شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
كابراً عن كابر... إلى تيمور وليد جنبلاط

كابراً عن كابر... إلى تيمور وليد جنبلاط

سياسة نحن والتاريخ

الجمعة 7 يوليو 202312:19 م

لما أُبلغَ الصديق بموعده مع "وليد بك" (وليد كمال جنبلاط)، قبل أسبوع من الموعد، في الساعة السابعة صباحاً، في قصر المختارة، على بعد نحو ساعتين من قرية الصديق - في "الغرب"، أو الشحار الغربي، الطرف الجبلي والمطل على البحر من البلاد الجبلية الواقعة بين جنوب المتن المختلط، المسيحي والدرزي، وبين الشوف، المختلط كذلك، الدرزي والسني والمسيحي الأكثري، ولو على مضض- قضّى الصديق الأيام، وعلى الأخص الليالي، الفاصلة عن الموعد، على قلق واضطراب.

ولم يكن الصديق الدرزي مقبلاً على موعد أولٍ مع "زعيم طائفته". وهو، في الخامسة والأربعين، لم يكن بكراً، إذا جازت العبارة. فخريج دائرة الاقتصاد في الجامعة الأمريكية في بيروت، والموظف المالي في الفئة الثانية (وهي تتأخر عن فئة المدير العام الأولى برتبة واحدة)، والمناضل الناشط في صفوف جماعات قومية ويسارية دعا بعضها إلى حمل السلاح قبل "الكفاح المسلح" الفلسطيني في منتصف العقد السابع من القرن العشرين، ووالد ثلاثة أولاد بكرهم في العاشرة من العمر، وشقيق أربعة أشقاء من أسرة مشايخ عريقة في "الطائفة"، على ما يقول معظم الدروز اللبنانيين من غير إضافة- مثل هذا الرجل يكلم وليد جنبلاط، أو غيره، كلام الند لندّه.

ومن هذا شأنه لا يقر، قولاً، للزعيم بمكانته، ولا للطائفة بكيانها ولحمة هذا الكيان. وهو في "اختصاصه" الاقتصادي، على ما كان يلح في القول، ماركسي لا يساوم ولا "يطاطي" على قول ردة، موقعة وموزونة، من أناشيد حراك 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 اللبناني. وهو في السياسة، لينيني وغيفاري، أو كاستروي، لا يهاب خلاف عَلَمَيْه ومرجعَيْه ولا تناقضاتهما. وإلى هذا كله، لم يكن الصديق "تقدمياً اشتراكياً"، على ما سمى حزبه سليل الغرضية الجنبلاطية "الحديث". وهو النعت الغرامشي الذي وهبه مثقف حزبي لكمال فؤاد جنبلاط (1917- 1977)، "معلمه" (من ألقاب الرجل)، ورئيس حزبه، وملجأه من نقمة طائفته (الشيعية) في أيام المحنة.

ولما عاد الصديق من لقائه بـ"البيك" لم يفتر كلامه، طوال أسبوع آخر، على اللقاء، والجلوس على حدة، والإصغاء العميق، والإجابات الطويلة والدقيقة، والتنويه بضرورة عقد اجتماعات أخرى قريبة. وروى الصديق، من غير مواربة، أن وليد بك استقبله في الحادية عشرة والنصف، تلية أربع ساعات ونصف الساعة على الموعد الباكر. وهو استقل سيارته في الثانية صباحاً خشية تأخره عن السابعة. فبلغ المختارة قبَيْل الرابعة. ونام في السيارة غير بعيد من باب القصر إلى نحو السادسة. ولم تبدُ عليه أضعف علامة على الحرج أو التململ من معاملة الرجل زائره وضيفه.

التسليم

ولم يكن هذا التسليم، القريب من اعتقاد الولاية أو الكرامة، عارضاً أو عابراً. فحين علم أن صاحباً يتردد عليّ، وأتردّد عليه، وهو من حلقة وليد جنبلاط القريبة، والذين يجمعون صفة "المستشارية" إلى صفة الحلف السياسي (الصاحب من "بيت" ماروني)- فرح محتفلاً وتمنّى عليّ أن أزوره مع صاحبي في بيته.

من غير مقدّمة معلنة، عاد الإبن إلى ديوان والده، وغشي مجالسه. وولج الدائرة الانتخابية والنيابية، في 2018. ولم يضم "الشيخ" ابنه إلى قائمته، ويتولى تدريبه على وظيفة النائب الشوفي الأول، بل ترك له المحل كله

وجمع، في اليوم المضروب موعداً، وجوه عائلته. وفي أثناء الزيارة، لم ينسَ في مخاطباته لقباً "علمياً" أو وظيفياً أو عائلياً من ألقاب الحضور، واحداً واحداً. ولم ينسَ السؤال مرة واحدة، إلى حين الهجرة القسرية من الجبل، عن "البيك" وأحواله، والإعراب عن إلحاح شعوره بواجب رد الزيارة في أقرب وقت إلى من شرّفه بزيارته في بيته. فالولاية المباركة تنتقل بالعدوى، أفقياً، من سليل إلى سليل، ومن ذرية إلى ذرية.

وتتمة المشهد أو الصورة هي كاتب العجالة. فأنا لم أرَ في طلب الصديق زيارة صاحبي "الجنبلاطي" له أمراً غريباً أو مستهجناً. ولم أحجم عن الاشتراك فيها. وبعض هذا مرده إلى أنني، في إقامتي بقرية أو بلدة درزية صغيرة، كانت مختلطة وبقي فيها من مسيحييها، الأرثوذكس والموارنة، نفر ضئيل من النساء والأولاد، كنتُ في "ضيافة" الصديق الدرزي، وهو لي "جار"، على قول بعض كبار أهل مكة وبطحائها فيمن يجيرونه من أهل ظواهرها وضعفائها (في السيرة المحمدية).

وهذا قانون السكن والنزول في بلاد العصبية أو "الغرضية"، على قول اللبنانيين العامي، فلا يسع الغريب، نسباً ومعتقداً، الإقامة في بلد أو أرض غير بلده أو أرضه إلا من طريق وسيط يحميه أو يجيره. وكان الرجل هذا وسيطي. وصادف في مساء يوم موحش، صيفي، أن عدت إلى منزلي في القرية، فألفيت طرقها مقفرة، وناسها وراء أبواب منازلهم لا يكاد يظهر في الظل طرف منهم حتى يتوارون وراء جدرانهم. فلم أشك في أن بعد الظهر هذا يوشك أن يكون مسرح قتل، على ما هي الحال في بعض مسرح فيديريكو غارثيا لوركا أو شعره.

وعلمت بعد العشية أن مشادّة دبت بين بعض أهل الشويفات، الدرزية الساحلية، وعائلة مشيك، البعلبكية الشيعية. فقتل هؤلاء من جيرانهم الدروز تسعة. فسرى في "الجبل" الدرزي، في هوائه وبين بيوته وطرقاته، انتظار وريح مريران، ينذران بالكارثة القريبة. وسمعت، مساء، من جاري الذي أجرني منزلي، على شرط ألا تتعدى إقامتي السنة الواحدة، وكان صديقي، ابن عمه، وسيطي إليه، سمعته يقول في خاتمة روايته الحادثة الشنيعة: "من سكن في غير ملته مات بعلته"، ولم يجد من ينجده. ولم أكن في حاجة إلى نجدة، و"علتي" كانت نسبي المفترض بالقتلة، ونسب أهل القرية بالقتلى.

مشهد الانتقال

هذا هو الرجل الذي أورث ابنه، تيمور وليد جنبلاط، يوم الأحد في 25 حزيران/ يونيو الماضي، "رئاسته"، على قول عربي قديم، وهؤلاء هم القوم الذين ورث الابن، وإن من طريق انتخاب مؤتمر حزبي حديث غلبت عليه التزكية التقليدية، ولم يخلُ من "طرح" الكوفية العربية (الفلسطينية) على العنق والكتفين تثبيتاً للانتخاب، رئاستهم. ويتشارك القوم الدرزي مع الأقوام اللبنانية الأخرى معايير اجتماعية وسياسية أساسية مثل تلك تتراءى في ثنايا الخبرين السابقين. والخبران يكبِّران، في منظار ثمانينات القرن الماضي ونزاعاتها المتمادية، سمات غلبت على الاجتماع التقليدي العادي أو الساكن، وتآخت، على نزاع وتنافر، مع سمات حديثة أخرى.

والقرينة على هذا إخراج الرجلين، الأب والابن، مشهد "الانتقال" على النحو الذي أخرجاه عليه. فتنصيب رئيس الحزب الجديد هو الحلقة الثانية، الظاهرة، من سيرورة خطت خطواتها الأولى، المتعثرة، في أوائل العقد الثاني. فيومها، في 2011ـ مع حركات "الربيع العربي" وحراكاته المناهضة للاستنقاع والفساد والقمع والتوريث، اقترح وليد كمال جنبلاط، البالغ يومها الستين من العمر، على ولده، البالغ عتبة الثلاثين (فهو مولود في 1982)، الانخراط في الحياة السياسية. وعلى قول الأب، الشاكي والخائب، لم يستجب الابن الدعوة، واعتذر بذريعة رغبته في إتمام دراسته وانتظار أوان نضجه.

وطوي الموضوع في الأعوام التالية. وتوارى الولد عن مجالس والده، الدورية، أيام الأحد في "حاضرة" البيت، ومحجة الطائفة الأولى وديوان حاجاتها ومبايعاتها ومجالسها، المختارة- والطارئة المتجددة، في حي كليمنصو البيروتي، وقلب المربع داخل زوايا القنطاري، والصنايع، ورأس "طلعة" جنبلاط من عين المريسة، وكنيسة مار الياس المارونية في ميناء الحصن.

وشهدت الزاوية الغربية الجنوبية من المربع، القريبة من الصنايع، في شتاء 1982، غداة انسحاب القوات الإسرائيلية من بيروت وأوائل ولاية أمين الجميل الرئاسية، محاولة اغتيال وليد جنبلاط. ولم يتشاءم الرجل، واختار الحي هذا مسكَناً ومقاماً، بعيداً من فرن الحطب، على أطراف حي اللجا (من لجا حوران) الدرزي سابقاً، والمصيطبة المتشيع، الذي أقام فيه والده، ونشأ فيه ربما.

ومن غير مقدّمة معلنة، عاد الإبن إلى ديوان والده، وغشي مجالسه. وولج الدائرة الانتخابية والنيابية، في 2018. ولم يضم "الشيخ" ابنه إلى قائمته، ويتولى تدريبه على وظيفة النائب الشوفي الأول، بل ترك له المحل كله. فانتخب الإبن، وترأس الكتلة النيابية، المتقلصة قليلاً. وكانت هذه الحلقة الأولى من نقل الميراث. وكانت العاصمة، المختارة، مسرحها.

ولبست شكل المبايعة "الشعبية" والعامية. فتوافدت الوفود صفاً طويلاً، وسلّمت فرداً فرداً، على "الشيخ" المتحدّر من أصلاب الأسرة (الدوحة، على قول الشيعة العامليين في كبرائهم، سابقاً)، واسمها، ومن تجديد الجمهور أو القوم ولاءه، على الرأس والعين والصدر، له. وتقدم المبايعين "العقال"، أصحاب "العمائم البيض" العلماء الذين لم يفوّت وليد جنبلاط فرصة كيل المديح لهم- في أوقات المحن على الخصوص، مثل هجوم مسلحي "حزب الله"، على الجبل في 11 أيار/ مايو 2008، و"عقّاله"- إلا وتذرع بها. وهؤلاء يتقدّمون الحضور مربعاً على حدة، وفي صدارة المجلس.

يثأر وليد جنبلاط، بعد أن ضعفت حلقة أبيه، من اسمه الثلاثي، وهو يرتب أو يهندس وراثة هادئة ووئيدة، من وراثته هو، الداهمة والمبكرة والمفجعة، والده، صريع السياسة الأسدية في لبنان والإقليم

وداوم الأب المجرب، من مجلسيه ودارتيه، على الاستقبال والزيارة والمداولة والإشارة والاقتراح. وتصدر الإبن النائب ورئيس الكتلة، "اللقاء الديمقراطي" تواضعاً، اجتماعات الكتلة الدورية، والتصريح المقتضب والمقتصد باسمها. وبعد انتخابات 2022 الأخيرة، وهي عززت وزن الكتلة، قيل كلام، مصدره الوالد "البطريرك" (وكان العرب يسمون شيخ القوم الأروام، أو البيزنطيين، "طاغية الروم")، تناول خلافاً بين الوالد وبين الإبن في الشأن الرئاسي. وبدا الوالد مسروراً بالقول إن "تيمور" يخالفه الرأي في الموقف من الكتلة الشيعية، ويؤيد موقفاً أشد حزماً.

وبعد نحو 14 شهراً على الانتخابات النيابية- وفي الأثناء جاز الإبن الأربعين، وهي السن التي عدها العرب سن ابتعاث الأنبياء أو سن الاشتراك في دار الندوة بمكة- دعا الوالد ذو المشيختين، المشيخة النيابية والمشيخة الحزبية، حزبه أو تنظيمه السياسي، والعامل افتراضاً على حدة من الولاء العصبي والمذهبي، إلى قبول استقالته من تكليف الرئاسة، الطوعي والإرادي والفردي، وانتخاب رئيس جديد باقتراع طوعي.

ولم يعقد المؤتمر التاسع والأربعون، غداة 46 سنة متصلة من رئاسة وليد جنبلاط، جمعيته العمومية في المختارة، دار الرئاسة والمشيخة، بل في عين زحلتا، على طريق أرز الباروك، والمحاذية للبقاع الأوسط والشديدة الاختلاط، ومعقل بعض أكبر العائلات الدرزية: أبو نكد، أبو الحسن، أبو حمدان، أبو المنى...، وأغناها بالمهن الحرة الجامعية، والقريبة من عين دارة، بلد الموقعة التي انتصر فيها القيسيون على اليمينيين، في 1711م، ولم ينفك كمال جنبلاط، جد تيمور وصاحب "الفكرة الإنسانية الجامعة" على قول حفيده في يوم ترئيسه، يلوّح بالحزبين علماً على "تجاوز" الطائفية تحت راية الرئاسة القيسية (وكان مؤجّري، الستيني، يرى عين دارة، الموقعة، جزءاً لصيقاً وحياً من سيرته وسيرة أقربائه، فهؤلاء، آل قائد بيه، تركوا القرية القريبة إلى أخرى، غداة خسارتهم في عين دارة...).

السماء على الرأس

وعلى هذا، يثأر وليد جنبلاط، بعد أن ضعفت حلقة أبيه، كمال، من اسمه الثلاثي، وليد كمال جنبلاط، وهو يرتب أو يهندس وراثة هادئة ووئيدة، من وراثته هو، الداهمة والمبكرة والمفجعة، والده، صريع السياسة السورية الأسدية في لبنان والإقليم ("أسد سوريا الكبرى" على ما كان ياسر عرفات يقول غاضباً ومستنكراً عنوان مقالة كتبها جان لاكوتير في الرئيس السوري صيف 1976). ففي ظهر يوم كالح من أيام آذار/ مارس 1977 طاردت سيارة يستقلها ضابط استخبارات سوري سيارة كمال جنبلاط ومرافقيه، وكانت خلَّفت وراءها لتوّها بلدة مزرعة الشوف. وأطلق الضابط النار على رؤوس ركابها الثلاثة وأرداهم في الحال.

وكان ابنه الوحيد، وليد، في السابعة والعشرين، إلا أشهراً قليلة، من العمر، يسرح ويمرح في "الحرب" اللبنانية وفي الحياة، شاباً يسارياً قومياً، متمرداً وحالماً وساهراً وقلقاً. وكان، خصوصاً، بعيداً من هموم كرسي زعامة مزدوجة تولاها والده: زعامة "الطائفة" القليلة والضعيفة، وصدارة "الحركة الوطنية" المحلية، العروبية والإسلامية وملاذ المنظمات الفلسطينية المسلحة الأخير وملجأها من الرعايات العربية القاتلة.

واقتلعه اغتيال والده، فجأة وعنوة، واضطراره العائلي والسياسي إلى خلافته في اليوم التالي، من وجوه حياته وهمومها، وألقى به في لجة معترك تاريخي بالغ التنازع والقسوة. فالقاتل هو الوصي المباشر والمدرع على "الحركة الوطنية" المفترضة، وضارب الحصار على الحركة الفلسطينية المسلحة... و"السند" الفلسطيني كثير الفصائل والولاءات والخلافات والشطحات. وورث خالف كمال جنبلاط، فيما ورث عن والده وأدواره ومرافقه، الحروب الداخلية الملبننة، ووجوهها الأهلية والإقليمية والدولية، وخطابتها (أو إيديولوجيتها) الكاذبة والفقيرة والمضللة، على نحو التمرين العروبي والإصلاحي والدارويني الذي خاطب به الوالد والابن واحدهما الآخر.

وعلى خلاف والده، ورؤاه الكونية العريضة واعتداده بنفسه وقسوته المجردة والذهنية، وجمعه، على قوله في كتيب يؤرخ للحزب التقدمي الاشتراكي، خمسة وعشرون عاماً من النضال (1971)، بين غبار الحوادث السطحية وبين أعماق التيارات الباطنية- أو ما معناه- اقتصر الإبن على "لكل حادث حديث"، و"(إعطاء) الخبز كفاف اليوم". وإلى جلوسه على منعطف النهر، منتظراً جثة عدوه الطافية، على ما قال في بشار الأسد غداة جلائه عن لبنان- وهي من الصور "الكبيرة" والفريدة في المقالات السياسية اللبنانية الضحلة-، ارتضى، غير مخير، معاملة صغار ضباط الاستخبارات السوريين، وهو المتهوم بـ"العرفاتية".

يلبس الحفيد الثالث "عباءة" مشيخة الطائفة قبل أن يزكيه "الحزب" رئيساً، ويتولى الشيخ الوالد التثبيت والرسامة، قبل أن يُجمع العامة على الاقتراع، ويشرب النبيذ القديم في أقداح جديدة

ورعى، بدوره، في إطار ميليشياه الخاصة والناشطة والشرهة، "ضباطاً" مرتزقين، وجباة خوات، وحملة حقائب مليئة جاهزين للسفر تحت جنح ليل في مراكب تيمم شطر قبرص أو تركيا أو ألبانيا. وحارب ميليشيا درزية والت الدولة العبرية حرباً شرسة واستئصالية. وقاتل "القوات اللبنانية" المسيحية التي قاتلته. ويقر جهاراً بقبوله "هدية" من متمولٍ شيعي، تبلغ 25 ألف دولار. ولم يغفل عن تنمية موارده، وموارد "الطائفة". ولا غفل عن سكينتها وصلحها، فترك طوعاً مقعداً نيابياً لخصمه الأرسلاني، اليزبكي. وسهر على أطراف الجبل الساحلية من قضم المهجرين الكثر الذين يؤاخي زعيمهم. وكان، بين وقت وآخر، يقفز إلى روما، أو باريس أو لندن ربما، ويدعو إلى العشاء جينا لولو بريجيدا، النجمة الإيطالية التي لمعت في العقد السادس من القرن العشرين (في حب وخبز وفانتازيا وامرأة من روما وجميلات الليل، بين 1953 و1954)، أو غيرها.

صيغ الوراثة

فقياساً على صيغة وراثة وليد جنبلاط والده، وعلى ظرف هذه الوراثة، لا شك في أن التوريث الحالي، المتطاول عقداً وبعض العقد، وعلى مراحل وحلقات محسوبة وموقّعة، في بلد مثل لبنان واضطراباته وانعطافاته وانقلابات جواره القريب والأبعد، عمل سياسي فني. وانتهى به المطاف إلى توحيده، وتوحيد فرادته ومهارته بطائفة الموحدين الدروز، بني معروف التنوخيين على الوجه النسَبي. ونُسب إليه أنه "لملم طائفته من بين الأرجل"، على قول مشترك تداوله أهل المجالس الذين يحملون السياسة على المشاهدة والتجهيز ("بيرفورمانس"). والقول إن الإبن الداخل في كهولته الأولى، والخالف شبه المراهق الذي سقطت السماء على رأسه قبل 46 سنة وأمطرته أصناف الكبريت والحوامض والمسوخ كلها، يخلف والده على إرثه، فيه من التعسّف شيء كثير.

ويتناول التحفّظ معنى الإرث، في هذا المعرض. فما عدا "الطائفة"، ورابطتها الصوفية والرحمية، وهي النواة الاجتماعية والمحلية الثابتة ظاهراً، لا يورَّث مزيج الشطارة الحربائية والحظ الصخري الذي لا ينفك من معظم أوقات السيرة الجنبلاطية، ولا يحاكى ولا يعلَّم. ولا يفتئت هذا الزعم على الإبن، ولا يعظّم من مكانة الأب، ولا يخرجه من المقايسة أو المقارنة، ولكنه يقر بفرادة قد تكون فرادة الناس كلهم- وكل واحد منهم "تمامُ إنسانٍ سُوِّي من (جِبِلَّة) البشر كلهم، يعدلُهم جميعاً وكل واحد فيهم عِدْلٌ له" على قول ج.ب. سارتر في آخر الكلمات-، هذا إذا قيضت لهم رواية فصولهم و"أجزائهم"، ونشر خاصهم على الملأ.

ويخمّن الواحد في بدايات الجد الأول، وهو كمال جنبلاط في أطر تجربة المعاصرين، مثل هذا النازع العامي والديموقراطي. فهو نبّه جمهوره، إبان تأسيسه حزبه في 1949، وهو في التاسعة والعشرين من العمر، إلى خطأ اعتقاده (الجمهور) حين ينظر إليه "كواحد من آل جنبلاط". ويصحح المؤسس الشاب رأي الجمهور فيه: "... لا أريد منكم هذه النظرة، أنا أقول لكم انتخبوا الشباب الذين ترون فيهم الحضارة والأدب والإخلاص ولا تنتخبوا ابن هذا البيت أو ذاك" (من خطبة في بيصور، في 1946، نقلاً عن عزت صافي، الأخبار البيروتية، 26/6/2023). ولم يخرج الجد الأول، ولا خرج الأب الثاني، والحفيد الثالث يلبس "عباءة" مشيخة الطائفة قبل أن يزكيه "الحزب" رئيساً، ويتولى الشيخ الوالد أو الشيخ الرئيس التثبيت والرسامة، على قول المراتب الكنسية، قبل أن يُجمع العامة على الاقتراع، ويشرب النبيذ القديم في أقداح جديدة، على قول صيني عريق ومستأنف.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image