضادةً للزلازل؟
يؤكد نافع أن طريقة بناء المنازل يمكن أن تؤثر إيجاباً على تنمية المنطقة، لأن هذه المساكن التقليدية لها خصوصية ثقافية تستهوي السياح من داخل المغرب وخارجه، وهذه الخصوصية في الهندسة المعمارية ترجمة للارتباط العاطفي القوي للإنسان الأمازيغي بالأرض.
وعليه، يختم المتحدث بأن هذا الارتباط العاطفي بالأرض ينتج ثقافةً لا ماديّةً خاصةً بسكان المنطقة، تتشكل من أعراف وعادات وقيم خاصة، ونمط إنتاج فلاحي معيّن، وهذا الميكانيزيم يساهم في تحريك عجلة التنمية المحلية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...