هناك كتب مدخلها الإهداء. "مع أبي العلاء في سجنه" أهداه طه حسين "إلى الذين لا يعملون ويؤذي نفوسهم أن يعمل الناس". وكتاب "النظرية وتحديات الناقد الثقافي... مساءلات وممارسات في الخطاب الأدبي والنقدي العربي" أهداه الدكتور محمد الشحات "إلى نقاد جيلي، جيل التسعينيات في الثقافة المصرية... أملاً في إسهام جديد في خطاب النقد العربي". إهداء دالٌّ توقف المؤلف أمامه في صفحة 282. الخطاب المأمول سينتجه تيار لم تتشكل ملامحه تماماً.
والكتاب، الذي نشرته دار "أثر" السعودية عام 2023، عملٌ يغني القراء عن العشرات من المصادر والمراجع. أما الباحثون فعليهم الرجوع إلى المصادر، لعلهم يخرجون منها بتأويل آخر لا يعتمد على اجتهاد لغيرهم.
حدد المؤلف سبعة تحديات على الناقد الثقافي أن يعيها ويتمثلها؛ لاستيعاب النصوص وتأويلها وتفكيك خطاباتها وتحليل الطبقات الثقافية المضمرة والكامنة وراء الخطاب الجمالي. ويناقش الكتاب، الذي يبلغ 371 صفحة، خمسة تحديات بالتفصيل: تحدي المنهجية (النقد الثقافي في الدراسات العربية)، تحدي المرجعية (أزمة (الـ) نظرية في غياب المرجعية الثقافية)، تحدي الهوية (الهويات الضائعة في عالم ما بعد الاستعمار)، تحدي الجندرية (النسق الثقافي وتشكيل النسوية العربية)، تحدي الأجناسية (قصيدة النثر، بحثاً عن شعريات بديلة).
وفي المقدمة يقول إن بقية التحديات السبعة، ومنها تحدي القيمة الجمالية وتحدي التخصصية الدقيقة، تؤكد ضرورة شمولية التكوين المعرفي للناقد الثقافي العربي، ودرايته بالثقافات النخبوية العليا والدنيا والشعبية.
مقدمة كتاب النظرية عنوانها "تحديات الناقد الثقافي وأسئلة المستقبل"، وتبدأ بسؤال: كيف يواجه الناقد الثقافي سرديات "الحرب على الإرهاب"، و"العولمة"، و"مشكلات البيئة"؟ وتناقش آثار الرقابة الذاتية التي تنأى بالباحث عن المناطق الملغومة، اجتماعياً ودينياً وسياسياً
في الفصلين الأول والثاني قام محمد الشحات بالتنظير المتمهل والمساءلة. أما ممارسة النقد الثقافي، عبر القراءة الحرة متعددة المرجعيات، فاتسعت لها الفصول الثلاثة الأخيرة (الهوية، النسوية، قصيدة النثر). أخذ المؤلف نفسه بالشدة، وامتد العمل سبع سنوات، حتى إن كتابه "خارج المنهج... مقاربات ثقافية للأدب والنقد"، الذي أصدرته الدار المصرية اللبنانية في القاهرة عام 2022، كتب على هامش هذا الكتاب، "متقاطعاً معه في كثير من منطلقاته، لكنه كان أسبق إلى سوق النشر". الكتاب النامي كشعب شيطاني اتخذ عنواناً متمرداً، "خارج المنهج"، وتخفف كثيراً من هوامش وإحالات أثقلت كتاب "النظرية"، وتطلّب إيضاحاً ينفي التعالي على النظرية، ويؤكد أنه لم يقع في غوايتها.
مقدمة كتاب النظرية عنوانها "تحديات الناقد الثقافي وأسئلة المستقبل"، وتبدأ بسؤال: كيف يواجه الناقد الثقافي سرديات "الحرب على الإرهاب"، و"العولمة"، و"مشكلات البيئة"؟ وتناقش آثار الرقابة الذاتية التي تنأى بالباحث عن المناطق الملغومة، اجتماعياً ودينياً وسياسياً. ومن الآثار الخطرة وجود "ناقد تكنوقراط" يفضّل الدروب الآمنة.
أدى الأمان إلى "تكريس انفصال النقد عن الحياة والقضايا الكبرى وجمهور القراء". وتحتشد المقدمة، والكتاب كله، باستشهادات من مؤلفات الناقد المصري جابر عصفور، وهذا حق المؤلف في الانحياز. لكن التحديات/الأسئلة لا تقتصر على الثلاثة المذكورة. قبلها وبعدها، وأهم منها، سؤال الاستبداد. وأخشى أن يكون إغفاله اختياراً للسير في الدروب الآمنة. وكلما تغيرت سلطة استبدل تحدٍ/سؤال بآخر.
ما أكثر الراقصين على جثة حسني مبارك في اليوم الثاني لخلعه. وقبل يومين اثنين من تلك النهاية البائسة كانوا يشيدون به، ويراهنون على بقائه.
وفي افتتاح ملتقى القاهرة السابع الإبداع الروائي العربي، آذار/مارس 2019، اقترح وزير الثقافة السابق جابر عصفور أن يكون "الرواية والإرهاب" عنواناً للدورة القادمة. ولعل الدورة الثامنة ـ المؤجلة من تشرين الثاني/نوفمبر 2022 ـ تكون أكثر ثراء وفائدة إذا حملت عنوان "الرواية والاستبداد". الاستبداد متنوع، ومتدرج، ويبدأ بالاستبداد الأسري والوظيفي والديني، وينتهي بالأكاديمي والسياسي. ويمتاز الناقد الثقافي بالرؤية الكلية لأنساق عامة أنتجت النصوص الأدبية. العقل النقدي هنا يسائل النص وطبقاته الخفية. يقول دريدا: "ليس ثمة شيء خارج النص".
ويقدم محمد الشحات افتراضين: "كل نص أدبي هو نص ثقافي شئنا أم أبينا"، "كل نقد أدبي هو نقد ثقافي أيضاً بمعنى من المعاني". ليس محقاً تماماً في الثاني؛ فلدينا ركام من ثرثرات نقدية تفتقد البصيرة، ولا تملك حدا أدنى من الوعي الثقافي، وتكتفي بإعادة حكي القصص. لكنه محق في الافتراض الأول، ويذهب فيه إلى التفرقة بين نصوص جمالية "شكلية، نخبوية غالباً، تدغدغ مشاعرنا وذائقتنا الجمعية بأساليبها وحيلها البلاغية واللغوية... لكن الحضور "الثقافي" فيها "شحيح". أما النصوص الثقافية فهي "واعية بمقصديتها وظرفيتها الثقافية والسياسية والاجتماعية... واعية بتاريخيتها وزمكانيتها، متمردة على الاكتفاء بجمالياتها المحايثة، مشتبكة مع خطابات موازية اشتباكاً صريحاً أو مضمراً".
أتساءل أحياناً عن مسميات الظواهر قبل الحضور الطاغي للمصطلح. على سبيل المثال: السادية، العنصرة، التنمر. تأخُّر صوغ المصطلح لا يعني انتفاء الممارسة. وللممارسة النقدية لطه حسين وحسين مروة ويحيى حقي ومحمد مندور وفاروق عبد القادر، حتى زكي نجيب محمود وعبد الوهاب المسيري، أنصبة متفاوتة من نقد ثقاقي درس النصوص في ضوء سياقات إنتاجها. لسلامة موسى مقال في مجلة "الكاتب المصري"، أيار/مايو 1948، عنوانه "السيمائية... المنطق اللغوي الجديد"، يتناول فيه ظهور "علم جديد في أوربا يسمى السيمائية أي علم العلامات". حظ هؤلاء أنهم اجتهدوا قبل الاهتداء "العربي" إلى مصطلح النقد الثقافي الذي يرى محمد الشحات أنه، عربياً، "لا يزال قيد التشكل".
لعل الذي "لا يزال قيد التشكل" هو التنظير للنقد الثقافي، لا ممارسته. والشحات حصر جهود التنظير، وساءل أصحابها. ولم يدخر طاقة لدراسة الممارسات. ولعل الدكتور شكري عياد الأكثر إسهاماً، ممارسة وتنظيراً. وفي كتابه "على هامش النقد" سجل أنه حاول وضع "خلاصة دراساتي وتجاربي في النقد وحوله في مشروع نظري واحد مترابط الأجزاء، يتناول طبيعة العمل الأبي، وطبيعة العملية النقدية، وخصائص لغة الأدب، وعلاقة الأدب بالإبداع الحضاري"، وسخر عياد ممن يحملون النقد العربي القديم إلى المركز الغربي، ليجلس "طالبا حيياً متوارياً في زحمة النقد الحديث، لا يتكلم إلا حين يبتسم الأستاذ مشجعاً، فيعلق تعليقه الصغير المؤدب، ثم يعود إلى الاستماع والنقل".
الاستبداد متنوع، ومتدرج، ويبدأ بالاستبداد الأسري والوظيفي والديني، وينتهي بالأكاديمي والسياسي. ويمتاز الناقد الثقافي بالرؤية الكلية لأنساق عامة أنتجت النصوص الأدبية.
قلت إن هذا كتاب مرجعي، أثقلته ترسانة الهوامش والإحالات. هل يتسلح الناقد الغربي بهذه الذخيرة؟ لإدوارد سعيد ونقاد ما بعد الكولونيالية استدلالات في حدود المصادر، والقليل من المراجع. وفي مسألة المرجعية ينتصر محمد الشحات للخروج من سجن النظرية، لكي يتحرر الناقد الثقافي "من أية مقولات ثابتة... غياب الوعي المنهجي بسياقات النظرية ومرجعياتها الثقافية (الغربية) قد أحدث تشوها غير قليل في الممارسات العربية". والأخطر من تشوهات النظرية، في الممارسة العربية، هو جناية النقد الثقافي على جماليات الأدب. أستدل بروايات عربية من المغرب إلى العراق والخليج مروراً بمصر، اختارها المؤلف لتمثيلات الهوية. إحداها تعد "تمثيلاً ثقافياً لوضعية الفوضى والعبثية التي تعيشها بغداد".
الرواية الثانية تسقط "في مزلق فني وبنيوي تمثل في عدم قدرة الراوي على ضبط إيقاع الرواية، فكان ينشغل أحياناً بالحكي والثرثرة، ويترك شخصياته في زوايا الصمت". والرواية الثالثة لا تؤسس "سردية روائية ذات تأثير جمالي أو حبكة متماسكة، بل هي أقرب إلى روح الكتابة التاريخية الوثائقية"، ولغة المؤلف "لم تترك لأية شخصية من شخصياته متنفسا أو مساحة كافية للبوح... راوٍ مستبد، لا يؤمن بالحوارية أو التعددية... صورة مستسخة من مؤلفها". والعمل الرابع يتجلى فيه "الضعف البنائي في اشتغال الرواية على محور الزمن، وهو اشتغال متواضع"، وأغلب شخصيات الرواية "شخصيات نمطية، تقليدية". وفي النموذج الروائي الخامس "بطء ملموس في الإيقاع السردي".
يقدم محمد الشحات افتراضين: "كل نص أدبي هو نص ثقافي شئنا أم أبينا"، "كل نقد أدبي هو نقد ثقافي أيضاً بمعنى من المعاني". ليس محقاً تماماً في الثاني؛ فلدينا ركام من ثرثرات نقدية تفتقد البصيرة، ولا تملك حدا أدنى من الوعي الثقافي، وتكتفي بإعادة حكي القصص. لكنه محق في الافتراض الأول
والنموذج السادس يحاكي رواية تيار الوعي "محاكاة جانبها التوفيق". فلماذا يلجأ الناقد إلى أعمال متوسطة أو محدودة القيمة الجمالية؟ يجادل بأن معيار الاختيار، من منظور النقد الثقافي لا يلتفت إلى "المظاهر البنيوية أو الأسلوبية أو الجمالية إلا من أجل تأويلها". وينسحب هذا المعيار على تحدي الجندرية؛ فترد أسماء كل من: اعتدال عثمان وسلوى بكر ونوال السعداوي، في جملة مفيدة، مع كاتبات لا علاقة لهن بفن الرواية، انطلاقاً من التبني "الحقيقي للنسوية بوصفها رؤية للعالم لا تفرق بين نص الكتابة ونص الحياة". وهنا أصل إلى تحدي الأجناسية الذي يفكك الخصائص السوسيوثقافية لقصيدة النثر، في فصل أخير ينطوي على شيء من التعميم.
دليل التعميم هو تكرار أسماء محددة، في المشهد الشعري العربي عامة والمصري خاصة، أربع مرات يُنسى فيها محمد عيد إبراهيم، الوحيد في جيله الذي كتب قصيدة النثر، من دون المرور بقصيدة التفعيلة، وإن ورد اسمه في الهوامش، مترجماً لكتاب "مقدمة لقصيدة النثر... نماذج وأنماط". والطبيعة البانورامية للدراسة تفترض أن المؤلف لم يتعمد حصراً للأسماء، لكن بعض التجارب يستحق أصحابها ذكر أسمائهم. أكتفي بكل من: قاسم حداد، محمد صالح، نوري الجراح، شاكر لعيبي، زكريا محمد، غسان زقطان. كما أن المغرب العربي غير ممثل. ويمكنني أن أضيف، في المشهد التالي في مصر، كلاً من: إبراهيم داود، علاء خالد، علي منصور، محمود قرني.
محمود قرني أكثر أبناء جيله تنظيراً لقصيدة النثر، واحتفاء بأجيال من شعرائها، في كتب منها "لماذا يخذل الشعر محبيه؟!"، و”بين فرائض الشعر ونوافل السياسة... الشعر العربي بين ثلاثة أجيال". ولعل هذا الفصل الأخير، من كتاب يباهي به مؤلفه محمد الشحات، ينمو ويصير كتاباً مستقلاً يتسع لأسئلة قلقة تثيرها قصيدة النثر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 15 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.