شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
سألني الضابط: هل سافرت إلى أفغانستان؟ فضَحِكت وخفتُ وتلعثمتُ وبُعثِرتْ أفكاري

سألني الضابط: هل سافرت إلى أفغانستان؟ فضَحِكت وخفتُ وتلعثمتُ وبُعثِرتْ أفكاري

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحريات العامة

الثلاثاء 3 أكتوبر 202311:38 ص

تجربة التحقيق التي مررت بها في جهاز أمن الدولة كانت تجربة شديدة الأهمية والثراء، واعتبرها من التجارب الفارقة في تلك الفترة من حياتي، إذ كشفت لي جوانب هامة عن الآليات التي تتبعها الجهات الأمنية في التعرّف على الشباب، وليس بالقبض عليهم دائماً كما يدّعي البعض، أتحدث عن فترة سابقة تعود إلى آخر التسعينيات الميلادية، وليس الآن.  

أضاءت تلك التجربة جوانب مبهمة لم أمرّ بمثلها من قبل ولا من بعد، كنت قلقاً، حائراً، لم أكن خائفاً، لكني كنت مندهشاً ومتعجباً مما يحدث، ورغم تعجّلي لتلك المواجهة من أجل الفهم، إلا أن الهواجس تدافعت على عقلي، وتكاثرت الأسئلة بصورة غير مسبوقة، وعجبت من مجيئي إلى هذا المكان دون مبررٍ أعرفه: هل ثمة تشابه في الأسماء كما يحدث أحياناً، أم أنا المقصود فعلاً؟

لهفة التعرّف على كل جديد

اكتشاف قادة وأفراد للجماعة الإسلامية في الحي الذي أقطنه جعل الأجهزة الأمنية متلهفة للتعرّف على كل شباب الحي، وبالتحديد كل من يقل عمره عن الأربعين عاماً. فمن المؤكد أن اكتشاف ثلاثة شبان ينتمون للجماعة في دائرة سكنية صغيرة مكتظة بالسكان لن يمر مرور الكرام، فالأجهزة المسؤولة تخشى أن يكون لهؤلاء سطوة بالحي، أو أن يكونوا قد تمكنوا من بثّ سمومهم في نفوس الشباب والتأثير عليهم، فتنمو بذلك بذور العنف وتستشري الأفكار المغلوطة.

لذلك كان من الطبيعي أن يتم تكثيف الجهود، وأن تصبح قوات الأمن ضيفاً ليلياً ثقيلاً على بيوت المنطقة باستمرار، ومن الجائز إلقاء القبض على أي شخص في أي وقت، ليظل في المخفر القريب رهن التحقيق لعدة أيام قد لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، يتركونه بعدها إلى حال سبيله. 

سألت الضابط المسؤول، فأخبرني أن استخراج التصريح متوقف من قبل أمن الدولة، فابتسمت وقلت بثقة إن المسألة مجرد تشابه أسماء، فابتسم هو الآخر وقال مؤكد، وهو يشير إليّ بسبابته، إنه أنا، وسألني مستفسراً إن كنت ذهبت من قبل إلى أفغانستان، فضحكت وخفت وتلعثمت وبُعثِرت أفكاري

إذا كان الحال كذلك في العموم، فكيف يكون الأمر بالنسبة لي، وقد كنت قريباً من بعض هؤلاء الذين تم اعتقالهم، وخاصة الشيخ أحمد، نعم دخلت بيوتهم ودخلوا بيتي، أكلت معهم ولعبنا الكرة ورددت خلفهم الأذكار والأدعية، لكني لم أكن أعلم شيئاً عن انتمائهم. لا بد أن الأمر لن يمر هكذا دون مشكلة.

التقارير الفردية وتحليل الشخصية وميولها

  لم يباغتني أحد في الليل، كما حدث مع بعض أصحابي من الجيران، ولم يوجّه لي استدعاء، وقد تم استجواب أصدقاء لي عن علاقاتهم بالآخرين، والمساجد التي يصلّون بها، وقراءاتهم في المراجع الدينية، وشيوخهم المفضلين... وغيرها من الأسئلة التي من شأنها أن تعطي انطباعاً مبدئياً عن الشخص وتفكيره وميوله، وذلك حتى يسهل على المحققين تصنيفه، فمن الممكن أن يكون هذا سلفياً، وذاك إخوانياً، والآخر مشوّشاً فحسب، وبذلك يوضع اسمه في ما يسمى بالقوائم الأمنية. وهناك فئات أخرى يتم اعتقالها... المهم أن يتم التصنيف مادمت قد مررت عليهم.  

هناك من يُطلَب منهم العودة مرة أخرى لتسليم صور شخصية، وذلك من أجل إرفاقها بالتقارير الفردية، وتحمل تحليلاً لشخصيته وميوله من واقع الاستجواب.

لم يتم استدعائي مُطلقاً، فلا انتمي إلى أي جهة وليست هناك وشائج تربطني بمن يعكرون صفو الدولة. وقد تزوجت وسافرت في رحلة عمل بالصحافة السعودية، ولم تعترضني أية مشكلة في استخراج الأوراق، لكن في أول إجازة سنوية ظهرت المشكلة حين ذهبت لاستخراج تصريح العمل، وهو تصريح يكشف عن الحالة الأمنية وفي الوقت نفسه، ذريعة لضريبة يسددها المسافر قبل السفر، ملأت النموذج المخصص لذلك وأرفقت به الصور الشخصية.

حينما سألني الضابط هل سافرت إلى أفغانستان؟

عند ذهابي لاستلام التصريح الذي يستغرق صدوره يومين، قالوا: "لم يتم إنجازه بعد، مُر غداً ربما يكون جاهزاً". مررت غداً وبعد غدٍ، وظللت على هذا الحال دون فائدة. تعاملت مع الأمر في البداية على أنه تقاعس موظفين، أو إهمال في عدم إنجازهم العمل، لكن المسألة طالت ولم أحصل على التصريح، وبالتالي لا يمكنني السفر، وقد مرت الأيام وانتهت الإجازة.

كنت قد تقدمت باستقالة من عملي بالمجلس الأعلى للثقافة، وفي الوقت نفسه الجريدة السعودية التي أعمل بها تنهي التعاقد إذا تغيّب الموظف لمدة أسبوع، وعليه سأكون بلا عمل إذا استمر التأخير أكثر من ذلك.   

سألت الضابط المسؤول، فأخبرني أن استخراج التصريح متوقف من قبل أمن الدولة، فابتسمت وقلت بثقة إن المسألة مجرد تشابه أسماء، فابتسم هو الآخر وقال مؤكد، وهو يشير إليّ بسبابته، إنه أنا، وسألني مستفسراً إن كنت ذهبت من قبل إلى أفغانستان، فضحكت وخفت وتلعثمت وبُعثِرت أفكاري، ومرّت أمام بصري الكثير من الصور المريبة. تماسكت وأخفيت مشاعري وأخبرته أنها المرة الأولى التي أسافر فيها.

سعيت كثيراً من أجل إنهاء هذا الكابوس، وقد انتهت الإجازة وضاعت أيامها في التردّد على وحدة استخراج تصاريح العمل، وتعجبت من هذا الإهمال الذي قد يقضي على مستقبل أسرة ويزرع الشك والتوجّس في النفس. 

دعوة أم استدعاء إلى مباحث أمن الدولة؟

في نهاية الأمر، طالبني ضابط التصاريح أن أتوجّه غداً إلى قسم الشرطة والسؤال عن الرائد فلان بمباحث أمن الدولة، فهو يريد مقابلتي، إذن هي دعوة أو استدعاء بأسلوب راقٍ، وأي رقي هذا وقد لعب برأسي وأفكاري طوال فترة الإجازة، لماذا كل هذا العبث؟ كان من الممكن أن يطلب مقابلتي منذ أن تقدمت بطلب استخراج هذا التصريح اللعين.

ما الذي يدور برأسي الآن؟ هل ابتهج أم يتملكني المزيد من التوجّس، هذه هي المرة الأولى التي يُطلب منّي الحضور إلى مباحث أمن الدولة، ولا أعلم ماذا ينتظرني بعد هذه المقابلة، هل ثمة تشابه أسماء كما كنت أظن، أم أنني مطلوب بالفعل، ولماذا أنا؟ ماذا فعلت؟      أَسكَتّ عشرات الأسئلة داخلي وأوقفت حمَامات التوجّس التي لا تكفّ عن التحليق في رأسي، وقرّرت أن أذهب في الصباح وسوف أرى بنفسي وأسمع، وخفت، حقيقة، أن أتعرّض لما أسمع عنه وأشاهده في الأفلام من معاملة ضباط المباحث وصبيانهم مع المتهمين..صور كثيرة تدور في ذهني وأخْيِلة تمر كشريط النيجاتيف، أرى نفسي فيها في صور تثير الشفقة. 

ساعات الانتظار تمرّ بطيئة

كانت الساعة حوالي الحادية عشرة، دلفت إلى ردهة طويلة، توجهت إلى آخرها، حيث يجلس رجل بملابس مدنية خلف مكتب متوسط الحجم، ذكرت له طلبي، فأخبرني بالجلوس، بعد أن تحدث في التليفون قائلاً: هنا فلان يريد مقابلة الضابط فلان. أعلم أنه يحدثه هو نفسه من وجه الاستدعاء، لكن ربما الاحتياطات الأمنية تتطلب ذلك. 

تخيلت أنني أفتح باب غرفة فأجد بها رجلاً عارياً تعلق من قدميه، ولا يرتدي سوى بوكسر صغير بالكاد يغطي أعضاءه، فيما يحيطه اثنان لهما شكل غريب. تعلو وجه الرجل المعلق آثار الضرب والتعذيب

جلست بين المنتظرين، ومن حين إلى آخر يردّ الرجل على التليفون، ويوجه أحد الجالسين إلى الصعود، مرّ الوقت مملاً، ثقيلاً، دون أن يدعوني للصعود. عندما أصبحت الساعة الثالثة عصراً، قمت إليه أسأله، فربما الضابط مشغول، أو يكون أنهى عمله اليوم فمضى، فقال الموظف: مادام طلب مقابلتك سيقابلك، وأضاف مستنكراً: كيف ينهي عمله لأن الساعة تلاتة... هل هو موظف.

جلست من جديد أفكر في هذا المأزق العجيب ومتى سأخلص منه، أي كابوس هذا، وأي موقف هذا الذي أمرّ به دون أن أقترف شيئاً؟

 وجدت رجلا عارياً يُعلَّق من قدميه

أخيراً نظر إليّ الرجل فقد كنت قريباً منه، طلب أن أصعد إلى الطابق الفلاني والغرفة الفلانية، خفت من أخطائي وتخيلت أنني أفتح باب غرفة فأجد بها رجلاً عارياً تعلق من قدميه، ولا يرتدي سوى بوكسر صغير بالكاد يغطي أعضاءه، فيما يحيطه اثنان لهما شكل غريب. تعلو وجه الرجل المعلق آثار الضرب والتعذيب، كما تبدو على جسده أيضاً علامات من الدم. فتحت الباب فجأة بعد أن طرقت الباب بهدوء وإذ بالضابط يزعق فيّ ويصيح بعنف: "عايز إيه".

طلبت من الرجل بمودة أن يصعد معي ولا يتركني وحدي، وأن يشير فقط إلى الغرفة ولو من بعيد، فأنا أخشى أن أدخل غرفة خطأ، فاستجاب وصعد معي وعاد سريعاً إلى مكانه. طرقت الباب، فخرج الضابط لملاقاتي، سألني عن اسم يشبه اسمي، فقلت لا أعرفه. اتهمني بالكذب وقال: استنى برّه.

جلست على أحد المقاعد الموجودة أمام الغرفة، وطال الانتظار إلى حوالي ساعة، فازداد قلقي وعادت الأسئلة تضغط من جديد، حتى كاد رأسي ينفجر، فهل ثمة تشابه بيني وبين هذا الرجل الذي سألني عنه، هل يظنونني شخصاً آخر قد يكون إرهابياً أو متورطاً في قضية؟ طبطبت على نفسي وقلت يجب ألّا أقلق، فهناك أوراق كثيرة تثبت شخصيتي، ثم أنهم يلعبون معي لعبة الأعصاب. أتفهم ذلك جيداً وعليّ أن أتماسك.

دخلت مرة أخرى فوجدته في حالة مختلفة، ابتسم الضابط ودعاني للجلوس، وجه إلي العديد من الأسئلة، جاوبته عنها بمنتهى الأريحية، وكان يسجل كتابة ما أقول، وحينما انتهى، قلت: لماذا أنا هنا، ولماذا جلست ساعات بلا سبب، ولماذا تأخر التصريح وأكاد أُفصل من عملي، فاعتذر وقال انه إجراء روتيني يجرى مع الجميع.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

لا ليل يطول، ولا خريف

بعد ربيعٍ عربي كان يزهو بفورات الأمل ونشوة الاحتجاج، ها هي نوستالجيا الحريّة تملأ قلوب كلّ واحد/ ةٍ منّا حدّ الاختناق.

نوستالجيا أفرغها الشلّل القسريّ الذي أقعدنا صامتين أمام الفساد العميم والجهل المتفشي. إذ أضحت الساحات أشبه بكرنفالاتٍ شعبية، والحقيقة رفاهيةً نسيناها في رحلتنا المضنية بحثاً عن النجاة.

هنا في رصيف22، نؤمن بالكفاح من أجل حياةٍ أفضل لشعوب منطقتنا العربية. ما زلنا نؤمن بالربيع العربي، وربيع العالم أجمع.

Website by WhiteBeard