شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
في انتظار

في انتظار "أفول أمريكا" وتقويض "بيت العنكبوت" الإسرائيلي

في مناقشة حادة من المناقشات التي يشهدها ائتلاف الكتل الحاكمة في إيران، ويهملها الإعلام عادة، انتقد علي أكبر صالحي- أحد أركان الطاقم الغالب (وزير الخارجية في ولاية محمود أحمدي نجاد الثانية، 2009- 2013، ورئيس المنظمة الإيرانية للطاقة الذرية في أثناء مفاوضة إيران مع دول 5+1 عشية الاتفاق النووي)- إحجام فريق علي خامنئي، المرشد، عن خوض "مفاوضات سياسية شاملة وواسعة" مع الولايات المتحدة الأمريكية. وينكر صالحي على المفاوض الإيراني اقتصاره على "حوار" يتناول أفغانستان والعراق وتبادل السجناء ("الرهائن")، والاتفاق النووي طبعاً وحكماً (عن موقع انتخاب "الإصلاحي" 23/7/2023).

ويبرهن السياسي الإيراني على رجاحة دعوته، وتصديه لمحور سياسة خامنئي وفريقه الحرسي، بوقائع لا يجهلها إيراني واحد.

1- يعزو تردي الوضع المعيشي طوال 44 عاماً، هي عمر "الانقلاب"، على ما تسمي الفارسية "الثورة"، الخميني، إلى العقوبات الغربية، الأمريكية أولاً، وإلى ضعف كفاءة الإدارة، ثانياً.

2- وتحول العقوبات دون "توسيع التعاون مع بكين وموسكو"، أي مع "الشرق" الذي يزعم أصوات النظام وألسنته وكبار مستشاريه (علي أكبر ولايتي، وزير الخارجية سابقاً والمشير المقرب على المرشد) أنه قطب العلاقات الدولية المتوازنة والمنشودة والمنتصرة لا محالة. ومن طرف قد يكون ساخراً، إذا جاز للسخرية أن تتسلل إلى هذه الطبقة من الموظفين، يلمح صالحي إلى "توصيات صينية وروسية" بإرساء علاقات إيران بواشنطن على نحو "يحل مشكلات" التجارة الإيرانية- الأمريكية.

3- ويخصص صالحي دعواه هذه بالتنبيه إلى استحالة "إقامة (إيران) علاقات بالمصارف الكبيرة في العالم"، وتَرتُّبِ شراء السلع "بأضعاف أسعارها" على ذلك. فإحجام حكومة إيران عن دخول نظام "فاتف"، ومراقبة موارد الإرهاب ومسالك تبييض الأموال، يبعثها على الالتفاف على المراقبة لقاء أثمان ثقيلة تسددها للوسطاء وسلسلتهم الطويلة.

4- ويتطاول أثر القطيعة والحصار إلى قلب الاقتصاد الإيراني، إلى الغاز والنفط. فافتقار الدولة إلى التكنولوجيا، الغربية تعريفاً على ما يحسب صالحي ولا تنكر الصين، يمنعها من استخراج الغاز، المادة التي تسابق النفط على المكانة الأولى.

5- ويصيب رهاب الأجهزة الأمنية الإيرانية من "أمريكا" الخبراء والاختصاصيين الفنيين العلميين. فلا يسافر أستاذ جامعي إلى الخارج إلا ويعود إلى بلاده، إذا عاد، "قلقاً من توجيه تهمة التجسس إليه". ويقيد هذا البحوث العلمية والتقنية التي تحتاج إليها إيران.

توقيت الأفول

ويخلص "الحكيم" المجرّب إلى ضرورة مفاوضات "سياسية" عامة تعالج المسائل والمعوقات التي تحول دون انخراط إيران، "القوة الإقليمية" الكبيرة، في إطار عالمي يدعو تشابكه وتماسك مصالحه الخصوم، مثل "أمريكا"، إلى حض الزبائن الفعليين والمحتملين على بيع الغاز والنفط من الصين بـ "العملة المحلية الصينية". فمن "السذاجة" يقول الوزير أحمدي نجاد السابق، الظن أن واشنطن تريد "احتواء" الصين، على معنى خنقها. وشرط الانخراط في الإطار العالمي، اليوم، هو تفادي القيود الغربية، الأمريكية خصوصاً وأولاً، على المعاملات التجارية والمصرفية، وأسعار الواردات والصادرات، وسعر صرف العملة الوطنية، والتكنولوجيا، والبحوث الفنية، وانتقال الأشخاص ورؤوس الأموال.

يتولى "الصبر الاستراتيجي" و"المساومة البطولية"، ومقتل 150 ضابطاً كبيراً من ضباط الحرس الثوري الإيراني على أبواب المدن السورية، في المئة أو مئتي سنة القادمة، العمل الدؤوب على "أفول أمريكا"

ويتناول المفاوض السابق نواة تعليل خامنئي وفريقه للدعاء "بالموت (على) أمريكا"، وفلسفة التاريخ والاستراتيجية التي تسوغ التعليل هذا. والنواة هذه هي، على ما يردد رؤوس النظام الخميني- الخامنئي وأنصاره ووكلاؤه و"صحافيوه" بصوت شي جينبينغي واحد، "أفول أمريكا". فيقول صدر الديبلوماسية الإيرانية الكبير سابقاً: "حسناً! متى يُتوقع (تتوقعون) أفول أمريكا؟ إذا (توقعتم) هذا الأفول بعد عام (من اليوم) استحق الأمر الانتظار والصبر. وإذا لم تأفل أمريكا (إلا) بعد ثلاثين عاماً، فما العمل أثناء ثلاثين عاماً؟".

ولا تستقيم طبعاً تهمة من اضطلع في العقد ونصف العقد السابقين بقيادة الديبلوماسية الإيرانية المعقدة والملتوية، بالسذاجة. ولكن لا بد من الملاحظة أن سؤاله الزمني، وطلبَه إلى طاقم خامنئي قياس الوقت الذي يفصل هذا الطاقم، والإيرانيين معه، عن "أفول أمريكا" الموعود، وربطه التوقيت هذا بـ "مشكلات" إيران الاقتصادية وثقلها على التجارة والعملة والإنتاج (مغضياً عن حراك "المرأة، الحياة، الحرية")- السؤال الزمني والمحور الاقتصادي قرينتان ربما على (بعض) الغربة عن العالم الذهنيّ وتصوراته التي يتنفس فيها طاقم خامنئي الحرسي وشطر غالب من أهل المناصب ("إستابليشمنت")، والحل والعقد، في حكم إيران.

ورد جواب الطاقم جاهز، قَصد الجوابُ الأعيان أو المعترضين أم لم يقصدهم. فـ "المناظرة" قائمة في الأحوال كلها، على ما ظهر في ملاحظات وزير الخارجية السابق، محمد جواد ظريف (2013- 2021)، على دعاوى قائد فيلق القدس (الراحل) قاسم سليماني، وعلى ما تعلن القيود الدائمة والثأرية على الرئيس الأسبق محمد خاتمي (1997- 2005)، وعلى ترشح محمود أحمدي نجاد في 2021 في مقابلة الرئيس الحالي، إبراهيم رئيسي.

الهزائم

فيمدح إسماعيل خطيب، وزير الاستخبارات، نظام فريقه بـ"القوة الجديدة الصاعدة على المستوى العالمي". ويجزم بأن "القوة المطلقة الأمريكية هُزمت على يد الحرس الثوري والجهاديين"، في لبنان وسوريا والعراق واليمن. وأدت الهزيمة -على قول حسين طائب، مستشار قائد الحرس الثوري "الأعلى" (وكان هذا أُقيل من قيادة استخبارات الحرس غداة افتضاح محاولته تدبير اغتيال سياح إسرائيليين في تركيا)- إلى إقرار الغرب بـ"عدم إمكان تغيير الأعداء للنظام في إيران"، وإلى "زيادة التفكك في الغرب، وخروج الشرق الأوسط من أولويات أمريكا، وتوهين اللوبي الصهيوني في أمريكا... نظير (تعاظم) التضامن بين الصين وروسيا وإيران" (من خطب ألقيت في اليوم الثالث من مؤتمر قادة الحرس الثوري السنوي، في 20/8).

وعلي أكبر صالحي، أحد أركان كتل السلطة الخمينية- الخامنئية، الحاكمة أو الاحتياطية (موقتاً)، لا يجهل أن مصادر مشروعية السلطة العامة ليست رهن الأحوال الاقتصادية والعوامل الحاكمة فيها. ولكنه يقدِّم العوامل الاقتصادية المعيشية التي أدت في أعوام 2017 و2019 و2020، إلى حركات احتجاج اجتماعية، على العوامل المعنوية والاجتماعية- "الثقافية" (مكانة المرأة، دور الشباب، خلافة الجيل الخميني الحاكم، التواصل الاجتماعي في عصر شيوع التقنيات الرقمية...) التي خلطت شعارات سياسية بالشعارات الاقتصادية، قبل أن تؤدي في منتصف سبتمبر/ أيلول 2022 إلى "حراك مهسا أميني" ("المرأة، الحياة، الحرية").

وتقديمه العوامل الاقتصادية والمعيشية على العوامل المعنوية والاجتماعية -"الثقافية"، على رغم إناطة أركان النظام مشروعيته المعلنة بالأخيرة وتسخيره أجهزته لخدمتها، قد يعني أن الرجل يحمل هذه العوامل، وتقديمها، على لغو وظاهر خالصين. وقد يعني، في الآن نفسه، ومن غير تضارب أو تدافع، أن مصدر الحركات الاجتماعية- "الثقافية" نفسها اقتصادي ومعيشي في المرتبة الأولى، وعلانيتها صورة مقلوبة أو مختلفة عن داخلها.

زمنان سياسيان

ويدل تبادل الحجج والعلل على الفرق بين الزمنين السياسيّين اللذين يقيس عليهما كلا الفريقين أو الجناحين توقعاته وغاياته. فحين يلوّح صالحي بالثلاثين عاماً القادمة المعلقة، ويحسب أن انتظار هذه المدة الطويلة حجة على أركان النظام والفريق الخامنئيين، يهمل البعد الخلاصي والمهدوي الأخروي للنظام، وهو بعدُ ينيط إنجاز "برنامج النظام" بفرج إمام الزمان.

وفي الانتظار، يتولى "الصبر الاستراتيجي" (أحد شعارات النظام الثابتة في العلاقات الخارجية)، و"المساومة البطولية" (على شاكلة "سلم" الحسن بن علي)، ومقتل 150 ضابطاً كبيراً من ضباط الحرس الثوري الإيراني على أبواب المدن السورية إسهاماً في تعجيل القدوم المرتجى، و"التخطيط" لبلوغ عدد الإيرانيين "المؤمنين" 150 مليوناً في عام 2050، إلى تبلور "المحور" الصيني- الروسي- الإيراني، وعضوية معاهدة شنغهاي وكتلة "البريكس" الموسعة، وإلى سقوط عبارة "الخيار العسكري على الطاولة" من الخطابة الأمريكية على قول خامنئي- تتولى هذه، في المئة أو مئتي سنة القادمة، العمل الدؤوب على "أفول أمريكا"، وانتصار إيران و"ملء الدنيا عدلاً".

ولا يرى فريق خامنئي فرقاً عريضاً بين الإنجازات الاستراتيجية هذه (وقاطرتها الطليعية هي البرنامج النووي، والصناعة الصاروخية الباليستية، وأخيراً صناعة المسيرات من طراز "شاهد")، وبين الإعداد لإدارة ما قد ينجم عن الذكرى الأولى لقتل مهسا أميني في الأسابيع القليلة القادمة، ولإجراء انتخابات مجلس الشورى في مارس/ آذار 2024، وهي أول استحقاق انتخابي عام بعد الحراك الذي أعقب قتل الصبية الكردية الكرمانية، وبعد انتخاب إبراهيم رئيسي بأقل من 30 في المئة من الناخبين.

"المسرح" اللبناني، مع نظيره العراقي ونظيره السوري إلخ، مثال صارخ (قياساً على "الصرخة") على مخاتلة الأقنعة والوسائط التي يتوسل بها "العدو" إلى إطفاء نور الشمس الساطعة

وأدخل الحراك، وذيوله، منذ حدوثه إلى اليوم، بعض التجديد على مصطلح فريق الحكم في طهران. فانتبه الفريق، في خطبه التي تكرر ما كان اللبنانيون يسمونه "أسطوانة" (وتركوا التسمية مللاً وغفلة)، ويحيل كتابة على الحائط إلى خطة استخبارات دولية وشيطانية إلى "(أوضاع جديدة) يحاول الأعداء (فيها) أن يستخدموا البهائيين، والاستياء العام، والحركات النقابية، والتيارات السياسية التي تُسِرّ بالفتنة والتغيير، وتعول على توسيع تأثيرها الاجتماعي، وافتعال الأزمات في المجتمع"، على قول وزير الاستخبارات إسماعيل الخطيب.

ويكرر الخطيب في الخطبة نفسها أن "استراتيجية" افتعال الأزمات "لا تقتصر على العمليات الإرهابية والتجسس"، بل تتعدّاها إلى إخراجها في "صور متفرقة على المسرح (الساحة) الاجتماعي". ويتيح هذا التوسع في التأويل والتعليل حمل عرقلة السير على طريقٍ سريعة، بواسطة حجرين أو ثلاثة، على جرم الحرابة. ويتيح، وهذا موضع "التجديد" فيه، توسيط وجوه الشأن الاجتماعي، مثل الأقليات الدينية (تستراً على الأقليات القومية الفعلية، البلوش والكرد) والنقابات وبعض أحكام المعاملات في الحياة العامة، في تشخيص "التآمر" ورصد أشكالٍ مخففة من "الإرهاب والتجسس".

مجتمع و "صرخة"

وتوسيط الحلقة الاجتماعية في السلسلة التي يمسك الأعداء بطرفيها، في الأحوال كلها، لا يعلق الحكم البوليسي، ولا جزمه في طبيعة الجرم وخطورته. ويصدر الجرم مباشرة، في نهاية المطاف ورغم الإخراج الصوري والمسرحي، عن الأصل "السرطاني"، على قول روح الله خميني في فتواه الإسرائيلية، الأمريكي والاستخباري الإرهابي والجاسوسي. وسوغ هذا في العراق ولبنان، وحراكيهما المدنيين والاجتماعيين، تصدي الوكلاء الحرسيين إلى قمع الحراكين، بواسطة عنف قاتل في العراق، وعنف معنوي في لبنان.

وإذا كانت "الصرخة"، الحوثية اليمنية "في وجه المستكبر"، (الموت لأمريكا/ الموت لإسرائيل/ اللعنة على اليهود/ النصر للإسلام)، جواباً مستوفياً شروط الإحاطة بقضايا اليمن والتخطيط لحلها، فهي، من وجه آخر، اختصار بليغ لوجوه الفلسفة السياسية الخمينية – الخامنئية، في إيران نفسها، وفي الوكالات الجهادية المنتشرة في جنوب آسيا الغربي. ففي ضوء "الصرخة" هذه، وحلها أو تفكيكها، على ما يحلو القول لمثقفين على الضفتين الإيرانية والخليجية (قبل "الاتفاق التاريخي" وبعده) المزاعم السياسية والاجتماعية و "الثقافية" إلى عناصرها الإرهابية والتجسسية في آخر المطاف- توضع الأمور في أنصبتها الطبيعية والحقيقية.

والمتسلح، على قول "ماركسيين" من عهد مضى، بـ"الصرخة"، ومنهاجها أو صيغها المتفرقة (مثل برنامج "حزب الله"- لبنان في 2009، أو "ورقة" إعلانه في 1985، أو مجموعة خطب خطيبه في 40 جزءاً لينينياً...)، يميط اللثام بسرعة ضوئية عن الأقنعة الوسيطة، الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية والثقافية والنسوية والمدنية وغير الحكومية والسيادية والوطنية والزمنية... التي يتقنّع بها الاستخبار والتجسس و"أفول أمريكا".

والحق أن "المسرح" اللبناني، مع نظيره العراقي ونظيره السوري إلخ، مثال صارخ (قياساً على "الصرخة") على مخاتلة الأقنعة والوسائط التي يتوسل بها "العدو" إلى إطفاء نور الشمس الساطعة، على قول مأثور، والتستر على العمالة والأوامر الأجنبية، فإنشاء "جبهة معارضة"، نيابية وسياسية، في لبنان لا يجوز أن تكون الأحوال اللبنانية علته الأولى ولا الأخيرة، ولا بين الاثنين.

ورغم أن المعارضات المحلية أو الوطنية على أشكالها لم تنتفِ يوماً من حياة اللبنانيين وعلاقاتهم ونزاعاتهم الكثيرة، يحمل "التفكيك الصارخ" ولادة تكتّل نيابي محلي يطالب بنزع سلاح الحزب الخميني والحرسي، ومترتباته المعروفة، وهذا ما لم تنفك جماعات كثيرة تفعله منذ أواخر العقد السابع من القرن الماضي (في صدد أسلحة أخرى)، على "حادثةِ" بلدة الكحالة- انزلاق شاحنة سلاح وذخيرة حزب اللهية في البلدة و "تطوّره" إلى نار متبادلة قتلت واحداً من أهل البلدة وحزبياً مواكباً-.

الولادة من النتائج

ولكن الحادثة العتيدة، ولو جاءت متأخرة عقوداً على مجابهات لا تحصى بينها وبين مجابهات حالية أوجه شبه، لم تلد نتائجها، ولم تسبق هذه النتائج، بل ولدتها نتائجها. ووُلدت هي ونتائجها، من رحم أو أرحام أخرى. فالتكتل السياسي الأخير يعوِّل، متوسلاً بحادثة الكحالة المدبّرة (في ضوء التفكيك)، على إحياء "حالة شبيهة بولادة 14 آذار/ مارس" (2005، غداة اغتيال رفيق الحريري). و "يراهن" الساعون في بعث الواقعة على "تحركات شعبية (توصل) فعلاً البلد إلى نقطة اللاعودة، وسط احتمال أن تقابل الشوارع بعضها البعض" (الأخبار، "المستقلة"، 19/8/2023، ص 2-3).

بناءً على الازدواج، وعلى أولوية الجسم العسكري، الأهلي واستقلاله (عن الدولة)، ينبغي الإقرار بكل ما يلزم دوامَ الجسم هذا، وتعاظم قوته، وحصانته من القيود على الاجتماع الوطني المحلي

فالحادثة، في مرآة "الصرخة"، وفي مقابلة الفريق هذا، ينبغي أن تكون صدى متجدداً لمثال أول، عدواني ومدبّر من وراء ستارة صفيقة يختبئ وراءها حفنة من السفراء والعملاء والإعلاميين المخربين. وعلى هذا، "تزامن صدور البيان، العالي النبرة، يوم الأربعاء [16/8]، مع افتتاحية لصحيفة الرياض السعودية... تحت عنوان (مواجهة مفتوحة)، حيث توجّهت إلى (المعارضة) بدعوتها إلى (خلق جبهة وطنية موسعة ضد هيمنة الحزب الولائي...)". ودعوة الصحيفة السعودية "مؤشر إضافي يدعم معلومات أفادت... بأن (التصعيد جاء منسقاً بعد لقاء مع السفيرة الأمريكية في لبنان دوروثي شيا واتصالات بالسعوديين)..." (المصدر نفسه، والأهلة قرينة على كلامِ مصدر، "معلومات"، غير معلوم ولكنه ثقة).

ويفضي إلى مثل هذه الاتفاقات والتنجيمات الفلكية المحكمة حمل السياسة والاجتماع وبشرهما، على مسرح دمى تحرك خيوطه وشخوصه "آلهة" و"شياطين". ولا تحظى الشياطين، وليس لها أن تحظى بمادة ذاتية وطوعية، من منطق ورغبات وحاجات ومصالح وقيم تعرّفها إيجاباً. فلا تعريف لها إلا على وجه السلب والخلاف. فهي ليست إلا نقيض الآلهة، ونقيض المنطق والحوار والوفاق والقانون والمصلحة إلخ.

وجمع كتل أهلية وسياسية- مثل الفريق الخميني والحرسي في إيران و "أنصار الله" الحوثيين في اليمن، و"الإطار التنسيقي" في العراق، والتوأمين الشيعيين في لبنان، والجهازين العسكريين في السودان... بين التغلب العصبي وبين القسمة الإثنينية والعدائية (التناحرية) للدولة والمجتمع "الوطنيين"، يؤدي لا محالة إلى تعليق الدولة في فضاء أهلي وعصبي لا يستقر على أحكام عمل، ولا على معايير إجراء، ولا على وحدة رمزية.

نظرية الحرسي

فعلى خلاف الفريق الخميني الحرسي في إيران، رأس السلطنة أو الإمبراطورية، لا يريد "حزب الله" (وملحقه الأملي) الاضطلاع بحكم الدولة اللبنانية، على النحو الواحد والمتماسك الذي تحكم عليه الدول اليوم: داخل حدود مرسومة ومعروفة، وتحت سيادة واحدة لا خلاف جوهرياً، داخلياً أولاً، على تعريفها ومشروعيتها الدستوريين أو على صلاحياتها وأولوياتها. وحَرَصَ الحزب الخميني الحرسي (- لبنان على ما يكتب) على تمييز نفسه، وجماعته التي تنصره، من الدولة. وهو يختصرها، على سبيل المراوغة، في جيشها- في "معادلته": "شعب وجيش ومقاومة". وعلل هذا التمييز بأن الحرب (على "أمريكا- إسرائيل") التي تخوضها الدول، والجيوش التقليدية، تضطر رغماً عنها إلى الإقرار بموازين قوى تغلّب القوي التقليدي، المسلح بالدبابات والطائرات والمدفعية الثقيلة والغواصات، على المحارب "النصير"، على ما تسميه وتعرفه الاتفاقيات الدولية، شأن اتفاقيات جنيف، وعلى موارد قوته: الحركة، السباحة في ماء الجماهير، اقتطاع القواعد والبؤر من الأراضي الوطنية، الكمون...

وردد خطباؤه وقادته أن استقلال الجسم العسكري "الإسلامي" بكيانه، وبعقيدته وأفراده وموارده، يجنّب الجيش الوطني شرور الصدوع بإملاءات القانون الدولي والوقائع العسكرية. وسكت الخطباء والقادة عن مترتبات اقتطاع الجسم العسكري الخاص من عمومية الدولة وأداتها العسكرية الوطنية، ونتائج ازدواج الجيش/ "المقاومة الإسلامية" والحرسية، وتقدم مرتبة هذه على مرتبة الأول. فصح في الحال اللبنانية ما قيل في علاقة باكستان بجيشها: بينما تملك الدول جيشاً يملك الجيش (الباكستاني) دولة- بينما تنشئ الشعوب مقاومة تصدّع "المقاومة الإسلامية" في لبنان الشعب وتخرب الدولة.

وبناءً على الازدواج، وعلى أولوية الجسم العسكري، الأهلي واستقلاله (عن الدولة)، ينبغي الإقرار بكل ما يلزم دوامَ الجسم هذا، وتعاظم قوته، وحصانته من القيود على الاجتماع الوطني المحلي. فهذه، لوازم الدوام والقوة والحصانة، تخصص الجسم كله، قيادة وقاعدة، باستثناءات لا تُحصى. فتجيز التمويل الخاص، والانتقال الخاص، والتعليم الخاص، والآمن والقضاء والتجارات والصناعات والعلاقات الخارجية والأشرطة السينمائية والتلفزيونية والشرطة الأخلاقية والمدنية... الخاصة.

فلا يجوز تركيب آلات تصوير ومراقبة في أماكن تهدد حرية انتقال أفراد الجسم. ولا ينبغي لهذا القاضي أن يحقق أو ينظر في قضية قد يتطاول تحقيقه فيها إلى مسؤولية الجسم العسكري أو قيادته عن جنحة أو عن جريمة. ويمنع زرع الشجر في هذا الموضع لأنه يحول دون مراقبة حركة العدو الفعلي أو المجازي. ويُحال دون إقامة جماعة من الناس في بلدتها (المختلطة) لأن البلدة "ثغر" يقع وراء خطوط قتال الجسم العسكري. فكل ما يعوق جاهزية هذا الجسم لشن حرب على إسرائيل، إذا اشتركت هذه أو لم تشترك في ضرب المرفق النووي الإيراني، صهيوني الميل والهوى والمصلحة.

ويتوّج الأوامر والنواهي هذه، ولائحتها لا تقفل، قسمة جوهرية نص عليها خطيب الجماعة نصاً لا تشابه فيه حين أمر، في 2004، رئيس الوزراء رفيق الحريري بالاقتصار على ما يعني مثله في دولة "الشعب والجيش والمقاومة" (وكانت "لبنانية- سورية" يومها)، وهو "الطحين والمازوت"، وترك السياسة (= "المقاومة الإسلامية" والحرسية) إلى أهلها وأوليائها. وهذا صدى مباشر لقسمة روح الله خميني جسم الفقهاء وعملهم شطرين: واحداً يتولى شؤون الولاية "العظمى" والإدارة، وآخر يتشاغل بـ "أحكام الحيض والنفاس".

وأدى العمل بالفتوى "الكبرى" هذه إلى انتهاج سياسة مالية واقتصادية واجتماعية طوال عقد ونصف العقد تقريباً غداة اتفاق الطائف (1989)، "الأمريكي- السوري" و "السعودي"، أسبغت نعمة الوظيفة العمومية (الرسمية) على عشرات الآلاف من المحاسيب والمنسوبين. وموّلت هؤلاء من ملاءة المصارف، والدين العام، واستدراج الودائع "الهرمي"، والهبات والمنح. وعقدت حلفاً بين رأسمالية "مغامرين" وشطار، على وصف ماكس فيبر، وبين عامة "رثّة"، على قول كارل ماركس في كتلة المتساقطين من العمال غير المستقرين وأصحاب الحوانيت المتداعية والمثقفين البوهيميين. وقصرت فضائل رئيس الجمهورية العتيد على "حماية ظهر المقاومة"، ولو كان الرئيس الموعود "عبداً أجدع" (أو ما في معناه).

وأحاط هذا الحلف، في رعاية سورية أسدية ساهرة، بالمقاومتين، مقاومة التحرير ومقاومة الإعمار، إحاطة السوار بالمعصم. ففي انتظار تقوّض بيت العنكبوت الإسرائيلي، وهو نظير "أفول أمريكا" وصنوه، أو إرجاعه إلى "العصر الحجري"، وهي صيغة التقويض الأخيرة بعد 23 عاماً على السابقة، نُدب رفيق الحريري، والخليجيون من ورائه، وخالفوه بعد اغتياله، إلى تدبير "الطحين والمازوت" وسعر صرف الدولار على الضفتين الاجتماعيتين ريثما ينهار البيت الخبيث "تحت ضربات المقاومة". وفي الأثناء "شُطر"، على قول يمني، اللبنانيون شطراً شريفاً وطاهراً، وشطراً آخر مظنوناً ومتهماً. وتعوم دولة اللبنانيين على هذا التشطير، على مياهه الآسنة أشلاءً، بينما تلوح في أفق يراه المتشككون بعيداً ويراه المؤمنون قريباً، علامات الأفول والانهيار الوشيكين.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard