منذ أن أعلن الرفاق المناضلون في أكثر من مناسبة أننا دولة مؤسسات، قاعدتها الحق والقانون وتكافؤ الفرص، أيقنت أن "الموافقة الأمنية" هي عماد تلك الدولة، والركن الأول في "العقد الاجتماعي" الذي فات "جان جاك روسو" المسكين أن يدرجه في نظريته عن الدولة في كتابه ذاك. أعذرُ روسو المسكين الذي رحل ولم يرَ بأمّ عينه كيف فاجأ هؤلاء الرفاق كلَّ مفكري السياسة والاجتماع، وبنوا دولاً عظيمةً على غير القواعد التي استنّها وأمثالُه.
ومعلومكم أن قائمة الموافقات الأمنية طويلة ولا يحدّها حد، لا تبدأ بتراخيص المهن وبيع العلكة والجوارب على الأرصفة، ولا تنتهي بالترشح في الانتخابات العامة، مروراً بزراعة مسكبتين من الفاصولياء بجانب المنزل، وإقامة حفلة خطوبة يحضرها عشرة أشخاص، وإلقاء قصيدة تافهة من على منبر المركز الثقافي، إذ إن الجهات المختصة لدينا لا يسعها إلا أن تسهر وتطيل السهر على سلامتنا، والتأكد من استيفاء كل مفردات حياتنا الشروط الدقيقة والقانونية، وبما لا يُخلّ بالأمنين العام أو الخاص. أليس الأمن وظيفتها واختصاصها؟ أم أنكم لا تعلمون؟ طيب... تعالوا نتحدث بجدّية.
يمكنك التنفس... بعد موافقتنا
بدأ العمل بالموافقات الأمنية مع بداية سلطة البعث في آذار/ مارس1963، واتسع استخدامها بعد عام 1970، لكنها أضحت معممةً وتغطي طيفاً واسعاً من النشاطات والخدمات والمعاملات في أثناء الصراع الدموي مع الإخوان المسلمين مطلع ثمانينيات القرن الماضي. وإذا كان من المنطقي اشتراط الحصول عن طريق الأمن الجنائي على "خلاصة السجل العدلي"، أو ما يسمى "غير محكوم"، لبعض الأعمال العامة، فإن الموافقة الأمنية استُخدمت كواحدة من أدوات الضبط والتحكم، لتعطي الأجهزة الأمنية سلطة السماح أو الرفض لكثير من الأعمال والأنشطة الاجتماعية والثقافية، بالإضافة إلى كونها باب استرزاق، حيث يمكن في بعض الحالات دفع مبالغ محددة للحصول على الموافقة أو تسريع وصولها.
روى أحد الميسورين أنه حين أراد تشغيل خادمة إندونيسية سأله عنصر الأمن عن عمل والدها في إندونيسيا
الموافقة هذه لا يطلبها المواطن صاحب المعاملة، بل تطلبها الجهة العامة التي تعالج معاملته، وقد تستغرق أشهراً عدة كي تصل، وربما تصل حين يكون قد فات الأوان. الأهم في الأمر أن اشتراط هذه الموافقة يقوّض مبدأ الفصل بين السلطات واستقلاليتها بحيث تبسط السلطة التنفيذية هيمنتها عبر الأجهزة الأمنية وصلاحيات الأمر الواقع التي تمتعت بها.
وبرغم أن بداية الألفية شهدت تقليصاً لقائمة الحالات التي تتطلب الموافقة الأمنية؛ إلا أن اندلاع الاحتجاجات في البلاد عام 2011، أعاد تضخيمها، مع أنه صدرت غير مرة تعاميم من وزارة الداخلية ووزارة العدل وجهات أخرى تلغي الموافقة على الكثير من الحالات، وبالعكس صدرت توسيعات للقائمة بما يغطي الحالات الجديدة الناجمة عن النزاع العسكري كالنزوح والاستئجار وبيع العقارات وتنظيم الوكالات وتفقّد البيوت المدمرة. روى أحد الميسورين أنه حين أراد تشغيل خادمة إندونيسية سأله عنصر الأمن عن عمل والدها في إندونيسيا (!).
لنعد إلى حديث المفرزة.
زيارتي الأولى... وربما الأخيرة
بناءً على ما سبق؛ فإن الحصول على الوظيفة في إحدى وزارات الدولة يشترط أن يقوم سيادة المساعد بالتحري عن طالب الوظيفة وسيرته، والتقصي عن ميله ونزعته، وسمعة أبيه وأخوته، والبحث في مشكلات أسرته، وأفكار أولاد حارته، ومقاس قدم عمته وخالته، قبل أن يقرر أن توظيفه جائزٌ وفق الشرائع الأمنية وفتوى سيادة الضابط المسؤول، وأن تخصيصه براتب من المال العام لا يشكل خطراً على أمن الوطن والمواطن ولا يوهن عزيمة الشعب، وأن توظيفه في الجهة العامة لن يعرقل مسيرة توحيد الأمة أو يفتّ في عضدها.
وقد شاءت الأقدار أن تتوفر فرصةٌ لوظيفة بائسة في مؤسسة بائسة، يجب اقتناصها إن أمكن بسبب ظروفنا الأكثر بؤساً، فتقدمت لها بين المتقدمين، مدفوعاً بتشجيع المحبين ودعمهم، فراتب الوظيفة كان يومها كنزٌ ثمين. وبعد أن استنفرت المفارز بكل اختصاصاتها لإجراء "الدراسة الأمنية"، لم يكتفوا بسؤال أمين الفرقة الحزبية عن أخباري، ولا مخبريهم عن أسراري، ولا الجيران عن أصدقائي وزوّاري، بل تم استدعائي إلى المفرزة بمزقة ورق بحجم نصف الكف مكتوب عليها الموعد، فالشباب هناك يريدون التعرف إلي.
بعد أن استنفرت المفارز بكل اختصاصاتها لإجراء "الدراسة الأمنية"، لم يكتفوا بسؤال أمين الفرقة عن أخباري، ولا مخبريهم عن أسراري، ولا الجيران عن أصدقائي، بل تم استدعائي إلى المفرزة بمزقة ورق بحجم نصف الكف
وصلت في الموعد، وللأمانة لم يدَعوني أنتظر، فتولّى على الفور عنصران مهمة التحقيق معي في غرفة جانبية ووجّها إليّ الأسئلة المعروفة حول انتمائي السياسي. والبديهي أن أنكر أي انتماء حزبي. قال عنصر الأمن بلطفٍ مصطنعٍ محاولاً طمأنتي وتشجيعي لأعترف: "يا أخي إذا منتمي لشي حزب بالجبهة... عادي هدول حلفاؤنا... يعني إذا خبّرتنا ما بيصير شي عليك"! لم يُجدِ ذلك لهم نفعاً، فأصرّوا على أخذ تصريح خطي بعدم انتمائي إلى أي حزب سياسي. وافقت وكتبت بخط يدي ما أملاه عليّ الرجل وذيّلته بتوقيعي، وحين عرض عليّ زميله القابع بجانبه التعاون معهم في حالة توظيفي ورفضت، جُنّ جنونه وبدأ بالصراخ والتهديد بحرماني من الوظيفة مدى الحياة.
خرج لدقائق ثم عاد ليخبرني بأن رئيس المفرزة يريد رؤيتي في مكتبه. يا للهول! أية أهمية أحوزها كي يطلب رئيس المفرزة رؤيتي شخصياً، فأنا محكومٌ قليل الشأن تغصّ شوارع الوطن وبيوته بأمثالي. وأنّى لي أن أشكّل تهديداً محتملاً لسلامة الحدود أو أثبط عزيمة الجماهير في المسيرة المظفّرة؟ وهو رئيس مفرزة يحلّ ويربط، يأمر ويَنهى، في زمن كانت للمفرزة سلطة ليست قليلةً. ضابط برتبة صغيرة وقامة طويلة ووجه كالح مع صرامة لا تبشر بالخير. بعد أن جلست قام من وراء مكتبه ومشى في الغرفة جيئةً وذهاباً دون أن ينطق بشيء، ودون أن ينظر إليّ بدأ حديثاً ملخصه: "كل إخواتك بعثيين... ليش إنت الوحيد اللي ما انتسبت للحزب؟ يعني شو اللي مو عاجبك بالحزب؟ عندك شي اعتراض ع سياسة الحزب؟". أجبت: "ما بحب اشتغل بالسياسة". رفع حاجبيه مندهشاً وتوقف عن الحركة.
عاد ليجلس وراء مكتبه، ونظر إليّ وقال: "إذا طلبنا منك تتعاون معنا شو بتقول؟". عنادي ورغبتي في مقاومة بطولية أدبّج بها القصائد وأفاخر دفعاني لأن أجيب فوراً بلا تردد: "لأ". ومن دون تردد، وبكل هدوء، محافظاً على صرامة الملامح، رفع يده عن طاولته بمقدار عشرة سنتيمترات وأشار إلى الباب دون أن يفتح فمه: "أي انقلع"... فانقلعت.
للبيان... لم أحصل على موافقة أمنية لاسترجاع هذه الذكرى واقتراف هذا النص.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...