تتعدد الأسماء والصفات والمعاني التي تشرح حال الحكومات والأنظمة والسُلطات بتعدد أشكالها وأصنافها ودرجاتها. ولأنه ليست لدينا حكومات كحكومات النروج وفرنسا واليابان، ولا يحق لنا أن نتحدث عما ليس لنا، سنثرثر قليلاً عن صفات حكوماتنا اللذيذة وأسمائها في بلداننا المنصورة، وما شابهها على وجه المعمورة.
أول الأسماء وأبرزها "اللاصقة"، حيث تلتصق بكراسيها ومواقعها أبد الدهر. تمر أجيال عدة لا تعرف غيرها في الحكم، فتبدو جزءاً من قوانين الطبيعة ونظام الكون، وقدراً لا مفرّ منه. لا تحول ولا تزول إلا بقوة خارجية ساحقة، ولا يغادر زعيمُها كرسيَّه إلا إلى القبر، وسْط استغراب مشيّعيه من الموالين والأنصار وعناصر الأمن، متسائلين مستنكرين: "أمثلُ زعيمنا يموت"؟!
وكما يلتصق الملوك بعروشهم، فإن هؤلاء الأنصار والمحبين والمستعذبين الانبطاح، يلتصقون بأرجل كراسي العروش، يتغنون بجمالها وبرنّة خلخالها. أما أدمغتهم فيلتصق بها ما تيسّر من أساطير الحاكم القديس المعظّم فريد عصره، يدبّجها وينشرها عسسُه ومثقفوه وإعلاميوه على الشاشات والمنابر الخطابية وعلى جدران المؤسسات، ويقرأها السائح فيحسدنا ويفكر في طلب اللجوء إلينا. أما الشعارات التي أكل الدهر عليها وشرب، وقلب الطاولة وسَكِر ونام واستيقظ، فإنها تلتصق بالكتب المدرسية وأفواه المتعلمين جيلاً بعد جيل، إلى درجةٍ أرثي فيها لحال الإمبريالية لكثرة الصفعات التي تلقتها من حكوماتنا الصامدة.
"أطمع من أشعب"... وأنْهب
يأتي بعدها اسم "النهّابة"، أي شديدة النهب لثروات البلد وموارده كثقبٍ أسود يبتلع كل شيء، لا يُشبِع نهمَها حتى التهام تراب الوطن، ولا تمتلئ بطون بنوكها وبنوك الأصدقاء/ الأعداء في الدول الامبريالية المتآمرة حتى لو علّبوا الهواء وباعوه لمحكوميهم. لهم المعابر والموانئ والاستيراد والتصدير والاتصالات والنفط والفنادق والمقاولات، ومزارع الماشية وبيوت الدعارة ودور الأزياء ومحطات التلفاز والصحف الغرّاء وغير الغراء، والمناطق الحرة والطيران والتعدين ومعامل السيتامول ومقالع الحجارة وشركات النقل والوكالات الحصرية وتجارة الممنوعات، وقائمة تطول لتغطي كل ما يُشرى ويباع ويجلب المال من جيوب المحكومين.
الصحّاف يختصر خطاب الإنكار برُمّته، ويُروَى أن الله أوفد عدداً من الملائكة المحنّكين إلى قبره ليقنعوه بأنه مات. جثّته أنكرت موتَه، ويبدو أنه كان يبثّ بيانات النصر من شاهدة قبره؛ "واي فاي"
هذا إذا تغاضينا عما تجبيه "مؤسسات" دولة القانون من أموال المحكومين كضرائب ورسوم، وخوّات وحصص وشراكات وعوائد وأجور حماية وثمن خدمات، والقائمة أيضاً تطول، وما على المحكوم إلا أن يحمد ربه على نعمة الحكومة الرؤوم التي أبقت له ثيابه الداخلية لينعم بها.
الفوتوشوب أداة إمبريالية
ومن الأسماء القبيحة للأنظمة المستبدّة، "المُنكِرة"، أي إنكار وتكذيب أي أخبار أو معلومات عن أي خللٍ أو تجاوز، أو مشكلة أو كارثة، حتى لو كانت طاعوناً ينهش جسد البلد وروحه، وأظرف المُنكرين طُرّاً وأكثرهم بلاغةً هو محمد سعيد الصحّاف، وزير الإعلام العراقي في خلافة صدّام حسين الميمونة، الذي ما فتئ يقول: "ما كو شي"؛ عندما كانت دبابات التحالف تخترق بغداد، وتستبيح ساحاتها وتهدم التماثيل. "ما كو شَي"... بضعة عُلوج سيُذبحون على الأسوار المنيعة لوزير الإعلام المدرّع، الذي كانت نياشين قائده تكفي لتحصين الصين.
الصحّاف يختصر خطاب الإنكار برُمّته، ويُروَى أن الله أوفد عدداً من الملائكة المحنّكين -حنكة مبعوثي الأمم المتحدة- إلى قبره ليقنعوه بأنه مات. جثّته أنكرت موتَه، ويبدو أنه كان يبثّ بيانات النصر من شاهدة قبره؛ "واي فاي".
"لا يوجد لدينا معتقلوّ رأي، نحن دولة قانون ولا يمكن أن يتعرض أحد للتعذيب أو الإهانة في مخافرنا، محاكمنا عادلة وشفافة ولا تتدخل أية جهة بعملها، الصور التي تم تداولها فبركة، مستودعاتنا مليئة بالقمح، فيديو الجثث فوتوشوب، ليست لدينا أية إصابة بالكوليرا، تقارير المنظمات الدولية افتراء وتسييس"... هذا بعض مما يصرح به المسؤولون لوسائل الإعلام الأجنبية، مع ابتسامة ناعمة ونبرة ثقة عزّ نظيرها في السند والهند، تُفحِم المذيع اللئيم وترد كيدَه.
للإنصاف والأمانة يقرّ بعض المستبدين بأن بلدية إكس مثلاً، تركت حفرةً في الشارع أعاقت حركة الأخوة المواطنين، وأن هذا تقصير مُبين، وإهمالٌ فاضح، وتهاونٌ سافر، ومُخالفة للتوجيهات السامية، وفساد صريح لن يترددوا في محاسبة المسؤولين عنه. رِقّة قلب المسؤول لا تحتمل رؤية مواطن يقع في حفرة البلدية وهو في طريقه لخدمة الوطن، فتصدر الأوامر السامية بالتحقيق في الأمر ومعاقبة الفاسدين والمقصرين. أما "حفريات" فروع الأمن فهي شأنٌ آخر، بنيةٌ تحتية متعوب عليها لإعادة تأهيل العُصاة و"إعطاء" برامج تعليمية للمواطنين الجَهَلة.
الخبز، الحرية، الكرامة، منعة الحدود، العدالة، التنمية، والديمقراطية، لا مشكلة فيها ولا هم يشكلون، "فول أوبشن"، وتفقأ عين الحسّاد الذين ما انفكّوا يتقوّلون بما يخدم "الأجندات" التآمرية،
أذنان من طين
ويتفرّع عن الاسم السابق اسم "المُتجاهِلة"، ليس نسبةً إلى الجاهلية ثكلتك أمُّك، فالشباب لا يجاريهم في إيمانهم وتُقاهم أئمة التصوف، وفي الأعياد والمناسبات الدينية يسبقون شيخ الجامع للاصطفاف في الصلاة، بل لتجاهلهم المشكلات المزمنة ذات الطابع العام، وكأنها غير موجودة، فيضبطون أنفسهم على وضعية "المزهرية"، ويقذفون المشكلات والأزمات خفيةً في جوف المستقبل الوضّاء، فيحبلُ بها ويلد حينَ يحينُ الحين مفخخاتٍ فخمة.
إذا فُقدت المواد الأساسية من السوق نقلوا صلاة الجمعة مباشرةً عبر الأثير. وإذا نشبت حرب أهلية تحدث المسؤولون بدمعةٍ حرّى عن نكبة 1948، ومعاناة الأشقاء في فلسطين
فإذا ضربت العاصفة مدينةً ودمّرت الزرع والضرع، بثّ التلفزيون برنامجاً عن تكاثر السراخس في البحر الكاريبي. وإذا تحدثت الأخبار المنقولة شفاهةً عن الفساد الحارق الخارق المتفجر، أعادوا عرض مسرحية "العيال كبرت" للمرة السابعة والعشرين، حتى تظنّها مع "مدرسة المشاغبين" و"سك على بناتك" من الثوابت القومية التي لا يجوز التراجع عنها. وإذا فُقدت المواد الأساسية من السوق نقلوا صلاة الجمعة مباشرةً عبر الأثير. وإذا نشبت حرب أهلية تحدث المسؤولون بدمعةٍ حرّى عن نكبة 1948، ومعاناة الأشقاء في فلسطين، متوعدين العدو الغاشم بالسحق التام، كما توعّد الفرزدقُ مِربَعاً.
الإنكار والتجاهل لا ينمّان عن احتقار الحكام واستحمارهم للمحكومين فقط، بل حِكمة عميقة للحُكم العميق، لا يدركها سوى الراسخين في العروش. حكمة حصّلوها بعرق كراماتهم، وطأطأة رؤوسهم قبل أن يتسلقوا الكراسي، ويدوسوا كل رأس لا يطأطئ.
أما الإعلام والصحافة فقد يكشفان المستور ويشيران إلى مواطن الخلل، وهما بدعة، وكل بدعة ضلال، واختراع ماسوني غريب عن تراثنا وثقافتنا وخصوصيتنا الوطنية، ولا يجوز استخدام الإعلام إلا كمنبرٍ دعائي للقيادة العليّة، وبرعاية كريمة من أجهزةٍ مختصةٍ أكرم. ونظرية غوبلز الشهيرة في الكذب: "كرّر الكذبة كثيراً بما يكفي وستصبح هي الحقيقة"، فأضحت متخلفةً ولا تناسب عصر السرعة، إذ يعمل أصحاب السيادة والجلالة والسمو وفق نظرية "اكذب واجعل المواطن يصدّق الكذبة فوراً رغم أنفه"، ويجري اختبار نتائج النظرية بما يناسب من الأدوات الناعمة في منتجعات الجني الأزرق.
أما بقية الأسماء، مثل "الخشّابة" و"القلّابة" و"الوحدانية" و"الديناصورية"، وغيرها من الأسماء والصفات والألقاب، فسنتركها لوقتٍ آخر لن يأتي، فاسردوها كما تشاؤون، يا رعاكم آمون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون