ليس من الشائع أن يجمع رئيس الدولة أو أي زعيم على رأس سلطة، بين موهبة قيادة الدولة وموهبة الكتابة. لكن بعض الزعماء فعلوها، ويغلب أن يحصل ذلك بعد مغادرة المنصب فيتفرغ الرئيس المتقاعد لكتابة مذكراته، أو للكتابة عن أي شأن متعلق بالسياسة وتجربة الحكم وصراع الدول، وفي حالات قليلة كتب الزعيم الأدب وهو يمارس مهامه الرئاسية أو قبلها.
حفل القرن العشرون بكتب السيرة الذاتية والمذكرات والرواية التي كتبها رؤساء دول كبيرة، كرئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، المعروف ببلاغته وأعماله الأدبية التي استحق عليها جائزة نوبل في الآداب عام 1953، وهتلر الذي كتب "كفاحي" وصدر الجزء الأول منه عام 1925، وضمّنه ذكرياته عن الحرب الأولى وبداية نشاطه السياسي، والجزء الثاني عام 1926، وشرح فيه رؤيته للحزب النازي وفلسفته وتنظيمه، وقد تحول إلى إنجيل الحركة النازية الصاعدة بقوة.
ومن الزعماء الذين كتبوا ونشروا الرئيس البوسني علي عزت بيكوفيتش، والأمريكيان جيمي كارتر وجورج بوش الأب، والهندي جواهر لال نهرو، والفرنسيان جاك شيراك وساركوزي، والبرازيلي لولا دي سيلفا.
في ما يتعلق بالزعماء العرب، قلما كتب أحدهم مذكراته أو تجربته في إدارة الدولة كما فعل بعض رجالات الصف الثاني، وتغلب النصوص الأدبية على كتاباتهم، من قصةٍ ورواية وشعر، وربما نال الشعر الحصة الأكبر من الأجناس الأدبية، خاصةً من الأمراء السعوديين ممن كتبوا شعراً فصيحاً أو نبطياً، واشتهرت بعض الأسماء التي قد يكون أهمها الأمير عبد الله الفيصل آل سعود، الذي كتب القصائد والشعر الغنائي وغنّت من كلماته أم كلثوم وفايزة أحمد وعبد الحليم وطلال مداح وغيرهم، كذلك الأمير بدر بن عبد المحسن آل سعود الذي لُحّنت له عشرات القصائد، والأمير خالد بن يزيد آل سعود، والأمير تركي آل الشيخ حديثاً.
ومن الأمراء الذين عُرفوا بغزارة الكتابة الشعرية، حاكم دبي الأمير محمد بن راشد آل مكتوم. وإذا كان بعضهم قد أثبت موهبةً شعريةً أصيلةً، فإن أحاديث كثيرةً تدور حول أمراء آخرين اشتروا قصائدهم من كتّابٍ بالأجرة.
أما الرواية، فإن أول تجربة وفق علمنا كانت لجمال عبد الناصر، واسمها "في سبيل الحرية"، وقد كتبها في أثناء دراسته الثانوية، وتروي قصة معركة رشيد ضد البريطانيين عام 1807. ولأنه لم يكمل الرواية، فقد أعلن عن مسابقة لإكمالها بعد توليه قيادة الدولة، ففاز فيها اللواء عبد الرحيم عجاج والصحافي عبد الرحمن فهمي، وقد تم تدريسها لطلبة المدارس في الجمهورية العربية المتحدة، وللإنصاف يُحسب لعبد الناصر ترفّعه عن تكليف آخر بإكمال الرواية ونشرها باسمه كما سيفعل آخرون لاحقاً.
خلف محمد أنور السادات عبد الناصر، ونشرت له صحيفة مصرية قصةً قصيرةً في أواسط الخمسينيات بعنوان "ليلة خسرها الشيطان"، عن البيئة الريفية وقصة شاب مع امرأة لعوب، ثم روى محمد حسنين هيكل أن السادات أعطاه مخطوطتين لمجموعة قصصية ورواية اسمها "أمير الجزيرة"، لكن لم تُنشرا.
قائد ثورة الفاتح... أديباً
لا ينتمي "الكتاب الأخضر" إلى حقل الأدب، وهو الكتاب الأول للزعيم القذافي، وقد ضمّنه نظريته السياسية في الحكم التي عدّها بديلاً عالمياً ضرورياً لكلٍ من النظريتين الرأسمالية والشيوعية، إلا أنه طرح آراء غريبةً نقتبس منها التالي: "الحزب هو الديكتاتورية العصرية"، و"إن الكتاب الأخضر يقدّم الحل النهائي لمشكلة أداة الحكم"، و"المرأة أنثى والرجل ذكر"، فالمرأة "تحيض أو تمرض كل شهر، والرجل لا يحيض لكونه ذكراً فهو لا يمرض شهرياً، وإذا حملت تصبح بطبيعة الحمل مريضةً قرابة سنة".
روى القذافي كيف شعر بالغربة والعذاب بين الجماهير التي لا تقدّره، فيفرّ إلى جهنم ليستولي على السلطة هناك! وهي قصة لا تحتاج إلى عناء كبير ليدرك القارئ عظَمة القائد وفرادته وعدم استحقاق شعبه له
ثم كانت قصة "الفرار إلى جهنم"، أولى أعماله الأدبية، ويتحدث فيها عن نفسه وكيف يشعر بالغربة والعذاب بين الجماهير التي لا تقدّره، فيفرّ إلى جهنم ليستولي على السلطة هناك! وهي قصة لا تحتاج إلى عناء كبير ليدرك القارئ عظَمة القائد وفرادته وعدم استحقاق شعبه له ولمواهبه في بناء الدولة وقيادتها.
ثم جاء منجزه الأدبي الثاني في مجموعة قصصية بعنوان غريب "القرية القرية، الأرض الأرض، وانتحار رائد الفضاء"، وتحكي عن رائد فضاء يرى الكون في أثناء تحليقه فيتغير تفكيره وينتحر. وقد كتبت عنها الأديبة السورية كوليت خوري، ورأت فيها "عملاً إبداعياً" و"مجموعةً أدبيةً غنيةً ضمت القصة القصيرة والمقالة واللوحة القصصية، وكان الكاتب متألقاً في كل هذه المجالات".
للأمانة، لم تكن كوليت الوحيدة التي امتدحت أدب القائد القذافي، فقد أقيمت العديد من الندوات الحوارية في ليبيا وخارجها عن إنجازه الإبداعي، شارك فيها أدباء ونقاد ونُشرت عنها عشرات المقالات في الصحافة. في المقابل كان لبعض النقاد رأي آخر كالكاتب جواد غلوم، الذي ذكر في سياق مقالة له عن تجربته كمدرّس للّغة والأدب في ليبيا، أنه كان مضطراً إلى إلقاء المحاضرات عن أدب القذافي برغم أنه يرى في روايتيه عملين هزيلين يمتلئان بالسفاسف ويصيبان بالصداع، كما رأى الكاتب والناقد شعبان يوسف، أن "تخاريف القذافي تجاوزت عالم السياسة لتنتقل إلى الأدب".
ثم صدر للقذافي كتاب آخر بعنوان طريف هو "تحيا دولة الحقراء"، ويصف فيه حالة العجز العربي والإسلامي عن تحقيق النهضة.
الأديب المُهيب الركن
الأكثر إنتاجاً روائياً، كان الرئيس العراقي صدام حسين، إذ صدرت له أربع روايات خلال أربع سنوات، أشهرها رواية "زبيبة والملك" عام 2000، وهي الأولى له، وتحكي قصة حب بين ملك العراق وبين فتاة قروية تزوره في القصر ويتحدثان طويلاً عن المحبة والدين والشعب، وتدافع عنه حين يتعرض للاعتداء من قبل ابن عمه، لكنها تتعرض للاغتصاب من زوجها القديم.
رموز الرواية ودلالاتها لا تخفى على أي قارئ، فالملك هو القائد صدّام نفسه، والفتاة زبيبة هي العراق، وابن العم هم جيران العراق، والزوج المغتصب هو الاحتلال الأمريكي. وقد قام المخرج الهوليوودي لاري تشارلس، وشركة "بارامونت" الشهيرة، بصناعة فيلم من رواية "زبيبة والملك"، وتساءل وقتها بعض النقاد عن الدافع لصناعة الفيلم: هل هي القيمة الأدبية الكبيرة للرواية أم لأسباب دعائية وسياسية مجهولة؟ قبل ذلك نشرت جمعية الصداقة الفرنسية العراقية ترجمةً فرنسيةً لها بُعيد صدورها مباشرةً.
ثم صدرت له رواية "القلعة الحصينة"، عام 2001، وتتحدث عن أحد أبطال الجيش العراقي في أثناء الحرب مع إيران، ثم كتاب "رجال ومدينة" عام 2002، ورواية "اخرج منها يا ملعون" التي أنهاها قبيل غزو قوات التحالف عام 2003، عن مآسي العراقيين بسبب التدخل الأمريكي في شؤون العراق، وقد استعار رموزاً من الكتاب المقدس ليشير إلى مؤامرة صهيونية ضد العرب والمسلمين يحبطها الجيش العربي.
ويبدو أنه استمر في الكتابة حتى بعد اعتقاله وفي أثناء محاكمته، إذ ذكر جون نيكسون، في كتابه "استجواب الرئيس: التحقيق مع صدام حسين"، أنه "عرّف عن نفسه في التحقيق على أنه رئيس دولة العراق وكاتب، وقد اشتكى أن الجيش الأمريكي أبعد عنه مواد الكتابة ومنعه من الانتهاء من روايته".
هل حقاً يكتب الزعيم الأدب؟
لا يحق لأحد بطبيعة الحال أن يحكم على أي زعيم سياسي بانعدام الموهبة الأدبية عنده، لكن سيرة الزعيم في إنجازاته على مستوى الدولة التي يقودها تلقي بظلال من الشك على ملكاته الأدبية الموازية، إذ كيف لزعيم يقضي كل فترة حكمه مستبداً بسلطته يصارع الخصوم والمعارضين بكل وسائل القمع والعنف، أن يشفّ قلبُه ووجدانه وأن يصفو عقله من هموم الحكم ليبدع الجمال بصيغة الأدب؟ أليس غريباً الفارق البلاغي بين النص الأدبي المنشور باسمه وبين خطابه المرتجل أو إجاباته عن أسئلة مفاجئة في مؤتمر صحافي؟
أليس غريباً الفارق البلاغي بين النص الأدبي المنشور باسمه وبين خطابه المرتجل أو إجاباته عن أسئلة مفاجئة في مؤتمر صحافي؟
وإذا كان البعض يشكك في كون الزعماء هم فعلاً من كتبوا هذه الأعمال، ويرجِّح أن هناك من كتبها لهم؛ فإن السوية المتواضعة -غالباً- لنصوصهم الأدبية، تطرح تساؤلات مشروعةً حول الدوافع الحقيقية ليكتب الزعيم السياسي القصة والرواية: هل هي الموهبة الدفينة التي تعتمل في داخله، وهو أمر واردٌ طبعاً، أم أن "برستيج" السلطة سيكون أجمل إذا أضيفت إلى ألقابه صفة "الأديب"؟ وكيف يجد الوقت لذلك وسط دوامات العمل القيادي الذي يشغل ليله ونهاره؟ هل تعكس هزالة الرواية موهبةً بائسةً للزعيم أم لكاتبٍ بالأجرة؟ فالمبدع الحقيقي لا يبيع موهبته لأيٍ كان كما هو مفترض، وتالياً يتم استكتاب أنصاف الموهوبين من الوسطين الإعلامي والثقافي ممن يطمعون برضا السلطة ومكاسبها، وحكايات الاستكتاب وشراء النصوص أكثر من أن تُحصى.
الأدب كسلطة رمزية
يقول الأديب الألماني برتولد بريخت: "لا يمكن للسلطة السياسية أن تستولي على الأعمال الإبداعية، كما تستولي على المصانع". هذا يعني أن للإبداع سلطته التي يصعب السيطرة عليها، وبرغم القيود المفروضة على حرية التعبير ففي إمكان الأدب الاحتيال عليها وتخطيها. إذاً للأدب سلطته التي قد تغري الزعيم بامتلاكها، وقلمه الذي يوقع حكماً بالإعدام حيناً هو ذاته يكتب القصيدة البديعة والقصة الجميلة، وعلى التاريخ ألا يكتفي بتسجيل أفعاله وانتصاراته فقط، بل أعماله الإبداعية أيضاً.
وسواء أكان العمل الأدبي من إبداع الزعيم أو أحد "مثقفيه"، فإن الأدب هنا هو استطالة رمزية لقوة السلطة وبلاغة لغوية تتوج بلاغة كرسيّ الحكم إن جاز التعبير، وكأن الزعيم يريد أن يحوّل خطابه المنبري في جماهيره ومحكوميه إلى عملٍ فني خالد، ويريد استكمال هالة القداسة التي يضفيها على ذاته مع المطبّلين له فيجمع مجد الكلمة مع مجد القوة. لا بد لصورة الزعيم أن تكون بديعةً وكاملةً ومتفردةً، لا يشبه أحداً ولا أحد يشبهه، يجمع كل المواهب والملكات، وكلماته تختزل حكمةً لا تتوفر لغيره، تُكتَب على الجدران واللافتات لتكرّس حضوره الكثيف إلى جانب صوره.
للأدب نمط خاص من الفصاحة، والفصاحة هي سلطة في الكلام والكتابة، وقوة مضافة إلى سلطة الزعيم، يستكمل بها أدوات السيطرة والتعالي، والإبهار لمعجبيه ومحبيه، وربما نكايةً بخصوم لا يقدّرونه حق قدره.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.