إلهنا "القابع في السماء":
أرجو عفوَك إن توجهت برسالتي إليك مباشرةً من دون اتّباع التقاليد الرسمية عن طريق التسلسل، فلا علاقة تربطني بمؤسسات اللاهوت على الأرض، ولا برجال الدين ممن يدّعون الحديث باسمك والتوسط لديك وامتلاك نسخة من مفاتيح سمائك الفردوسية.
أدرك أن مشاغلك لا يحصيها عدّ، وأن تدبُّر أمر الكون ومشكلات مخلوقاتك على اختلاف أصنافها ليس بالأمر اليسير، ولكني أعلم يقيناً أنك كليّ القدرة والمعرفة كما أخبرتنا الرسالات السماوية، وأنه لن تزعجك رسالتي ولن يصعب عليك الاهتمام بما سأطلبه من جلالتك.
أيها "الخالق العظيم":
لا تخفى عليك -كما أجزم- الظروف التي عاشها عموم السوريين طوال أكثر من عقد من السنوات، هذا إذا استثنينا ما قبلها، وما زالوا يعانون ويصيبهم المزيد من الكوارث والملمّات، وليس آخرها الزلزال المدمر، فحكومتهم عاجلتهم بعده بما يلهب نار الأسعار من جديد ليغدو طعامهم أقلّ فأقلّ، ويبدو لهم أحياناً أن الطبيعة والحكومة وبقية العالم قد تحالفوا لإبقاء معاناتهم وتعميق جراحهم، وأظنك لا تقبل بذلك، فرحمتك كما تقول الأديان والرسالات وسعت كل شيء. ألستَ الرحمن الرحيم؟
يبدو لهم أحياناً أن الطبيعة والحكومة وبقية العالم قد تحالفوا لإبقاء معاناتهم وتعميق جراحهم، وأظنك لا تقبل بذلك، فرحمتك كما تقول الأديان والرسالات وسعت كل شيء. ألستَ الرحمن الرحيم؟
وبمناسبة شهر الصيام الجديد، وبرغم إيماني بكليّة معرفتك، أرجو عذرك إذ أذكّرك بما صام عنه السوريون لسنوات عديدة، فقد صاموا أولاً عن الأمان حيث لاحقتهم الحروب والنزاعات المسلحة على معظم أراضيهم، والتفجيرات والخطف والاعتقال على بقيتها، فطال الموت من طال، وطالت الإصابات المختلفة من طالت، وما أكثرهم، وعاش الأحياء الباقون الرعبَ منتظرين بلا حول ولا قدرة على تدبّر القذيفة أو الرصاصة أو الصاروخ المدمر، فضلاً عن التنكيل والقتل على أيدي الميليشيات وأطراف النزاع الذين تكاثرت فصائلهم وعاثوا في الأرض "جهاداً".
سيكون طبيعياً أن يصوموا في ظروف كهذه عن الفرح والسعادة اللتين نسوا طعمهما، وأنّى للفرح أن يزورهم في زمنٍ ملؤه الخوف وضجيج السلاح وفقدان الضروريات؟ تيبّست شفاههم وخدودهم لطول الهم والكمد وصار الابتسام مبعثَ ألم.
صاموا عن الحرية. بالأحرى استأنفوا صيامهم الطويل، وضاق الخناق على الهامش الضيق أساساً من قدرتهم على التفكير والاعتقاد والتعبير، بل صار من الدارج أن يفقد السوري حياته على يد مجاهدٍ سلفي أو علماني، فقط لاختلافه في الرأي عنهم.
صاموا عن الكرامة، فالكرامة تكون مع الاكتفاء والحرية، ومع القدرة على الفعل والمبادرة، وهم محتاجون مقيّدون وعاجزون، ولا كرامة مع الطوابير كما أرجّح، وقد تكاثرت طوابيرهم للحصول على البنزين والغاز أو الخبز أو صندوق المعونة، أو لاستصدار جواز سفر بكلفة فلكية علّهم يهربون من جحيمهم.
صاموا عن العدالة، إذ لم يكن نادراً أن يصرخ حاملُ الهراوة أو البندقية أو الأصفاد: "أنا القانون، وأنا القاضي ومنفّذ الحكم"، حتى عدالتكم الإلهية السامية انتظروها طويلاً ولم تأتِ. صاموا عن السلام والطمأنينة، وباتوا لكثرة النكبات لا يأملون بشيء، ويتوقعون غداً أكثر قتامةً. حتى الميسور منهم بات خائفاً على مصيره، وغدِ أولاده في بلدٍ عشعش اليأس في مفاصله.
صاموا عن الدفء حين حُرِموا من مصادر الطاقة، فنخر البرد أرواحهم كما أبدانهم، وحرق بعضهم أثاثَ بيته ليدفئ أطفاله، والشيء الوحيد الذي لم يصوموا عنه هو الموت، وقد توفر فيضٌ من أسبابه يتعثّرون به أنّى اتجهوا.
وبعد... أيها "الحليم الغفور"
بعد كل ما ذاقوا واختبروا وعانوا، وبعد كل المحن التي مروا بها، وبعد كل الصيامات التي صاموها، أليسوا جديرين بإعفائهم من صيام رمضان هذا العام برغم أن كثيرين منهم شبه صائمين أبداً؟ يقيني أنهم يستحقون منك مرسوماً إلهياً ينص على استثنائهم من واجب الصيام الرمضاني حتى إشعارٍ آخر، وسيكون من فيض لطفك أيها اللطيف أن تعفو عمن عصى تعاليمك وتكليفك وأفطر في شهر الصيام خلال السنوات السابقة. واسمح لي بأن أقترح إلزام اللصوص فقط ممن يسلب السوريون خيراتهم المستحقة بأن يصوموا عن السرقة خلال الشهر الفضيل.
يقيني أن السوريين يستحقون منك مرسوماً إلهياً ينص على استثنائهم من واجب الصيام الرمضاني حتى إشعارٍ آخر، وسيكون من فيض لطفك أيها اللطيف أن تعفو عمن عصى تعاليمك وتكليفك
ولأنك السميع المجيب، فسأطمع أكثر وأطالبك بالتدخل، والاستجابة لدعوات المؤمنين منهم ممن تلهج ألسنتهم بذكرك في كل الأوقات، متوسلين حلمك وغفرانك، وكلهم ينتظرون، "وما بدّلوا تبديلاً".
إن ما يعيشه السوريون هنا جعل غالبيتهم لا تأمل بشيء سوى رحمتك، فحين يدور حديث الحرب والموت لا ينطق واحدهم إلا "الله يحمينا"، وحين يعاني من الغلاء والجوع والمرض يعلّق: "الله يفرجها"، وتنحصر مشاركته في أي حديث سياسي بـ"الله يهدّي الوضع"، وحين أخبروه أن بيته قد سوّي بالأرض قال: "الله ينتقم من الكان السبب"، وحين يفقد الأمل يتوسل: "الله يبعت النيزك ويخلصنا". ومع كل تلك المحن التي اختبروها وهم يرنون إلى السماء آملين بك منتظرين رحمتَك، ألا يستحقّ هؤلاء أن تتدخل بقدرتك الكلية وتقول للجميع: "أنا هنا ولن أسمح باستمرار هذا القهر".
وكي لا يفقد عبادك المظلومون الأمل، وكي لا يفكروا في سحب الثقة بك أو التشكيك في شرعيتك، فالملحدون يستثمرون تأخّر استجابتك لدعوات وتوسّلات المؤمنين ليبثّوا الشكّ في وجودك، لذا فإني أطالبك -إنْ توافَقَ ذلك مع مشيئتك العَلية- أن تتدخل إيجابياً لصالح البائسين والأبرياء، وتحميهم بمعجزةٍ من لدُنك مما يتعرضون له من عسفٍ وعذاب، ألستَ على كل شيء قدير؟ أو ترسل لهم رسالةً واضحةً صريحةً لا تقبل اللَبس ولا اختلاف التفسير والتأويل بأن "يكفيني عناءُ خلقكم، اقلعوا شوكَكم بأيديكم ولا تنتظروني".
يمكنني إن قبلتَ اقتراحي، أن أُرشّح بضعة أسماء من عبادك الصالحين أو إمائك الصالحات في قائمةٍ تختار منها أو يختار لك مستشاروك وملائكتُك من يناسب كي يحمل رسالتك ويبلّغها، وثق بأن قائمتي لن تكون كقوائم الجبهة الوطنية التقدمية هنا، ولن أحشر اسمي فيها لعدم صلاحيتي لمهمة كهذه.
المرسل: سوري على قيد الألم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.