شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
كباري المشاة لا توصلني إلى مكان

كباري المشاة لا توصلني إلى مكان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والتنوّع

السبت 23 سبتمبر 202301:04 م




أكره صعود كباري المشاة، مفضلاً عبور الشارع غير عابئ بالسيارات التي قد "تلوشني" بإصابة دائمة. ينصحني من معي دائماً بالتحلي بالصبر والتأني. يترجوني أن أتلفت يميناً ويساراً قبل العبور، وإن كنت لا أرغب في ذلك فعلي صعود الكوبري. لكنني أرفض أي قيد باستمرار. لا ألقي بالاً بالآتي، سواء أردته أم لا.

دفعني ما جرى منذ أيام معدودة نحو الخنوع ولو لمدة بسيطة. كاد موتوسيكل أن يدهسني الأسبوع الماضي، فاندفع الدم إلى عروق رأسي حتى كاد ينفجر. استمرت ضربات قلبي في الخفقان بقوة سمعتها في أذني حتى نهاية اليوم تقريباً. لكنني لم أتعظ، وعبرت شارع أبو قير في اليوم التالي، غير عابئ بكوبري سيدي جابر، ذي السلالم الكهربائية التي لا أذكر رؤيتي لها وهي تعمل، فكاد ميكروباص أن يساويني بالرصيف. نجوت بكدمة في ذراعي الأيسر، إثر اصطدامه بالمرآة الجانبية وصرخت شاتماً إياه، لكنه لم يتوقف ليرى من سبه بأمه.

لم أنم في تلك الليلة حين عدت إلى المنزل بسبب توتري. قلّبت رأسي على الوسادة عدة مرات سامعاً رنين الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، متمنياً بوادر غفوة لتنتشلني من انتظار النوم. فكرت بأنني أتعجّل كل شيء في حياتي، حتى النوم!

 مر ببالي جدال عقيم مع أحد الأصدقاء من القاهرة بدأ بالمناقشة حول جدوى كباري المشاة في الإسكندرية. فأنا متفهم وجودها في شوارع القاهرة لضخامتها، بينما في الإسكندرية، وجودها مثل عدمه، على الأقل في الشوارع الرئيسية. أصر كل منا في نهاية تلك المناقشة على رأيه مثلما بدأنا الحوار، وأنهى صديقي النقاش بجملة بدت عابرة لحظتها: "أنت مش عايز تستنى أبداً".

سرحت في جملته وتأملت معناها الجلي في حياتي خلال الستة وعشرين خريفاً الماضيين. كنت أكره الانتظار منذ كنت طفلاً "مبيقعدش على بعضه" حتى ميعاد الفسحة في المدرسة، وصولاً إلى التشتت المستمر خلال المذاكرة في الجامعة بالموبايل، وانشغال مخي بالعصافير العشرة على الشجرة، نهاية بعملي الذي لا أطيق مجىء ميعاد الانصراف منه لركوب الأتوبيس نحو الحرية!

أكره الانتظار لأنه يضعني في مواجهة مع ذاتي. يخبرني أحد الأصدقاء أنني لست صبوراً، لكنني متيقن في أعماقي أن هذا ليس السبب الحقيقي، فحين أمكث وحدي، تجلدني أفكاري. يعيد عقلي الباطن مشاهد من مخزون المراهقة التي حاولت الانتحار خلالها عدة مرات... مجاز

 أشغل رأسي بمئات الأفكار، وأضع في أحيان كثيرة عدة مقابلات متلاصقة مواعيدها في يوم واحد، إن لم يكن في الساعة نفسها. طالما برّرت هذا التصرف بأنه لغرض تعزيز احساسي بأهميتي في حياة الآخرين، لكن حين أعود لمنزلي في نهاية اليوم المكتظ بالمواعيد، أجدني مستنزفاً وأكثر وحدة قبل بدايته.

أكره الانتظار لأنه يضعني في مواجهة مع ذاتي. يخبرني أحد الأصدقاء أنني لست صبوراً، لكنني متيقن في أعماقي أن هذا ليس السبب الحقيقي، فحين أمكث وحدي، تجلدني أفكاري. يعيد عقلي الباطن مشاهد من مخزون المراهقة التي حاولت الانتحار خلالها عدة مرات.

أتأمل آثار الخطوط المتبقية التي صنعتها في رسغي.حاولت إنهاء مأساة وجودي خلال مراهقتي لمللي من الانتظار حتى أكبر وأستقل. أتذكر إحدى "العلق" التي تركت آثارها على وجهي لبضعة أيام بعدها، وأسخر من الكلمات التي ردّدتها في نهاية تلك المشاجرة: "هكبر وأسيب البيت"، لأنني مازلت في المنزل.

يعيد الانتظار في رأسي للمرة المليون لقطة دخولي غرفة جدتي المتوفاة ورؤيتي لها مستلقية على فراشها. أنّبت نفسي مراراً خلال مرضها على عجزي عن تقديم أي مساعدة لتخفيف آلامها، سوى نومي جوارها.حين أسرح في تلك اللحظات، لا أشعر سوى ببرودة شفتي إثر قبلتي الأخيرة لها على جبينها، وأتذكر ليلة قمت من جوارها لأنني مللت من تقلبها في الفراش وهي تنتظر النوم.

أفكر كثيراً أنني لم أعد أحضر القداديس لمللي من طولها. لم أندمج يوماً في الصلوات بالعربية، فما بالك القبطية التي لا أفهمها. أخرج من الكنيسة بعد إتمام الطقس مباشرة، قبل أن يصرفنا الكاهن. تلومني أمي كثيراً إثر هذا التصرف. أخبرتني ذات مرة أن حضوري القداس وانصرافي قبل الصلاة الأخيرة يجعلني مثل يهوذا في العشاء الأخير، فأرد بتلقائية: "أنا مش خاين... أنا بس زهقت".

 أبرّر لنفسي بـ "الزهق" إنهائي للعديد من العلاقات التي كانت تحمل صفة الجدية أو حتى العابرة. أتساءل دائماً عن جدوى تحمل المعاناة من أجل لحظات قصيرة من السعادة التي لن تدوم أبداً، فالعلاقات هي اعتراف بوحدة الإنسان.

أفكر بعدم إنسانية في عملي المرتبط بشفاء أطفال السرطان، وأسأل الله قبل نومي عن سبب تعذيبه لهؤلاء الأطفال الميؤوس منهم، فأنا وهو نعلم نهاية مسارهم. أجادله حول تلك الفترات اللانهائية من الانتظار، وعن الحقيقة وراء تلك الحياة التي يجري كل ما فيها بروتينية قاتلة لكل لحظة مثيرة، لكنه لا يجيبني أبداً. حتى الله "زهقان".

سألت الأصدقاء عما يفعلونه خلال انتظارهم، فأرسل لي أحدهم ذات مرة فيديو به صلوات عن "انتظار الرب"، وآخر تفّه من سؤالي لأنه يجهز نفسه للزواج. ضحك ثالث، ورابع عرض عليّ الكحول وملحقاته. جربت كل مسكنات الانتظار، لكن بلا جدوى.

أتطلع إلى الحياة الأفضل، الهروب إلى مدينة ذات أمواج صاخبة، وكسر الروتين. لكن لا يحدث شيء، يمر ببالي كلمات أغنية فريق  The villagersحين يغنون: "أنتظر شيئاً".

أصعد في القاهرة على كباري المشاة، فألاحظ العالم المختبئ بها. أسير بين الثقوب والشمامين ورائحة البول تخترق أنفي. أتخيل نفسي لوهلة في الإسكندرية واقفاً على كوبري مشاة مهجور، فاتحاً ذراعي، فيلتقط لي صديق ما صورة وأنا مبتسم... مجاز

انتظار اللاشيء هو الحل. تنتابني نوبات القلق كثيراً حين أدرك مرور الوقت وأنا مازلت في نفس المستشفى الكئيبة، بنفس الوظيفة والراتب والحياة. أشعر بانسياب الزمن من بين أصابعي، فأبكيه بدلاً من اللبن المسكوب قبل نومي.

أمد مؤخراً وقتي المخصّص للتمشية. أسافر القاهرة لأصدقائي في نهاية كل أسبوع. لا أقابلهم في أغلب الوقت، لكنني أنطلق في شوارعها، باحثاً عن لقطة أضيفها في رواية أو قصة. أراقب الوجوه في المترو، وأتمشى في شوارع وسط البلد ببطء. أسير حتى تنهك قدمي، وأنظر في هاتفي فأجدني جاوزت عشرين ألف خطوة. أعود لأنام بدون تفكير.

أصعد في القاهرة على كباري المشاة، فألاحظ العالم المختبئ بها. أسير بين الثقوب والشمامين ورائحة البول تخترق أنفي. أتخيل نفسي لوهلة في الإسكندرية واقفاً على كوبري مشاة مهجور، فاتحاً ذراعي، فيلتقط لي صديق ما صورة وأنا مبتسم. أفكر في أحيان كثيرة بالوقوف في منتصف كباري القاهرة وتأمل حركة السيارات والناس، لكن التدافع يمنعني من تحقيق ذلك.

 فأدرك أنني قضيت حياتي كلها في تدافع مستمر ممن حولي ومن أفكاري. لست خائفاً من أن تتم سرقتي في منتصف الكوبري، من خلال أحد الموجودين حين أصعد ليلاً، لكنني مرعوب من التقاط أنفاسي لوهلة! فأعدو لنهاية الكوبري هارباً من مواجهة ذاتي. أدركت أخيراً لماذا أكره تلك الكباري!

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard