شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
هل التعبير عن الحرية صار محتشماً؟… ملاحقة أمنية لرسام الكاريكاتير التونسي توفيق عمران

هل التعبير عن الحرية صار محتشماً؟… ملاحقة أمنية لرسام الكاريكاتير التونسي توفيق عمران

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن وحرية التعبير

السبت 30 سبتمبر 202302:07 م

يتعرض هذه الأيام، رسام الكاريكاتير توفيق عمران، لملاحقة أمنية من السلطات التونسية على خلفية رسوماته الأخيرة، ليؤكد الرئيس قيس سعيّد أنه سيظل سائراً في النظام الديكتاتوري الذي أرساه، بعد انقلاب 25 تموز/ يوليو 2021، دون رجوع ولا تردد، وأنه مستعد لضرب كل من يعارضه حتى لو كانت تلك المعارضة برسم كاريكاتوري ساخر.

والحق أنه لطالما كان فنانو الكاريكاتير ضحايا الأنظمة الشمولية والمخابرات وسلطات الاحتلال من الفلسطيني ناجي علي، إلى السوريين علي فرزات وأكرم رسلان، والعراقي أحمد الربيعي والأردني عماد حجاج والمصريَين إسلام جويش وأشرف حمدي فالفلسطيني محمد فايق.

توفيق عمران

بدأ التحقيق مع توفيق عمران قبل أسبوعين، ويتواصل حتى الآن، مع تلفيق تهم أخرى مدنية لتشريع اعتقاله أو تخويفه وإثارة الرعب في نفوس الإعلاميين والكتّاب والصحافيين وكل المعارضين عبر هذه الرسالة الواضحة التي مفادها أنه لا أحد بعيد عن بطش السلطة متى أرادت. فلم يكن وصول السلطة إلى رسومات توفيق عمران سوى تأكيد لمسار طويل من الانتهاكات التي تعيشها حرية التعبير في تونس منذ انقلاب 25 تموز/يوليو 2021، وانفراد الرئيس بالسلطات كلها.

توفيق عمران ريشة الحرية

يمثّل توفيق عمران، علامةً بارزةً في فن الكاريكاتير في تونس، وشخصيةً محبوبةً بروحها المرحة منذ ظهور أعماله في ثمانينيات القرن العشرين، في صحف المعارضة مثل "الرأي" و"الوحدة" و"المستقبل"، وعُرف بسخريته اللاذعة في عهد الرئيس الحبيب بورقيبة.

يمثّل توفيق عمران، علامةً بارزةً في فن الكاريكاتير في تونس، وشخصيةً محبوبةً بروحها المرحة منذ ظهور أعماله في ثمانينيات القرن العشرين

وبعد إغلاق صحف المعارضة مع انقلاب الرئيس زين العابدين بن علي سنة 1987، وتحوّل بعض رسامي الكاريكاتير إلى عصا غليظة للنظام لضرب المعارضين الذين تلقفتهم المنافي والسجون، انسحب توفيق عمران من المشهد بعد محاولات التواجد عبر تغيير أسلوبه في الرسم، إلا أن اختفاء كل صحف المعارضة التي كانت تسمح لرسومه بالظهور جعله يتوقف عن نشر رسومه، ودخل في ما سمّاه بالنشاط السرّي لصالح جمعيات سياسية يسارية.

ثم عاد بقوة بعد الانتفاضة التونسية في 2011، ولم يتوقف منذ ذلك التاريخ عن الرسم ونقد الحكومات المتعاقبة والسياسات والسياسيين والمشهدين الثقافي والإعلامي، فكانت رسوماته تُنشر يومياً في مدوّنته وصفحته الخاصة إلى جانب انخراطه في المشهد الإعلامي عبر الإذاعات والتلفزيون والصحف. وقد توطدت علاقتي به في راديو "كلمة" بعد 2011، عندما كنا نشتغل هناك، هو كرسام كاريكاتور وأنا كمقدّم ومعدّ برنامج "غليون الخامسة". في تلك الفترة من الانفلات الأمني وتنامي ظاهرة السلفية، هُدّد توفيق عمران مرات بالاغتيال وحُرق بيته وصمد برغم ذلك وواصل نشاطه، ولكن رسمياً كما يؤكد هو ذلك، لم يتعرض أبداً لأي مضايقة من السلطة.

كاريكاتير لتوفيق عمران

بدأ بعدها توفيق عمران بعرض أعماله في معارض خاصة، وكان أولها في دار الثقافة ابن خلدون، التي كنت أديرها فقدّم معرضاً ناجحاً شمل العشرات من أعماله الفنية الساخرة من أحداث وشخصيات سياسية، وكانت فترة ما سُمّي بـ"الترويكا" وسيطرة حركة النهضة الإسلامية على الحكم. ومع ذلك لم يلاحَق وهو اليساري المعروف الذي ينتقد الإسلاميين بكل شراسة. كما طال نقده اللاذع الرئيس منصف المرزوقي، والرئيس الباجي قائد السبسي، بالإضافة إلى الشيخ راشد الغنوشي وقادة حركة النهضة الآخرين من وزراء وغيرهم.

ثم أصدر توفيق عمران كتاب "15/15، تونس في رسومات"، بالاشتراك مع الصحافية إيناس الوسلاتي، إلى جانب مؤلفات أخرى منها "الجريد من خلال نكتة"، وأعمال في السيناريو المصوّر وأخرى لمنظمات حقوقية، بالتوازي مع نشاطه في الكاريكاتير ومساهمته لسنتين في برنامج "بيت الخيال" على القناة الوطنية الأولى الذي كنت أعدّه وأقدّمه، ومساهمته في إثراء المشهد الثقافي في تونس، فكان حاضراً كمحاضر وضيفاً ومدرباً وظلت تجربته في الكاريكاتير محل اهتمام.

وقد حاولت استضافته في كل البرامج التي كنت أعدّها من برنامج "غليون الخامسة" عبر راديو "كلمة"، إلى برنامج "انحياز" عبر إذاعة تونس الثقافية، إلى برنامج "بيت الخيال" في التلفزيون التونسي. كما نظمت له لقاءات في الشارع التونسي، شارع الحبيب بورقيبة، ضمن تظاهرات الشارع التي تنظمها وزارة الثقافة.

كان توفيق عمران رفيقاً في مشاريع ثقافية كثيرة، منها تصميم أغلفة كتب أشرف عليها لمؤسسات ثقافية أو شخصية ونظمت له مناظرةً حول فن الكاريكاتير مع فنان الكاريكاتير التونسي رشيد الحمروني، حول واقع الكاريكاتير في تونس قبيل الثورة.

كان توفيق عمران المهتم بالفنون والآداب حاضراً طوال الوقت في كل ضروب الفن في تونس، وليس الرسم فقط، ومن هنا جاءت أيضاً شعبيته وشعبية رسوماته وأثرها ووقعها على السلطة التي ذهبت إلى اعتقاله.

الاعتقال والتحقيق

منذ صدور كتابي "فرنكنشتاين تونس"، بغلاف حمل تصميم توفيق عمران، وصورة كاريكاتورية للرئيس قيس سعيّد، وما حدث للكتاب من منع وملاحقة في معرض تونس الدولي للكتاب في آذار/مارس 2023، وما أحدثه من ضجة في الصحافة العالمية والمنظمات الدولية المدافعة عن حقوق الإنسان وحرية التعبير مما دفع السلطة إلى إطلاق سراحه، حوّلت السلطة أعينها من البحث عن صاحب الكتاب الذي يعيش بعيداً عن تونس، واكتفت علناً بإطلاق جيوش الذباب الإلكتروني لشتمه والتشهير به وتهديده، إلى المشاركين في إنتاج الكتاب ومنهم توفيق عمران صاحب الرسم الذي ظهر على الغلاف وكان أحد أسباب مصادرته.

غلاف كتاب "فرنكنشتاين تونس" رسم توفيق عمران

ظلّت السلطة تتحين الفرصة للانقضاض على الرسام حتى صار التغيير الحكومي، وتم تعيين رئيس حكومة جديد، تلقفه توفيق عمران بالنقد مما أحرجه، وبسبب جهل رئيس الحكومة بالفنانين كما كتب على صفحة رئاسة الحكومة معترفاً بجهله بالرسام، دفع إلى اعتقاله والتحقيق معه، وهو ما يؤكده توفيق عمران لقناة "فرانس 24"، عندما يشير إلى أن كل الرسومات التي سحبتها الشرطة من صفحته وحققت معه فيها كانت كلها تخص رئيس الحكومة .

أسلوب نظام بن علي في الضغط والتنكيل بالمعارضين

مارست الشرطة أسلوباً معروفاً تعتمده منذ نظام الجنرال بن علي، في التحقيق، عبر التخويف والاستنطاق حول أمور خاصة للمتهم تتعلق بمعتقده وبممارسته الصلاة أو شرب الخمر أو ارتداء زوجته للحجاب أم لا، ثم يقع البحث عن قضايا مدنية أخرى للشخص، كالبحث عما إذا كانت له قضية نفقة أو صكوك بنكية غير مدفوعة أو مخالفات مرورية لكي تلفق له قضيةً مدنيةً، هي في الأصل سياسية.

وأكد توفيق عمران أن الشرطة اختلقت له قضية إصدار صك من دون رصيد، لكي توقعه في هذا النمط من القضايا، مع أنه لم يتعامل بالصكوك البنكية منذ عشر سنوات، وأن أي صك يسقط، حسب القانون، بعد 5 سنوات من إصداره، وأن قضية الصك ما هي إلا عملية استدراج للتحقيق معه في قضية الكاريكاتير، وهو ما حدث حيث لم يتجاوز التحقيق في قضية الصك عشر دقائق، ودام التحقيق معه في قضية الرسوم ثلاث ساعات في اليوم الأول، وأُجّل النظر فيها إلى وقت لاحق لإعادة التحقيق. وهذا يقوله الرسام توفيق عمران من أمام المحكمة وهو محاط بعدد من مسانديه من الإعلاميين والمحاميين.

كاريكاتير لتوفيق عمران

عندما سألته يوماً في حوار: "هل يمكن لفن مثل الكاريكاتير أن يعيش وينمو ويتطور في ظل الديكتاتورية؟"، أجابني: "لا يمكنه أن ينمو في ظل الديكتاتورية المطلقة. أقول المطلقة، وأعني ديكتاتورية بن علي، إذ في تلك الفترة كانت الصحف هي التي ترفض نشر الرسوم الجريئة بينما في فترة ديكتاتورية الحبيب بورقيبة كان هناك هامش من الحرية التي سمحت ببروز بعض الأسماء الشابة آنذاك مثل لطفي بن ساسي، وعماد بن حميدة وعادل أمبية، وكنت واحداً من هذا الجيل الذي تعلّم على الحبيب بوحوال والشاذلي بلخامسة ومصطفى المرشاوي".

كان ذلك سنة 2015، وكانت تونس تعيش فترةً ذهبيةً لحرية التعبير وتحاول أن تمضي في مسار ديمقراطي وكان هاجس الفنان وقتها كيف نقنع المؤسسات الإعلامية بأن فن الكاريكاتير جزء من العمل الصحافي، وأن تتم تسوية وضعية فناني الكاريكاتير وخلق وضعية مهنية لهم.

هذه النظرة لعدم إمكانية عيش الكاريكاتير في ظل أنظمة ديكتاتورية، تتأكد مع ملاحقة الفنان توفيق عمران واستناداً إلى تصريحه السابق فإن هذه الديكتاتورية التي تعيشها تونس اليوم ليست ديكتاتورية بورقيبة التي تسمح بهامش من الحرية بل هي ديكتاتورية شاملة شبيهة بديكتاتورية بن علي التي قضت على الكاريكاتير، أو لعلها أكثر فجاجةً وقسوةً. تراجع توفيق عمران عن الرسم في عهد بن علي، لأن صحف المعارضة أُغلقت وتمت تصفيتها. لكن اليوم ومع هذا الانفجار الاتصالي، لم يعد الفنان في حاجة إلى صحف لنشر أعماله والتعبير عن آرائه فصفحته الفنية كفيلة بذلك.

وكان توفيق عمران يجيب عن سؤال: "هل ستواصل الرسم؟"، بأنه لن يتوقف عن ممارسة نقده للسلطة ولن يتوقف عن الرسم وإبداء مواقفه من السياسة والسياسيين وكل ما يتعلق بالشأن العام. ويبقى السؤال مطروحاً: إلى أين يذهب نظام قيس سعيّد عبر كل هذه الانتهاكات التي شمّعت التونسيين والأجانب والصحافيين والفنانين والكتّاب؟

عندما سألته يوماً في حوار: "هل يمكن لفن مثل الكاريكاتير أن يعيش وينمو ويتطور في ظل الديكتاتورية؟"، أجابني: "لا يمكنه أن ينمو في ظل الديكتاتورية المطلقة. أقول المطلقة، وأعني ديكتاتورية بن علي"

تمثّل ملاحقة الرسام توفيق عمران حلقةً جديدةً من حلقات انتهاك حرية التعبير في تونس، والتي ينكرها النظام قولاً ويؤكدها فعلاً وممارسةً. يبقى أن نقول إننا نستشعر دخول الشعب التونسي عبر وسائل التواصل الاجتماعي شيئاً فشيئاً في حالة من الحيطة والخوف، وصار التعبير عن الحرية وانتقاد السلطة محتشماً مقابل السنوات الماضية، وهو مؤشر خطير على مستقبل البلاد، فالنظام الذي يخفق كل يوم اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً ودبلوماسياً، ينجح فقط في ترويع الناس عبر قرارات وقوانين استثنائية لملاحقة كل صاحب رأي وفي تدجين المؤسسة الإعلامية الواحدة تلو الأخرى، وجعلها تصطف في طابوره المهلل للانقلاب.

فإلى أي وقت سيظل هؤلاء المناضلون في كل الأزمنة السياسية قادرين على الصمود في وجه ديكتاتورية متوحشة في ظل هذا التطاحن الأيديولوجي للنخبة التونسية من ناحية، والانتهازية التي عُرفت بها دائماً؟ فهل هذا الوضع السوريالي للنخبة التونسية وصمتها تجاه انتهاكات السلطة للحريات الفردية والعامة، وراء تعويض توفيق عمران توقيعه برسم الغراب، بتوقيعه برسم الحمار؟

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard