الشارع الذي ينزل من أعلى كركول الدروز إلى حوض الولاية- والإسمان لحيَّيْن بيروتيين قديمين وعثمانيين يتوسطان الشطر الغربي من العاصمة اللبنانية التي خلفها القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين- ويتفرّع من حوض الولاية إلى أنحاء ومقاصد أساسية في المدينة، لا يخلو ثانية واحدة تقريباً من السيارات الآتية من الوجه البحري، ومسالكه الكثيرة، إلى الوجه الجبلي، ومجاريه وفروعه.
وغالباً ما تسيل السيارات في صفوف مستقرة بعض الشيء في أوقات الازدحام، وتضطر إلى لزوم أماكنها الضيقة في السلاسل الطويلة. فإذا وسعها التحرر من سلسلتها أو مجراها، ويتاح لها هذا حين ترفع عنها بعضُ البعثرة قيد الاصطفاف الدقيق واللزّ، تنقلت بين الصفوف، وابتكرت صوراً من التسلُّل، والتجاوز، والانعطاف، والحَجْر.
وفي مثل هذه الحال، وهي الغالبة منذ "أزمة البنزين"، على ما يكني بعض اللبنانيين عن انفجار الحياة والاقتصاد اللبنانيين قبل أربعة أعوام (تقريباً)، لا يميز سائق السيارة العمومية، أو سيارة الأجرة، الراكب المحتمل من غيره، المار أو "قاطع" الطريق من رصيف إلى رصيف. ولا يميز الراكب المحتمل السائق العامل من السائق العالق أو العابر.
وتفوق حيرة الأول حيرة الثاني. ويصيب الاضطراب السائق، وتعرّفُه أحوال الناس، فوق ما يصيب الراكب انتباهه إلى اللوحة الحمراء، وإلى "أسلوب" جلوس السائق وراء مقوده، وإرخائه ذراعه وساعده على حرف النافذة، وانتظاره الراكبين أو انصرافه عنهم. لذا فاجأني انتباه سائق السيارة التي مرت بمحاذاتي مباشرة، وأنا على الرصيف بعدُ وأستطلع السير قبل أن أنتقل إلى الرصيف الأيمن، ولم أشر إليه بالتوقف. وما أن بدت عليّ نية الركوب، وأدركت أنا أن هذه السيارة تصلح لركوبي، حتى كان السائق الخمسيني- الستيني يدير مركبته إلى الرصيف وينتظر موافاتي له.
ولم يتردد حين قلت له إنني قاصد مار مخايل، بين مبنى كهرباء لبنان، وهو شارة من شارات المكان، يتوسط المرفأ المنكوب وسفح الأشرفية الشمالي، وبين جسر السكة الحديد المعلّق، غير بعيد من نهر بيروت، موضع التندُّر المرير من جفاف المياه والحد الإداري الفاصل بين بيروت الانتخابية وبين جبل لبنان. فقال، وهو يتصور الموضع ويقيس المسافة في ذهنه الحاسب، أن أجر النقل يساوي أجر محلين، أو هو ضعفا تعرفة راكب واحد.
السائق واللصوص
وهو قالها من غير اشتراط ولا ارتباك أو نية إلزام. وكأن الإجماع على التعرفة المزدوجة، بهذه الحال، تحصيل حاصل. وهو، السائق، لا يعدو الإقرار بما ينبغي أن أعرفه على النحو الذي يعرفه هو، وأقر به. وركبت إلى جنبه وأنا أشاطره رأيه المفترض من غير أن أُعمل ذهني في الحساب. والحق أن إقراري وقبولي لم يصدرا، على ما خطر لي سريعاً، عن حساب أو تفكير ولا عن تقليل من شأن الأمر نفسه، والخلاف معتاد في تدبير اللبنانيين اليومي واضطراب إجماعاتهم أو "تقاطعاتهم"، على قول سياسييهم المتفرقين فيما يتفقون عليه.
فإقراري وقبولي صدرا عن وجه السائق، وعبارة وجهه، وعن جمعها يقظة قلقة إلى بعض الغيبة والانطواء على النفس. وهو مضى على سواقته من غير أن يلتفت إليّ، أنا القاعد إلى جنبه والمتنبّه على رغم مني إلى إيحاءات حركاته وسكناته. وأكبَّ على المقود، وأعمله في السير على الإسفلت، والانعطاف، وتجنّب السيارات الأخرى والمارة، إعمالاً مباشراً لا تتوسط المركبة فيه بين السائق وبين مسارح السير. فالسيارة، ومن فيها، جزء أو بعض منه.
يروي السائق أن وديعته بقيت قريبة من المئتي ألف دولار (أمريكي) ولم تقل يوماً عن المئة وخمسين ألفاً. كلها تبدّدت، وتكاد السيارة لا يفي عائدها بثمن البنزين. وهو يسوق من غير أن يبصر أمامه
وحين بلغنا ساحة رياض الصلح، استقبلنا مبنيا مصرفين كبيرين ومشهورين. فغمغم السائق، وهو ينعطف يميناً في الساحة الفاغرة عن حفرة عريضة خلفها مشروع بناء كبير بقيت أساساته في جوف الأرض. وخرج من انطوائه، وأسفر عن غضب يكبته على الدوام، وقد لا يسعه كبته، فشتم اللصوص الذين سرقوا الناس علناً، ولا يخجلون من السرقة، ولا من علانيتها ولا يتوارون. فأدرت جلوسي صوبه.
نظرت إلى قسماته، وتوقعت، على مثال شكاوى سابقة ينفجر بها سائقون، أن يبادلني النظر، ويدعوني إلى تقاسم الشكوى أو اللائمة، وإن لم تحملهم الدعوة على إتاحة الفرصة للكلام والمشاركة. فلم يفعل. ولكن انفعاله الحاد قسم وجهه شطرين: الفم والذقن أسفل الوجه، والخدان والعينان والجبهة العريضة أعلاه. وبينما عرى ارتجاف متقطع وملتوٍ الشفتين والذقن، أقامت العينان والجبهة والخدان على صفرة شاحبة تشبِّه صفاءً غريباً.
أماكن غريبة
وسلك طريقاً إلى أول مار مخايل شكَّ، وشككت معه حين سألني، في إفضائه إلى المحل الذي نقصده. فعاد أدراجه من طريق موازية للأولى، في الاتجاه المخالف أو المعاكس. واندفع في كلام يبرر خطأه. فقال إنه ليس سائقاً. وهذه السيارة التي يسوقها اشتراها، ولوحتها ورخصة سوقها العمومية، لقاء بيعه بأبخس سعر سيارتين خصوصيتين كان يملكهما قبل السرقة المشهودة، ويعمل عليهما سائقان هما عاملان من ثمانية عمال يعملون في شركته، وحاول ألا يصرفهم إلى حين عجزَ عن سداد أجرهم.
وكرر أن السواقة ليست حرفته. وأردت القول، معزّياً ومخفّفاً، إن الحرف ليست فارقاً يعتدّ به. وهو يتم كلامه أن وديعته في المصرف كانت تنقص وتزيد، ولكنها بقيت قريبة من المئتي ألف دولار (أمريكي) ولم تقل يوماً عن المئة وخمسين ألفاً. كلها تبدّدت، وتكاد السيارة لا يفي عائدها بثمن البنزين. وهو يسوق من غير أن يبصر أمامه الطريق، وتبدو له الأماكن غريبة، وهي أليفة.
وأدى به الأمر والقهر- وكنتُ أحاول اللحاق بتفاقم شكواه، وتركه العنان ليأسه وغشيانه تفجُّعاً من ظلامه تلاحقه فدعوته إلى تجنّب الاسترسال مع الشعور المؤذي بالقهر، واستعاد هو الكلمة- إلى إجراء عمليتي قلب مفتوح. وفي الأثناء، اقترب صدره من المقود، وصار لصقه، وتقدم وجهه من واجهة السيارة الزجاجية. وتفرّس في الطريق البحرية، المحاذية للمرفأ، وهو يسابق السيارات على الطريق العريضة، وقد أنساه استغراقه في رثائه نفسه المكان الذي نقصده وبدا أنه لا يعرفه.
فلفتُّ انتباهه إلى أننا نكاد نجوز مبنى شركة الكهرباء، ويحسن بنا الانعطاف يميناً. فاعتذر بصوت خافت عن ضعف انتباهه، وتشتت ذهنه، وسألني مرة ثالثة أو رابعة عن المكان الذي أقصد. فالمصيبة الأخيرة التي تشغل باله، وعلم بها مساء يوم البارحة، هي سرقة ستة آلاف دولار من ابنه، كانا، هو وابنه، جمعاها دولاراً دولاراً، وقدّرا أن تقوم بنفقة سفر الإبن إلى الخليج، وتقضي حاجته في انتظار مباشرته عملاً هناك. وأردت استيضاحه ظروف السرقة. ولكنه، شأنه في أثناء الرحلة كلها، لم يصغ إليّ.
وكان دخل طريقاً فرعية، على خلاف وجهة السير المأذونة، قاصداً مَعْلَم شركة الكهرباء القريب. وأربكه اضطراره إلى السَّوْق في طريق ممنوعة، وشغله عن قلقه. وهو بلغ مجرى مار مخايل ومر بالمبنى العتيد. وعرى تحريه برم وضيق لم يتستر عليهما ولم يفصح عنهما. ورأيت في ساعتي أنني سابق موعدي بوقت في وسعي المشي فيه من غير أن أتأخر عن الموعد. وافترقنا، السائق وأنا، على نحو ما يفترق ناجيان من غرق مشترك.
الحجرة والشارع
وفي عودتي، نويت مشي الطريق التي تفصل جسر السكة الجديد عن ساحتي البرج والشهداء. وهي طريق مشيتها عشرات المرات أو أكثر، وربما مئات المرات إذا جمعت إلى مشيها منذ نهاية "الحرب"، في أوائل العقد العاشر من القرن الماضي، اجتيازها في الطريق إلى برج حمود، في عقود سابقة. وأتوقع، في كل مرة، مصادفة بوابة بيت، أو مدخل طريق، أو سفح درج، أو داخل محترفٍ أو مكتب أرضي، تجمع الانطواء والظل إلى الجهر والعلن، وتترجح بينهما.
والمكان الذي تركته، وكان موعدي المهني فيه، يشبه الشارع كله شبهاً قوياً. فهو حجرة في شقة، والشقة في الطبقة الأولى من مبنى، والمبنى يحاذي درجاً لا يُرى آخره، أو أوله، من الرصيف. فإذا بلغ الزائر باب الشقة واجتاز العتبة، ألفى إلى يساره مكتباً فسيحاً. وليس المكتب، حين السؤال، هو غاية السائل. فيُشار عليه بصعود الدرج الداخلي والخشبي إلى متخّت يعلو الطبقة التحتية، ولا يبدو، من تحت، مقراً لعمل جاد أو فعلي.
ولعل بعض قصص ألف ليلة وليلة هي مثال البناء على هذا الرسم. ففي هذا القصص تفضي الحجرة إلى ثانية وثالثة ورابعة، وبين الواحدة والأخرى ممر أو دهليز يؤدي إلى حديقة غنّاء، وتتوسّط الحديقة بركة، وتسبح في البركة جارية وجهها "فلقة قمر"... ويبقى من هذا، ومن خيالاته "الشرقية" قبل الاستشراق بأكثر من عشرة قرون، انطواء البيت- أو الدار، قبل الشقة المتخففة من العتمة وكناياتها وتورياتها- على مكنون لا يستنفد السكن والإقامة في وظيفة جلية ومعروفة.
وهذه الناحية من المدينة، الصيفي، عصف بها، قبل ثلاثة أعوام وأشهر قليلة، انفجار المرفأ القريب، وتركها متصدّعة، ولكنها "عادت"، وربما الأدق القول إنها استأنفت حياة علّقها العصف المدمّر، ولم يبلغ جذوتها
ومشيت على الرصيف الضيق قاصداً الغرب، إلى يسار الطريق. وكنت أحسب أن الأدراج التي تنحدر من الأشرفية، على خاصرتها الشمالية، قبالة البحر، درجان أو واحد. ويحتفل المقيمون على ضفتي الدرج، وهو يُنسب إلى الأشرفية كلاًّ وجميعاً، والتجار، بدرجهم هذا على نحو يُخيَّل لمن يقرأ الخبر في الصحف، أو شاهد بعض المشاهد على شاشة التلفزيون، أنه معلم فريد.
فانتبهت، هذه المرة، المتأخرة، أن الأدراج أربعة أو خمسة. والثلاثة التي لم يسبق أن انتبهت إليها، "تُرفع" فجأة للمتنزّه، على قول بعض قصص الجن في القصور المتلألئة بالأنوار التي تظهر حيث لم تكن قبل لحظة، بين بوابتي مبنيين شامخين وراء سورٍ عالٍ، أو في ظل شجرة معمّرة ووارفة يولد الدرج منها حين يمر المتنزّه غير المستعجل.
وعلى رغم تشييد مبانٍ عالية وحديثة، بعضها زجاجي- شيّدت كلها في الجهة المقابلة لمنحدر الأشرفية والمطلّة على البحر-، ونفور هذه المباني وكسرها تماسك العمارة الحجرية وألوانها، وقياس أحجامها على القامة البشرية، ومناسبتها عرض الطريق التي تمر في الحي، لا تزال هذه العمارة هي الغالبة. والرصيف، والبوابات الخشب الخارجية، والجدران العالية، والشرفات المسوّرة بالحجر أو بالحديد، والأعمدة، إلى بعض الشجر الذي يظلل الرصيف من وراء الجدار أو يُرى على جهتي ممر مبلّط داخلي- هذه كلها تحول دون ابتلاع الطريق وسياراتها المكان كله، واستيلائها على معالمه المتفرقة.
استئناف العمارة
ولا يصدق هذا الوصف في المباني الفخمة وحدها، وهي تنزع من غير شك إلى صبغ هذا الجزء من المدينة بصباغها، ويصدق في المباني الأخرى المتواضعة، التجارية والسكنية والمكتبية. فهذه كلها تحاذي واجهاتها الرصيف، ولا تتعدى عتباتها إليه، وتمسك عن اقتطاع جزء منه. فيتصوّر الرصيف على صورة خيط أو حبل ناظم، تتصل المحال من طريقه وبواسطته من غير أن تفقد طوية داخلها، واستقلالها بهذا الداخل. وتظلل شرفات الدور الأول من هذه المباني، وفي بعض الأحيان الدورين الثاني والثالث، الرصيف والطريق. فتصل دواخل البيوت، من علٍ ومن بُعد، بالخارج المشترك.
ويحول هذا الرسم، أو التنظيم، دون نتؤ أو تقدّم مبانٍ على أخرى، ومحالٍ على محال، ولافتات على لافتات. وقد يتوسّع المحل- مقهى، أو مطعماً، أو معرضاً (غاليري)، أو بقالة، أو كاراجاً، أو معمل أثاث صغير... وهذه وأمثالها كثيرة على جهتي الطريق-، ولكنه لا ينتهك قاعدة المساواة، وتجنّب البروز. فيستطيل إلى الداخل، وتبقى حصته من الواجهة، أو الحيز المقسوم لإطلاله على الرصيف والطريق، على قدر حصة البقالة الصغيرة المحاذية. ويُلحق داخلُه به حديقة صغيرة وبركة، ويفرد لمدخنة المطعم مكاناً، ويبني سلّماً خشبياً إلى دورة المياه في متخّت المحل.
وهذه الناحية من المدينة، الصيفي- إلى أنحاء أخرى لصيقة أو قريبة مثل الجمّيزة ومونو واليسوعية وعبدالوهاب الإنكليزي... وأسماء الداخل مثل مار مخايل النهر- عصف بها، قبل ثلاثة أعوام وأشهر قليلة، انفجار المرفأ القريب، وتركها متصدّعة، ولكنها "عادت"، وربما الأدق القول إنها استأنفت حياة علّقها العصف المدمّر، ولم يبلغ جذوتها. وقد تكون هذه الجذوة، وهي رسوم وصور وإيقاعات ظاهرة (وليست معنى مكنوناً ولا أصالة مركوزة)، بعضاً من إرث تاريخي، ومن عراقة يجددها أهل هذه الناحية وهم يدرون ما يفعلون.
الساحة الملفقة
والخارج من الصيفي، أو من جزئه شارع غورو، إلى ساحتي البرج والشهداء المتصلتين، تطالعه (أي طالعتني) معالم ثلاثة: جامع محمد الأمين، على ما يسمّيه الجمهور، وهو أولاً السوّاقون العموميون، وقبابه الزرق وعمارة جدرانه وبواباته "الرومانية"- من طريق العثمانيين البيزنطيين-؛ ومباني "سوليدير" التي تتوسط الساحة العريضة، وتقطع اتصالها وفسحتها الآذاريين (نسبة إلى 14 آذار/ مارس 2005)، ثم التشرينيين (نسبة إلى حراك 17 تشرين الأول/ أوكتوبر 2019)؛ و"معلم" ثالث هو صورة وجه امرأة (وكتفيها العاريين وأعلى صدرها) زيَّنه وزوّقه، ولونه بالمساحيق، وصفف شعره، وألبسه، المزين والمزوق... علي حطيط، بالحرف اللاتيني وحده.
وتحيط المعالم الثلاثة بالساحة السابقة على أنحاء مختلفة. فيطل المسجد الجامع، و"منافسه" الجامع العمري في قلب المدينة القديمة، من ماضٍ إمبراطوري وفاتح "باذخ" على قول شاعر لبناني تناول شعره "عثرات" الحياة وخواءها وركاكة أهلها. وشيّد الجامع الأعظم بموضع عبور، وانتقال، وتجارة، وأوقات عمل لا تحتسب العبادة في ترتيبها. وليس ثمة قياس بين ضخامته المشهدية وبين مساحة فنائه الضيقة. وهو لا يتوسط ساحة تتسع لعشرات الآلاف من المصلين، على شاكلة المسجد الأقصى المقدسي، أو على شاكلة الجامع الأموي الدمشقي، أو الأزهر القاهري...
فكأنه بُني في موضع آخر من مدينة أخرى، وحملته الجن من مكانٍ ناءٍ في الصحراء، وأنعمت به على الناحية التي حطته فيها. وفاقم البناءُ الحديث الذي يزحف على الساحتين المتصلتين، و "يأكل" انبساطهما وفسحتهما وصفتهما، من غربة الجامع. وهو يثأر من غربته بإشرافه من ساحق أسواره ومئذنته، وزبرجد قبابه الملكي، على عمارة بورجوازية القيم الاستعمالية والتكنوقراطية، وباهتة الألوان، وعارية الخطوط، وقائمة الزوايا.
على خلاف زملائه المعلِنين الآخرين، "يصنع" حطيط وجهاً شرقياً، حاد الشرقية. فبشرة المرأة شديدة السمرة، وقريبة من سمرة الأثيوبيات. وهي، مثلهن، مكتنزة الشفتين، ومستديرة الوجه، وممتلئة الخدّين
وشرذمت كتلة البناء الجديدة، في وسط ساحة الشهداء، بعد أن شُقّت طريق تحت جسر جديد الناحية الشرقية من الساحة، الساحة، وساوتها بمحطة قطارات "تقلّمها" خطوط السكة الحديد، على ما يُرى في مجسم بيروت كاوتشوك الذي صنعه مروان رشماوي. وما كان ينبغي له أن يتمم عمارة الساحة، ويجلوها على صورة متماسكة وهندسية، أبرز تنافر أجزائها، وسباحتها في خلاء متخلّع، لا لحمة أو مُسكة له، لا من داخله ولا من إطاره. وبدت هذه الكتل من المباني كأنها في انتظار تمام لن يأتي، وعليها أن تقنع بحال المجموعة الملفقة.
ويعلن ملصق علي حطيط، ووجه امرأة الملصق و"تطريته"، على قول أبي الطيب المتنبي في "الماكياج" (حسن الحضارة مجلوب بتطرية/ ...)، أموراً قوية الصلة بعمارة الساحة، وعمارة مار مخايل والصيفي. فعلى خلاف زملائه المعلِنين الآخرين، مثل عبد قبيسي وبسام فتوح وغيرهما، "يصنع" حطيط وجهاً شرقياً، حاد الشرقية. فبشرة المرأة شديدة السمرة، وقريبة من سمرة الأثيوبيات. وهي، مثلهن، مكتنزة الشفتين، ومستديرة الوجه، وممتلئة الخدّين. وسواد عينيها فاحم، ويتوسط بياضاً ملجوماً.
وبشرة الكتفين، شأن الصدر وملتقى الثديين، حادة السمرة. وشَبَه قسمات الوجه والجزء المرئي والأعلى من الجسم، ببعض لوحات فناني القرن التاسع عشر، من أمثال جان جيروم وأوجين لاكروا الذين رسموا "مضجعات"، من وحي الحريم والرقيق. (هذا الشبه) قوي. ولا شك في إرادة علي حطيط بعث هذا النمط من النساء، ومن التطرية أو "صناعة الجمال" المحلية، بل التراثية. فهو "يصنع" نساء يتحدّرن من زمن أو عصور الفتوح والقصور والحصون والأسوار، ويدير الظهر للنساء النحيلات والشقراوات والضامرات القسمات اللواتي روّجن ويروّجن لصناعة زملائه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.