يجيب بيان قمة مجموعة العشرين الأخيرة في نيودلهي، في 10 أيلول/ سبتمبر، عن سؤال يلح على تظاهرات المحافل الدولية ومؤتمراتها ومنتدياتها، كما يلح على مشاغل الناس اليومية. ويتناول السؤال "طبيعة الحرب" الروسية على أوكرانيا، والباب الذي يناسب صفتها: هل هي حرب محلية، تقتصر على دولتين جارتين تتنازعان على أراضٍ، واسعة أو ضيقة، وعلى سكان، كثيرين أو قليلين، ولا تعني غيرهما إلا على سبيل الوقاية والتحوّط؟ أم هي حرب إقليمية تزج في لجّتها، وفي حواشيها، بدول أخرى قريبة تتشارك مع الدولتين المتحاربتين مصالح وعداوات وخلافات قديمة أو معلّقة تترتب مصائرها، أو بعض هذه المصائر، على مآلات الحرب الدائرة؟
أم أنها، وهذا هو الوجه الأشد إلحاحاً، حرب عالمية تتستر على عالميتها، الأطلسية (الغربية الشمالية) والأوراسية (الجنوبية الشرقية)، على زعم روسي، بدعوى قصرها على الأراضي الوطنية المباشرة التي تخاض عليها؟
وجواب القمة الدولية، وهي هيئة انبثقت عن أزمة 2008 الاقتصادية التي أصابت الدول الغربية الكبيرة وماليتها على الخصوص، يدعو "جميع الدول إلى الالتزام بمبادئ القانون الدولي". وهذه بداهة ينبغي ألا تستوقف أحداً، ولا ينبغي أن تدعو أحداً إلى التحفظ أو الاعتراض. وتعلن الكتل الدولية المتنازعة، وغير المتنازعة على زعمها، تمسكها بعلاقات دولية تقوم "على قواعد"، بحسب الصياغة الغربية.
وتعني بـ "القواعد" التزام الاعتراف بالكيانات والحدود والحقوق التي أسفرت عنها هزيمة المحور الألماني- الإيطالي- الياباني في الحرب الثانية، وأقرت الاحتكام إلى شرعة حقوق الإنسان الأممية في مقابلة اللجوء إلى ميزان القوى، أو "الميدان" على قول أنصار "محور الممانعة" المحلي والإقليمي منتشين ومهلّلين، وإعماله وحده.
ويحمل المحور الأوراسيوي "القواعد" على معنى واحد وقاطع، هو "عدم التدخل في الشؤون الداخلية"، بذريعة حقوق الإنسان أو بذريعة أخرى. وعليه، فأوكرانيا شأن روسي داخلي منذ الروس الكييفية، على رغم جمهورية 1919، وقبلها قرون طويلة ومتقطعة من الاستقلال والسيادة، ثم انبعاثها في 1991، والبروتوكول النووي في 1994، ومقاومة الدونباس في 2014- 2022 (وهي لم تنته مع الحرب "الخاصة"). وتايوان شأن صيني داخلي. وقبلهما، لا تحصى الشؤون "العربية" الداخلية التي تحصنها عروبتها من غول التدويل وسمّه القاتل (والشطر الثاني من المقالة، أي الرأي في التدويل، صحيح، أما الحصانة العربية فزعم ينضح غرضاً).
الحدود والسلاح
وخصص إعلان القمة عمومية التزام مبادئ القانون الدولي. فقيده بإدخال "سلامة الأراضي والسيادة والقانون الإنساني الدولي"، وتولي "النظام المتعدد الأطراف" والأقطاب "(حماية) السلام والاستقرار"، في باب مبادئ القانون الدولي. وينبغي أن يُفهم التقييد أو التخصيص هذا إدانة للعدوان الروسي على الدولة والأمة الأوكرانيتين. ولم يكتم المستشار الألماني أولاف شولتس قصد الفقرة هذه، أي تشهيرها، من طرف ضعيف المواربة، بالعدوان الروسي. بل عزا المستشار رضوخ وزير خارجية فلاديمير بوتين، سيرغي لافروف، إلى تأييد مندوب الصين النص هذا.
"يخلص" بوتين إلى أن أوكرانيا "ليست بشيء"، على قول علماء الحديث في مساجلاتهم وتجريحهم. فهي لم تكن يوماً، على زعمه، شعباً ولا دولة، ولا تعدو كونها "خطأً" ارتكبه البلاشفة
وأعلن البيان، من غير تورية هذه المرة، رفضه "استخدام الأسلحة النووية أو التهديد باستخدامها" في الحرب الروسية على أوكرانيا، وعدَّ الاستخدام أو التهديد به "غير مقبول". وسبق للدولتين الآسيويتين الكبيرتين، الصين والهند، أن ندّدتا بتلويح بوتين، ونائبه في مجلس الأمن القومي الروسي، ديمتري ميدفيديف الطليق اللسان في هذا الموضوع، بإخراج السلاح النووي "التكتيكي" من اعتكافه واستنكافه عن الاستعمال (ووصفه بأنه "سلاح ردع" و "لا- استعمال") إلى مسرح العمليات. وكان هذا التنديد بارقة أمل ضعيفة بكبح الدولتين القريبتين من موسكو، على نحوين مختلفين، جماح الرئيس الروسي الحربي. ولكن رئيسي البلدين اقتصرا على إعلان تحفّظهما.
وتناول البيان مسألة ثالثة تتصل بالحرب الروسية، هي "تدفق الحبوب والأغذية والأسمدة من روسيا وأوكرانيا (تدفقاً) آمناً" إلى أسواق البلدان المحتاجة، والهند في مقدمها، إلى بلدان أفريقيا كثيرة.
وعلى هذا، اضطرت القمة "الاقتصادية" الدولية إلى صرف معظم وقت خبرائها وسياسييها إلى تناول بعض مترتبات الحرب الروسية على أوكرانيا ودفاع أوكرانيا عن سيادتها واستقلالها، وعن كيانها في آخر المطاف كما في أوله. وتتطرق القمة الدولية إلى الحرب، على وجهيها العدواني الإمبريالي والدفاعي الوطني، من غير الخلوص إلى تحكيم ورأي حاسمين فيها. وثمة موازنة ملتبسة في توجيه الدعوات إليها، سبقت انعقادها ومناقشاتها وبيانها الختامي. فلم يَدعُ رئيس دورتها ناريندرا مودي، رئيس الوزراء الهندي، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ولا دعا الرئيس الأوكراني فولودومير زيلنسكي. وكانت أوكرانيا، وهي لا تتمتع بعضوية النادي الاقتصادي هذا، على خلاف روسيا، اقترحت دعوتها إليه، والكلام إليه، وشرح موقفها من الوجوه الثلاثة التي أدلى البيان برأيه فيها: القانون الدولي، والسلاح الذري، والكارثة الاقتصادية المترتبة على الانسحاب الروسي من اتفاق البحر الأسود.
وعزا وزير الخارجية الروسي، لافروف، "نجاح" موسكو، وهو يعني إحجام المؤتمرين في القمة الاقتصادية عن إدانة روسيا بالإسم في بندي "سلامة الأراضي والسيادة" و"استعمال السلاح النووي"، إلى "منع هيمنة أوكرانيا على القمة (...) بفضل وحدة الجنوب العالمي" (وفي الصيغتين الفرنسية والإنكليزية للشطر الأول من كلام لافروف، يتعدى الأمر "منع هيمنة أوكرانيا..." إلى "منع أكرنة القمة").
ولكن الكفتين، الأوكرانية والروسية، ليستا متساويتين. فاستبعاد روسيا بروتوكولي، على رغم أن غياب الرئيس الروسي يعود إلى إجراء جنائي، صادر عن المحكمة الجنائية الدولية، ويتناول جريمة حرب وجريمة في حق الإنسانية، وهي انتزاع أطفال من أهاليهم، وترحيلهم عنوة إلى بلد آخر و"أهل" آخرين. ويفترض في مثل هكذا تهمة، قبل المحاكمة وقبل الإدانة، أن تدمغ المتهم بها بعار لا يُمحى. وأما استبعاد الرئيس زيلنسكي فسياسي، قرينة على ترجّح دول "الجنوب"، وهو غير "عالمي" لأنه منقسم على نفسه، ومعاييره في هذا المعرض محلية ذاتية وثأرية، وقانع بدور مصدره العدد والابتزاز- بين المقايضة الظرفية وبين الحساب السياسي الاستراتيجي.
مقدمات روسية
والحق أن العدوان الروسي- وهو أول حرب تقليدية كبيرة في أوروبا منذ الحرب الثانية، إذا استُثنيت الانتفاضات الشعبية على الديكتاتورية السوفياتية، والحروب الأهلية اليوغسلافية، وحرب استقلال كوسوفو في أواخر العقد العاشر من القرن الماضي-، والحرب الروسية- الأوكرانية التي خلفها، مختبر عسكري وديبلوماسي وسياسي اجتماعي على مقاس "طبيعي" عريض. ويستفز التذكير المتكرر والملح، الأوروبي بأوروبية الحرب، غير الأوروبيين، الآسيويين والأفريقيين على وجه التخصيص. فكأن العالم كله لم يُبتلَ بمئات الحروب الساخنة والمدمّرة والطويلة، ولم تُخض عشرات الحروب الاستعمارية الضارية، في الأثناء وبينما تجني أوروبا، أي غربها وبعض جنوبها، "عوائد السلام" في "ظل" ردع نووي بقي قلقاً ومضطرباً إلى حين أزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا، في خريف 1962.
ولكن الموقع الأوروبي ليس عَرَضاً ثانوياً، ويتطاول إلى ظروف اندلاع الحرب، وإلى سياقاتها وملابساتها، على نحو ما يتطاول إلى أغراضها وغاياتها، وذيولها على الأرجح. وخلافات قمة العشرين في نيودلهي، وتوافقاتها، واستعارات وكنايات صياغتها، هذه كلها مرآة العلاقات الدولية وأحوالها في أثناء الحرب "الجديدة" هذه، وبعد مضي نحو 18 شهراً عليها. وقبل انقضاء هذه الأشهر، كانت موضع تناول مختبري، ورصد لـ "دروسها"، على قول فرنسوا هيْسبورغ، المستشار الخاص لمؤسسة البحث الاستراتيجي (الفرنسية) ورئيس المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية بلندن سابقاً (دروس حرب، آذار/ مارس 2023، دار أوديل جاكوب، باريس).
والذين لم يأخذهم اجتياح 190 ألف جندي روسي، و2000 مركبة مدرّعة، من أربعة محاور على جبهة طولها 4 آلاف كيلومتر، صباح 24 شباط/ فبراير 2022- على حين غرّة، تذكروا من غير جهد مقالة الرئيس الروسي، في الأول من تموز/ يوليو 2021. ففي هذه المقالة، على مدونة بوتين، "يشرح" الرجل، أي يثبت من مكانته أن الروس والأوكرانيين "متحدون"، ولا فرق بينهم. ولكن وحدتهم، على ما يذهب إليه "وحدويون" كثر في بلدان العالم، لا تعني مساواتهم أو وجود طرفين، بل تعني أن أحد الطرفين، أضعف الإثنين، ينبغي إلغاؤه ونفيه من الوجود.
وعلى هذا "خلص" بوتين في مقالته العتيدة إلى أن أوكرانيا "ليست بشيء"، على قول علماء الحديث في مساجلاتهم وتجريحهم. فهي لم تكن يوماً، على زعمه، شعباً ولا دولة، ولا تعدو كونها "خطأً" ارتكبه البلاشفة، على ما عاد وكرر في خطبتيه عشية حربه، في 22 شباط/ فبراير، و23 منه- وليسوا شعباً ولا دولة من يُرئسوا عليهم رجلاً مثل الرئيس فولوديمير زيلنسكي، "نازياً جديداً" (مثل "النيوليبرالية")، و "مافيوياً"، و "دمية أميركية" و "مخدَّراً مدمناً"، و"شاذاً جنسياً".
وعلى سبيل الجد، وليس الهزل القاتل، شرح ديمتري بيسكوف، الناطق باسم الكرملين، لفرنسوا هيسبورغ، في آذار/ مارس 2014، غداة ضم بوتين شبه جزيرة القرم عنوةَ إلى الاتحاد الروسي، أن على روسيا "فدرلة" أوكرانيا. وعنى بالفدرلة إقامة المناطق الأوكرانية علاقات مباشرة بالوزارات الروسية المركزية، فلا يبقى من الدولة المركزية الأوكرانية غير رئيس صوري وحرس شرف وصالة استقبال في مطار كييف. وفي أثناء إعداد العملية العسكرية الخاصة، بين 2014 و2022، "اقتصر" التمهيد على قتل 14 ألف أوكراني في الدونباس، في مناوشات قليلة العنف بين انفصاليين ترعاهم موسكو وبين ميليشيا قومية أوكرانية من المتطوعين.
تناول إيديولوجي
وبناء على المقدمات "التاريخية" البوتينية، أي نفيه وجود أمة ودولة أوكرانيتين جوهريتين وإخراجه الطاقم الحاكم والمنتخب من المشروعية، نزعت الحرب إلى أهداف "استئصالية"، على ما كان يقال في حرب بعض العسكريين الجزائريين على الإسلاميين المحليين في "العشرية السوداء" (1990- 1999). والأهداف الاستئصالية، على قول هيسبورغ، هي ثمرة تناول أيديولوجي مزدوج: الأوكرانيون ليسوا شعباً، والأوروبيون جبناء منحطّون والأميركيون لا شاغل يشغلهم غير الصين.
يلابس التناول الأيديولوجي الصارم هذا اعتقاد "صوفي"، أو كنسي ملي على أضعف تقدير، بأن الغرب يسكنه الشيطان، أو وباء جنسي وسرطاني من أوبئته، على قول خميني مشهور، وعلى روسيا الاضطلاع بالحرب عليه، وقتل الجرثومة
ويلابس التناول الأيديولوجي الصارم هذا اعتقاد "صوفي"، أو كنسي ملي على أضعف تقدير، بأن الغرب يسكنه الشيطان، أو وباء جنسي وسرطاني من أوبئته، على قول خميني مشهور، وعلى روسيا الاضطلاع بالحرب عليه، وقتل الجرثومة. والمهمة "الطبية" هذه إمبراطورية وإمبريالية، وجزء من برنامج استراتيجي وعملي مباشر، يقضي بتصديع النظام الأمني الذي ساد أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وفي الشهر الأخير من 2021، ثلاثة أشهر تقريباً قبل العدوان، "اقترح" الرئيس الروسي، على شاكلة إنذار، مُسوَّدتي معاهدتي أمن تعيدان أوروبا إلى الحال التي كانت عليها قبل 30 سنة، عشية انهيار الاتحاد السوفياتي. تقضي المسودة الأولى بإبطال الضمان الدفاعي الذي تتمتع به الدول الشيوعية السابقة بموجب عضويتها في منظمة معاهدة شمال الأطلسي (الناتو)، وهي 14 دولة انضمت إلى الأطلسي بعد 1994 إلى 2007. وتحظر المسودة الثانية على بعض بلدان الاتحاد الأوروبي، مثل فنلندا والسويد، الانضمام إلى حلف الأطلسي.
وعلى خلاف مزاعم الدعاية الروسية، ليس توسيع "الأطلسي" وشموله جيران روسيا المباشرين، هو الداعي إلى شن الحرب "الوقائية". فآخر حلقات التوسيع، قبل الغزو، يعود إلى عقد ونصف العقد. وتجاوز فنلندا والسويد تردّدهما في الانضمام إلى الحلف العسكري الدفاعي سبّبه الغزو، وليس هو السبب فيه. فاستحق بوتين، بحسب مزاح ساخر عَقَّب على طلب البلدين الشماليّين والمحايدين حماية الحلف، لقب "أفضل داعية أطلسي".
وكذَّب خروج فنلندا من "الفنلندة"، على ما سُمّيت سياسة مراعاة مصالح الجار القوي وتقديمها على الروابط التاريخية الراسخة، وخروج السويد من الحياد، تعويل بوتين على تصدّع الغرب وتفسّخه الاستراتيجي بعد "الأخلاقي". واحتسابه انشغال الولايات المتحدة بالصين، وانصرافها عن أوروبا، على ما آذنت بعض سياسات رونالد ترامب، أغفل النتائج "الصينية" المترتبة على انتصار العدوان الروسي.
فلو قُيِّض لروسيا هذه أن تنتصر في حربها "الخاصة" لضَعُف الغرب، "الجماعي" حقا في هذا المعرض، بإزاء الصين، ولرجحت كفة هذه في المنافسة الأيديولوجية بين "كتلة" البلدان المتسلطة والحائرة التي تتصدرها بكين من غير أن تقودها، وبين الديموقراطيات وصفّها. ويُفهم موقف الصين المتعرّج- والمُحجم عن إدانة الحرب الروسية الإمبريالية من غير تأييد مقدمات بوتين الكيانية ("حقه" في تقويض دول وطنية قائمة) والنووية، ولا انتهاك الحظر على التسليح- في ضوء الموازنة بين المصالح هذه.
الأذرع والجسم
وصاحبت جسامة الحسابات والغايات السياسية ومترتباتها على الأحلاف والمنافسات والعداوات، حرب ضروس فعلاً أوقعت خسائر هائلة في الأرواح والمرافق والعتاد ذكَّرت بخسائر الحرب العالمية الأولى وخنادقها الموحلة وجبهاتها الثابتة. ففي الأشهر العشرة الأولى، سقط نحو نصف القوات الروسية المقاتلة أو الميدانية، وتُعد أربعين ألفاً، وجُرح ثلاثة أضعاف هذا العدد أو فُقدوا.
واضطرت روسيا إلى تجنيد 300 ألف جندي إضافي، مرة أولى، ثم حشد 240 ألفاً بعد هجوم أوكرانيا الأول، في خريف 2022. وهي تجنّد اليوم، في خطوط دفاعية مرصوصة وشديدة التحصين الشاكي تحمي ساحل بحر آزوف وشبه جزيرة القرم من الاختراق الأوكراني، نحو 420 ألف جندي.
وفي هذه الأشهر خسرت روسيا 1500 دبابة، ومئات الطائرات والحوامات، واستهلكت نحو 60 في المئة من ترسانتها الصاروخية. واشترت المسيّرات من إيران، وبعض الذخيرة من كوريا الشمالية. وقياساً على عدد السكان، وعلى طاقة الإنتاج الوطنية، فاقت خسائر أوكرانيا الخسائر الروسية الباهظة. وأدى تأخر الدول الغربية عن تلبية حاجات أوكرانيا الدفاعية، وتلكؤها في مدّها بسلاح يعوّض ضعف الطيران الحربي والسلاح المضاد للصواريخ، خشية انفلات الحرب الروسية من عقالها النووي وتورّط الدول الغربية في الحرب قانونياً- (أدى) إلى لجم الدفاع الأوكراني، رغم بلائه الكبير في صد الهجوم على كييف، ثم في استعادته خاركيف، في الشمال الشرقي، وخيرسون في الجنوب.
وقرينة أخرى على جسامة الحرب "العائدة" زجها في المعارك بكل صنوف الأسلحة، من السلاح الفردي الذي يحمله الجندي إلى الخزين النووي الروسي الضخم، وبينهما سلاح المسيّرات الجديد والرخيص الثمن. وتعمل هذه الأسلحة في العناصر كلها، البر والجو والبحر. والفضاء السيبراني، الهجمات الإلكترونية، من عناصرها الأثيرة. وكشف دوام الحرب المفاجئ، وكان بوتين يعوّل على إحراز النصر في أربعة أيام قد تطول أسبوعاً على أسوأ تقدير، عن قصور إعداد باهظ الثمن.
ولا يستوي الفريقان على قدم المساواة في هذا الشأن. فالمعتدي والمبادر الروسي يعدّ قواته منذ 2010، غداة حربه على جورجيا، في 2008، وأدائه العسكري الركيك والضعيف فيها ضد خصم صغير لا حول له ولا قوة. وفي ضوء هزال القوات الروسية، بادر القائد الأعلى والوحيد إلى تجديد بناء جيشه. فقلّص عدده، وصمّم برنامج تسلُّح صاروخي وجوّي وسيبراني عهد به إلى الجنرال غيراسيموف، قائد الأركان والمشرف المباشر على العمليات في أوكرانيا، بعد إقالة مشرفَيْن، وإليه يعود بناء التحصينات الدفاعية في أعقاب هزيمة الخريف الماضي.
وتتوسط "حرب" ضم القرم التي لم تقع، في 2014، وحرب الدونباس في الأعوام الثمانية السابقة، وتولتها ميليشيات أهلية على الجانب الأوكراني اندمجت تدريجاً في الجيش الوطني، الحرب العامة الجارية منذ شتاء 2022. ومهّدت الحلقات الثلاث الروسية هذه الطريق إلى الحرب الكبيرة.
"الإمساك" أو "الاعتدال" الروسي عن استخدام أسلحة دمار اقتصادي، يعود إلى قلق من رد فعل صيني، ولكن هذا الاعتدال غير مضمون البقاء، بينما تلوح في الأفق أعوام ربما من نزيف يؤدي إلى خسارة روسيا مواردها ونفسها معاً
ولا ريب في أن الدولة الأوكرانية- منذ 2014 وسلخ بوتين القرم منها رداً على "ثورة ميدان"، وانحياز الأوكرانيين إلى الاتحاد الأوروبي وخلعهم حليف بوتين المتردّد والضعيف عن الرئاسة- حدست في انتقال السياسة الروسية إلى طور عدواني وتوسعي جديد غداة الحرب على جورجيا.
فوثّقت العلاقة بـ "الأطلسي"، وعهدت إلى خبرائه ومدرّبيه ببناء جيشها على أسس جديدة. وأول هذه الأسس مرونة سلسلة القيادة وعموديتها، وحمل القيادات المتوسطة والدنيا على المبادرة والابتكار والتنسيق الميداني فيما بينها. ويُجمع المراقبون على أن إنجازات القوات الأوكرانية في الأسابيع الأولى من الحرب، مردّ شطر منها إلى هذه الأسس (وشطر آخر مردّه إلى الفوضى والارتجال الروسيين وإلى ضعف التنسيق بين الشُّعَب و "المصالح"، وشطر ثالث إلى استباق دور المسيّرات في الحرب).
أسلحة دمار اقتصادي
ولا يعوّض حسنُ البناء، ولا حضانة الشعب الأوكراني جيشه وتطوّعه الكثيف في صفوفه، النقص في العتاد والإمداد. وتعويل التخطيط الروسي على حرب خاطفة، بناءً على المقدمة البوتينية ونفيها وجود دولة وشعب في أوكرانيا "الروسية"، أغفل احتمال احتياج القوات الروسية إلى إمداد يعوض الاستهلاك الغزير والإصابات البالغة في العتاد. فرغم اتساع القطاع الصناعي الحربي الروسي، وهو قطاع "سوفياتي" مركزي، يقصر القطاع عن سد النقص الناجم عن سيل القصف اليومي. وتتسع الهوة على الجانب الأوكراني، والغربي من ورائه. فمن "دروس" الحرب انتباه الجيوش الغربية، وصناعات الحرب معها، إلى أن ضمورها المتعمّد بعيد جداً من الاضطلاع بتبعات حرب تقليدية كبيرة "تلتهم" الذخيرة، على أنواعها، التهاماً نهماً.
ورغم جموح الحرب الدائرة منذ 18 شهراً، وانخراط مصالح شديدة الاختلاف فيها، ورغم طغيانها عملياً على السياسات الدولية وتكتلاتها القائمة وبعض حساباتها، لم تتحول بعد إلى حرب عالمية، ولم تحمل المحاربين، وهذا يعني في المرتبة الأولى روسيا، على ارتكاب ما يهدد به نائب بوتين، ميدفيديف، وطاقمه الإعلامي والدعائي صباحاً ومساءً كل يوم. وهذا يعني أولاً السلاح الذرّي، طبعاً. وهو أشد عناصر الحرب عصياناً على التكهّن. واقتصار الروس، إلى اليوم، على التلويح لا يطمئن إلى دوام "عقلانيتهم"، واقتصارهم على القصف اللفظي والخطابي.
وثمة أسلحة دمار اقتصادي شامل، مثل قطع كابلات الاتصالات بين ضفتي الأطلسي تحت الماء- وهي تتولى 80 في المئة من الاتصالات المالية والعلمية (في حال وباء كورونا)- أو تعطيل الأقمار الاصطناعية في الفضاء، لم يلجأ إليها الروس، وهي في متناولهم. ويعزو هيسبورغ الإحجام الروسي إلى اليوم، إلى الضرر الجسيم الذي يوقعه العمل في مصالح الصين. والهجمات السيبرانية المحتملة كثيرة. وربما يستحيل حصر ضررها في العدو المستهدف. ويسوّغ هذا، إلى الآن، "الإمساك" أو "الاعتدال" الروسي، ولكنه لا يضمن دوامه بينما تلوح في الأفق أعوام ربما من نزيف يؤدي إلى خسارة روسيا مواردها ونفسها معاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.