بتدوينات حزينة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، تعبّر لواحظ سمعلي، 27 سنة، بصفة دورية عن اشتياقها لوالدتها عِلمة التي توفيت قبل سنتين بعد صراع طويل مع مرض التليّف الكبدي الذي سبّبه الضغط النفسي الناجم عن تعرّضها المستمر للعنف الزوجي.
منذ صغرها، كانت الشّابة شاهدة على تنقل والدتها بين المراكز الأمنية لتشتكي تعرّضها للعنف، فعاينت البيروقراطية الإدارية وبطء الإجراءات وغياب مقرّات إيواء ضحايا العنف من النساء، وساعات الانتظار الطويلة التي تدفع بالضحايا، على غرار والدتها، للملل أحيانا والتسليم في حقهنّ.
تجربة ذاتية تلد التضامن
غالباً ما تنعكس ظاهرة العنف المنزلي سلبًا على الأطفال الذين يعايشون تعرّض أحد والديهم للعنف اللّفظي أو المادي. وتؤثر هذه الظاهرة بشكل كبير على شخصياتهم وعلاقتهم بالمجتمع، إلّا أن هذه "القاعدة " لم تنطبق على لواحظ التي جعلت من حادثة تعرض والدتها للعنف قبل وفاتها نقطة قوّة ودافعاً لدعم النساء المعنّفات ومساندتهنّ، وذلك بتأسيس مركز لإيواء النساء ضحايا العنف.
تقول لواحظ لرصيف 22 "توجهتُ في إحدى المرّات مع أمي إلى المركز لتشتكي من تعرضها للعنف؟ كانت قضية أمي تحت رقم التسجيل 9 ألاف. انتظرنا طويلاً ولم يهتم أحدٌ بنا، فاضطررنا للعودة إلى البيت الذي تعنَّفتْ فيه. أيقنتُ حينها تفاقم هذه الظاهرة الخطيرة، دون احتساب الحالات المسكوت عنها".
إحدى غرفة مركز إيواء النساء المعنفات "علمة للأمان"
منذ صغرها، كانت الشّابة شاهدة على تنقل والدتها بين المراكز الأمنية لتشتكي تعرّضها للعنف، فعاينت البيروقراطية الإدارية وبطء الإجراءات وغياب مقرّات إيواء ضحايا العنف من النساء
ساهمت وضعية والدة لواحظ في تحويل مساعدة النساء ضحايا العنف إلى تحدٍّ بالنسبة للأخيرة، فأسست في سنة 2017 جمعية إنصات للنساء ضحايا العنف في محافظة القصرين (وسط غرب)، في خطوة أولى نحو محاولة التغيير والعمل على الحد من هذه الظاهرة، فأنشأت العديد من الانشطة الموجهة إلى النساء وقدّمت التوجيه و الإرشاد والخدمات المجانية لكل النساء اللائي استنجدن بها ممن تعرضن للعنف. فوفرت لهن الحد الأدنى من الإحاطة وهو ما لم تحظ به هي و والدتها منذ سنوات، وحمتهنّ وأطفالهن من أي انعكاسات نفسية ومعنوية.
لواحظ سمعلي، مؤسِّسة مركز "علمة للأمان" لإيواء النساء ضحايا العنف
تضيف لواحظ " كبرتُ في محيط مليء بالعنف، رأيتُ والدتي تُعنَّفُ أمامي، حُرمْتُ من أبسط الأشياء في طفولتي وكان ذلك شكلاً من أشكال العنف المعنوي الذي شعرت به وترك أثراً كبيراً في نفسي، لكنه خَلقَ في داخلي قضيّة لا أتوانى في الدفاع عنها، وحوَّل الآثار السلبية التي بقيت في داخلي إلى نقطة قوة. سأغيرُ الأشياء السيّئة التي عايشتُها وكبرتُ عليها".
مركز "عِلمة" لإيواء الضحايا
لم يقف طموح لواحظ عند تأسيس الجمعية، بل أسست مركزاً لإيواء النساء ضحايا العنف، وحمَل المركز اسم والدتها "عِلْمة ". فكان مركز "علمة للأمان" الذي افتتح رسمياً يوم 3 كانون الثاني/يناير 2023 بالشراكة مع وزارة المرأة والأسرة والطفولة وكبار السن.
استقبل مركز "عِلمة للأمان " منذ افتتاحه إلى غاية شهر نيسان/أبريل الماضي 12 حالة تضم 9 نساء، و3 أطفال، منهم تونسيات الجنسية وأخريات حاملات للجنسيات الإفريقية من جنوب الصحراء.
يقدّم المركز الإعاشة المجانية والمعالجة الطبية ويوفّر أخصائية نفسية وأخصائية اجتماعية، كما يوفر المرافقة القانونية بالشراكة مع محامية، إضافة إلى توفير المرافقة إلى الهياكل العمومية على غرار المحكمة والفرق المختصة بمكافحة العنف ضد المرأة والطفل، إذا تطلبت وضعية الضحية ذلك.
كانت قضية أمي تحت رقم التسجيل 9 ألاف. انتظرنا طويلاً في مخفر الشرطة ولم يهتم أحدٌ بنا، فاضطررنا للعودة إلى البيت الذي تعنَّفتْ فيه. أيقنتُ حينها تفاقم هذه الظاهرة
تسعى لواحظ بصفة مستمرة إلى العمل على تطبيق القانون الأساسي عدد 58 المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة والذي يمكّن من جهة أخرى من العمل التشاركي بين مؤسسات الدولة والمجتمع المدني للتصدي لظاهرة العنف ضد النساء.
يهدف القانون الأساسي عدد 58 لسنة 2017 المتعلّق بالقضاء على العنف ضد المرأة إلى "وضع التدابير الكفيلة للقضاء على العنف ضد المرأة القائم على أساس التمييز بين الجنسين من أجل تحقيق المساواة واحترام الكرامة الإنسانية، وذلك باتباع مقاربة شاملة تقوم على التصدي لمختلف أشكاله بالوقاية وتتبع مرتكبيه ومعاقبتهم وحماية الضحايا والتعهد بهم".
أرقام صادمة للعنف ضد النساء
رغم المجهودات التي تقوم بها لواحظ في تكريس حقوق المرأة والعمل على مساعدة النساء المعنّفات داخل المركز، وتعاون السلطات الجهوية بالإمكانيات البشرية واللوجستية الموجودة، إلا أن المركزية والبيروقراطية الإدارية يشكّلان عائقاً أمام تحقيق أهداف المركز بالسرعة والوقت المحدَّديْن. فلا ينتفع المركز بتمويلات ضخمة بل يعتمد على دعم وزارة المرأة والطفولة وكبار السن، كما تحصل على تمويلات من عدد من المنظمات الدّولية.
بلغ عدد القضايا المسجّلة في مجال العنف ضد المرأة والطفل خلال السداسي الأول لسنة 2023 نحو 26 ألف و 956 قضية وقد شهدت ارتفاعاً بنسبة 4.33 في المئة مقارنة بنفس الفترة لسنة 2022 إذ سجلت 25 ألف و 838 قضية عنف، و بلغت 20 ألف و381 قضية عنف ضد المرأة و6 آلاف و575 ضد الطفل، حسب إحصائيات نشرتها الإدارة العامة للأمن الوطني على صفحتها الرّسمية على فيسبوك.
استقبل مركز "عِلمة للأمان " منذ افتتاحه إلى غاية شهر نيسان/أبريل الماضي 12 حالة تضم 9 نساء، و3 أطفال
أشار البلاغ إلى أن أنواع الاعتداءات تتوزع على 59 في المئة اعتداءً مادياً و29 في المئة اعتداء معنوياً و6 في المئة اعتداءً اقتصادياً و5 في المئة اعتداءً جنسياً و1في المئة اعتداءً رقميًا.
وذكرت أن الإجراءات المتخذة في قضايا العنف ضد المرأة تتوزع على 23 إيواء بمؤسسة اجتماعية، 29 إيواء بمؤسسة استشفائية، 130 حالة إبعاد للمظنون فيه، 1359 تنفيذ قرار قضائي.
كما أشار التقرير الوطني حول مقاومة العنف ضد المرأة في تونس بعنوان سنة 2021، إلى أن عدد المكالمات الواردة على الرّقم الأخضر المخصص من وزارة المرأة والأسرة والطفولة وكبار السّن، تجاوز 7 ألاف و 500 مكالمة، وتخص 20 في المئة منها إشعارات حول العنف المسلّط على النساء، ورغم انخفاض عدد المكالمات الواردة مقارنة بسنة 2020، إلا أن الإشعارات بقيت مرتفعة مقارنة بسنتي 2018 و 2019.
وجاء في نفس التّقرير أن أكثر أشكال العنف ارتفاعاً هو العنف المعنوي بنسبة تقدر بـ 84 في المئة ويليها العنف المادّي بنسبة تقدر بـ 72 في المئة ويبقى العنف الاقتصادي في المرتبة الثالثة بنسبة تراوح 42 في المئة من بين الإشعارات الواردة.
أما الفئة العمرية الأكثر عرضة للعنف فهي الفئة بين 30 و40 سنة بنسبة 40 في المئة، وتليها الفئة من 41 إلى 50 سنة بنسبة 25 في المئة.
واعتبر التقرير أن هاتين الفئتين هما "العمر تحت الضغط"، مشيراً إلى أن 74 في المئة من الحالات يكون فيها الزّوج هو القائم بالعنف.
السرّ في الأزمة الاقتصادية؟
إلى جانب الأسباب الثقافية، يعتبر الواقع الاقتصادي والمعيشي الصعب في تونس من أهم أسباب تفاقم ظاهرة العنف ضد المرأة خاصة وأن المرأة تبقى في تبعية ماديّة للرجل من جهة وتتحمّل مسؤوليات المنزل من جهة أخرى وسط الغلاء وارتفاع الأسعار وفقدان المواد الأساسية من الأسواق وارتفاع نسب البطالة، وفق ما أفاد به لـرصيف 22، الباحث في علم الاجتماع الدكتور الهادي العلوي.
ويضيف العلوي أن تطوّر القوانين وانتشار المعلومة عبر وسائل التواصل الاجتماعي من أهم أسباب ارتفاع مؤشرات ظاهرة العنف التي كان مسكوتاً عنها، وبتوفر سبل الحماية للمرأة وتأمينها ومرافقتها أصبحت النساء أكثر جرأة في الإبلاغ عن هذه الحوادث متجاوزة بذلك الأعراف الاجتماعية التي كانت تعيب على المرأة ما تعتبره "تمرّدًا على سيادة الرّجل".
بلغ عدد القضايا المسجّلة في مجال العنف ضد المرأة والطفل خلال السداسي الأول لسنة 2023 نحو 26 ألف و 956 قضية
وأشار إلى أن أكثر النساء تعرّضاً للعنف هن المنتميات إلى "الفئات الهشّة اجتماعياً" كالمطلّقات، العازبات وحاملات الإعاقة، فيما تُجسّد النساء العاملات في القطاع الفلاحي في تونس المثال الأبرز على العنف الاقتصادي إذ تكون عملية الإشراف للرجل والأعمال اليدوية للمرأة بينما يكون الأجر الأعلى للرجل والأدنى للمرأة، داعياً إلى ضرورة تأطير النساء وتثقيفهنّ وتعريفهن بحقوقهنّ وإطْلاعهنّ على القوانين حتى يدافعن على أنفسهن، ويعرفن سبل الحماية من شتى أنواع العنف التي يمكن أن يتعرضن له، وفق قوله.
ولهذا السّبب تظل المبادرات النسائية، في مختلف أرجاء تونس ومنها مبادرة لواحظ سمعلي ضرورية للحفاظ على حياة النساء، وسلامتهن النفسية، خصوصاً أنهن الأكثر هشاشة في المجتمع الذي يعاني الأمرّين في السنوات الأخيرة بسبب المشاكل الاقتصادية، وتقول الشابة، إن حلمها ألّا ترى نساء يعانين مثل والدتها التي ماتت كمداً، وعانت في حياتها بسبب العنف المسكوت عنه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...