عندما نقرأ رسائل الفنّانين، بحثاً عن جوانب من شخصياتهم، واكتشافاً لمظاهر من زمن عاشوه، واستمتاعاً بلغة كتبوا بها، نأسف على حالنا في زمننا هذا، زمن الوسائط الإلكترونية للتواصل؛ ونتساءل بحرقة: من سينقذ تاريخنا، وأيامنا بهواجسها ورغباتها وأفراحها الصغيرة وآلامها؟ لعلّها تكشف شيئاً من سمات عصرنا، وليس ممّا يخصّنا فحسب.
أقرأ رسائل جبران المجموعة بجهد جبّار من قبل محبّيه، لا لأستمتع بأدبيّة الكتابة، أو أستعيد روحاً جبرانيّة امتازت بألفاظ علويّة أثيرة لديه، أو كي أنزع غلالة عن بعض أيامه؛ إنما لكلّ ذلك مجتمعاً مضافاً إليه الوعي بأهميّة التدوين خدمةً لأجيال ستكون في موقعنا ذات يوم، فتحتاج ما نحتاجه، وتبحث مثلنا عمّا نبحث عنه، حين نغدو أثراً. فرأفة بأيامنا كي لا تكون محواً، وبنا كي لا نصير نسياً!
نساء في حياة جبران
كثيرات هنّ النساء في حياة جبران. رافقنه، أحببنه، ساهمن في إبراز مواهبه، وفي تجلية نفسه وعواطفه. وكثيرة هي رسائله، ليس لأنه يؤمن بالكلمة المكتوبة بوصفها خير تعبير عمّا يجيش في دخيلته من مشاعر وأفكار، بل لأنّ الوحدة كانت أقرب إلى نفسه، ومحبّبة لديه. فيجد في التراسل عزاء واستغناء عن اللقاء المباشر. أشهر رسائله ما كان بينه وبين الأديبة مي زيادة، ومع راعيته الأميركية ماري هاسكل، بما كشفت من مودّة وحبّ وامتنان. فضلاً عن الحبيبة المجهولة عازفة البيانو جرترود باري، وقد جمعت رسائله لها في كتاب "مجهولة جبران" لسليم مجاعص.
كانت حاضرة ببهاء جسدها وانطلاقة نفسها في محتَرَفه، ليترك لنا لوحات استلهمها من لطف تلك الفتاة التي كان يخاطبها بديباجة "أميرتي العزيزة" في جلّ رسائله إليها، ومختتمها بعبارة "عمّك المخلص" خليل جبران
وتتردّد أسماء أخريات في حياته، من ضمنها اسم الشاعرة جوزفين بريستون بيبودي، صاحبة كتاب بعنوان "النبي" له أسبقية النشر على "النبي" لجبران. وقيل إنّ جبران استوحى رسم وجه المصطفى في "النبي" من ملامح وجه صديقته المهاجرة ماري قهوجي، بحيث نشر الشاعر خليل حاوي رسالة يتيمة عثر عليها من جبران إليها (بتاريخ 1929).
ومن الأسماء أيضاً من تدّعي أنّها حبيبة جبران الوحيدة، وهي ماري الخوري عزيز التي جعلت من بيتها منتدى تستقبل فيه "عمّال" الرابطة القلميّة في نيويورك (مؤسسها جبران عام 1920) تتثقّف بحضورهم. غير أنّنا قلّما نعير اهتماماً لمن كانت حاضرة ببهاء جسدها وانطلاقة نفسها في محتَرَفه، ليترك لنا لوحات استلهمها من لطف تلك الفتاة التي كان يخاطبها بديباجة "أميرتي العزيزة" في جلّ رسائله إليها، ومختتمها بعبارة "عمّك المخلص" خليل جبران.
مارييتا جياكوبي لوسن فتاة بمنزلة ابنة لم ينجبها؛ فقد اختبر معها مشاعر الأبوّة، وفق ما نستلهم من رسائله الثمانية عشرة المجموعة في كتاب "رسائل جبران التائهة" لرياض حنين. ومن رسالته الوحيدة الموثّقة إلى والدتها حيث يقول فيها: "أودّ بالحري أن تكون لي ابنة دون أي شيء آخر في العالم، وأن أتألّم بعذوبة بقية حياتي".
ولا نعثر على ذكر لها في كتاب "رسائل جبران" الذي قدّمه جميل جبر. وقبل هذه "الموديل"، علينا أن نُجلّ كاملة، والدة جبران كما أجلّها؛ وقد عملت بائعة متجوّلة في دروب أميركا كي تعيله مع إخوته. وأخته مريانا التي تابعت مسيرة أمّهما فاستطاعت من "شغل الإبرة" أن تنقذ جبران من تعثراته المالية، وتسهم في تعلّمه، وأن تحقّق أمنيته بشراء دير مار سركيس في بشرّي، شمال لبنان، ليحتضن جثمانه ومقتنياته وجزءاً ممّا أبدعه.
مارييتا بين محترف جبران ورسائله
يصف جميل جبر محترف جبران في نيويورك كما يأتي: هنالك في طابق علوي من بناية قديمة تخالها أحد أديرة لبنان التاريخية، في جو "صومعة" فسيحة هادئة، كل أثاثها كرسيّان و"كنبة" وموقد حديدي، ومنصب للتصوير، وسرير واطئ، وثلاث طاولات عامرة بالكتب والأوراق، كان يعيش جبران في عزلة كادت تكون مطلقة لولا زيارة أصدقاء قلائل بين الحين والحين، ولولا مسامرة من أعجبن بفنّه وشعره من حِسان أميركة. قد يذكّرنا هذا الوصف بغرفة الرسّام الهولندي فنسنت فان غوخ في بعض وجوهه.
تروي مارييتا، في مقابلة معها أجرتها جريدة "النهار" (18-8-1973)، أنّ جبران حين رأى الملامح الأنثويّة الناضجة في جسمها طلب إليها ألّا تعود إلى محترفه وحدها، بل أن تصطحب مربّيتها معها. إلا أنّ إحدى صديقاتها التي تكبرها سنّاً رافقتها لعدم وجود مربية لديها. فهل كان يخشى آنذاك عدم السيطرة على جوارحه؛ فلا يحافظ على نقاء العلاقة بين الرسام والموديل؟ أرغب في أن يبقى بمأمن من تجربة يرفضها نزوعه الإنساني، أم ليحمي مارييتا من نفسها؟
يذكر مقدّم الرسائل التائهة، رياض حنين، أنّ مارييتا كانت فتاة قصيرة القامة، ليست قبيحة الوجه، وقد رافقت جبران أعواماً كموديل بحكم نفسيتها الطيّبة، ولتناسق أعضاء جسمها الملائم لريشة الفنّان. وفي رسالة من جبران إلى والدتها السيدة جياكوبي، يصفها بأنّها "أرهب رئيسة عرفتها حتى الآن، ولكنّها مرضية للغاية، وقد لقّبتها: (نيرونا)".
بعد زمن على رحيله، وضعت مارييتا مخطوطاً بعنوان "عمّي جبران"، ضمّنته رسائله إليها. وعهدت بنسخة من مخطوطها إلى مستشار لجنة جبران الوطنية في الولايات المتّحدة، فريد سلمان. وهو بدوره أعطى نسخاً من ثماني عشرة رسالة إلى حنين أدرجها في كتابه، بنصّها الإنجليزي المصوّر عن الأصل، والمطبوع، مع نقل عبد الله صالح للرسائل إلى العربية ومراجعة كمال بولس. فالرسالة الأولى كانت بتاريخ (19 أيار 1920)، والثامنة عشرة بتاريخ (7 آب 1928). وجاءت الأخيرة مقتضبة ومذيّلة بعبارة "صديقك المخلص خليل ج.". وبمتابعة التسلسل التاريخي للرسائل نلحظ تبدّلاً ما في عبارات التخاطب والختام، والأهم أنها تتيح لنا مراقبة التدهور الصحي لجبران الذي غادرنا في 10 نيسان 1931.
"أميرتي العزيزة"... عمك المخلص أبداً
في رسائله شقّان، الأوّل يتحدّث فيه عن صحته، وسفره، وتنقلاته بين الريف والمدينة طلباً للاستشفاء. وعن صمته، معتذراً عن عدم تمكّنه من الكتابة إليها في وقت قريب، إضافة إلى لمحات في انطباعه عن مدينتي بوسطن ونيويورك، وعن ظروف الشاعر الاجتماعيّة والنفسية. والشق الثاني يتوجّه بالخطاب والسؤال عنها؛ فنتعرّف على تطوّر حالها من التحاقها بالمدرسة للتعلّم، واحترافها مهنة التصوير الفوتوغرافي؛ فيطلب إليها بعض الصور له ولمحترفه. إلى مصادقة شاب والزواج منه، انتهاء بخبر مولود ينتظران قدومه في الرسالة الأخيرة. مهما يكن من أمر الكلمة فهي لا تكشف بقدر ما تحجب؛ فلا نعوّل عليها بالمطلق. وجبران نفسه يؤكّد ذلك في إحدى هذه الرسائل، بقوله: "إنّ الكلمة المكتوبة هي نصف خرساء، في أفضل معناها".
يصف بوسطن بأنها مدينة السكوت المطبق، والناس فيها أقل حنوّاً من أي شعب آخر في أي مدينة أخرى. فينصحها بألا تعيش فيها مستقبلاً. ويرى نيويورك مدينة لا تهدأ، وأنّه خارجها كسول، وهذا يضجره. كما يتناول معاناته مع قيود اجتماعية تُفرض عليه بوصفه شاعراً؛ فيقول: حياة شاعر في هذه الأيام ليس حلماً يقضى في الأرض المباركة وراء البحار السبعة. فللبشر طريقة لتحويل شاعر إلى آلة- وأنا لا أحب ذلك... فالبشرية قد حطّمت أجنحة الشعراء فلا يستطيعون أن يطيروا عندما يريدون الطيران. وفي إحدى رسائله يذكر اختفاء رسم "النبي"، والبلبلة التي أحدثها ذلك لدى الناشر.
تكاد لا تخلو رسالة من الإشارة إلى تدهور حالته الصحيّة، وتزداد وتيرتها في رسائله الأخيرة؛ فيصف الطبيعة الحقيقيّة لمرضه بأنّ جميع مفاصل جسده تؤلمه، ويكاد لا يستطيع المشي، و بأنهم يجرّبون الكهرباء به. نخاله يؤاسيها أو يشدّ من أزره في قوله: "ينبغي للإنسان أن يكون صبوراً". ونلمس توقه للراحة في كلمته: "أحتاج إلى راحة طويلة في بلاد أخرى، في أرض صامتة، حيث لا يستطيع المرء أن يسمع إلا صوت المجهول العظيم". وفي رسالته الأخيرة يفصح عن مساعدة راهبة وطبيب في كتابتها.
وبالرغم من مرضه، فإنّ رهافة إحساسه لا تنسيه الاعتذار عن صمته؛ فيكتب قائلاً: "ينبغي أن تكوني دائماً سيدتنا الصغيرة المتفهّمة. رسائل أو لا رسائل، لا بدّ من أن تسمعي دائماً صوتي في ساعاتك الصامتة". وفي مرة أخرى يكتب: "أنا أردأ كاتب رسائل في العالم حتى عندما أكون بأحسن حالاتي. سكوتي، عادة، هو دائماً أبلغ من الكلام".
جبران الأب الناصح والمتمرّد: كوني هذه المرأة!
لا يتوانى جبران عن سوق النصح اللطيف، والتأنيب الودود إذا لزم الأمر؛ لكنّه دائم الدعم "لابنة أخيه" مارييتا في تعثّراتها. يصف تارة عذوبتها بالقول: "ماذا تفعلين فيما لو لم تجدي عمّاً لتمازحيه؟ أظنّك تديرين ظهرك للقمر وتمازحين خيالك". ولدى اعتلال صحتها يسارع إلى الكتابة قائلاً: "لماذا يمرض الملائكة الصغار الحلوين؟ الأميرة التي تعيش في البرج العاجي يجب أن تكون قويّة كفاية لتحمل عبء تاجها وصولجانها". وينبّهها تارة أخرى إلى حديث مع أصدقائه، عندما قال لهم: "إنك طيبة وحلوة وموهوبة كما أنت جميلة. وقد صدقوني. ولعلّي لم أخبرهم الحقيقة كلها. ولكن ماذا في وسع إنسان أن يقول عن ابنة أخيه؟ عليه أن يسكت عن بعض الأشياء".
تروي مارييتا، في مقابلة معها أجرتها جريدة "النهار" (18-8-1973)، أنّ جبران حين رأى الملامح الأنثويّة الناضجة في جسمها طلب إليها ألّا تعود إلى محترفه وحدها، فهل كان يخشى آنذاك عدم السيطرة على جوارحه؛ فلا يحافظ على نقاء العلاقة بين الرسام والموديل؟
وسرعان ما يأسف على ما يبدو وعظاً منه؛ فأزعجها. مؤكّداً في غير رسالة، أنه ووالدتها أصدقاؤها الحقيقيون: "نودّ أن ترتقي وتنمي وأن تكوني شخصية مدهشة. وأنني جد مسرور بأن أمّك الحلوة توافقني على بعض الأشياء. وأنها حكيمة جدا وتعي الأشياء الصالحة والمباركة التي ينبغي أن تكون لك. الأعمام، كالأمهات، يعرفون أكثر بكثير مما تظنين. إنك تحاولين بشيء من الجهد أن تكوني امرأة نامية مكتملة الريش، وإني أخشى أنك لن تنجحي حتى أغادر هذا العالم، إلى عالم آخر. ومع ذلك، سواء أكنت طفلة أم امرأة، فأنت جذّابة جداً، وعلى الرغم من كلّ شيء فلا بدّ لي من رعايتك. قد أكون عمّاً قاسياً منتقداً بين حين وآخر".
في رسائله، لا يختلف جبران عمّا هو في كتاباته الأخرى. فيبدي فرحه بخيار مارييتا الفنّي، ويشجّعها على التعلّم والعمل، بالقول: "مهما تقولين عن المدرسة، فسأظل أعتقد أنها مفيدة لك. بعض العصافير يحتاج إلى أقفاص، وبعض النفوس الحرّة يحتاج إلى سلاسل... لا شيء ذا قيمة إلا العمل. وكل ما عداه ليس بشيء سوى موت بطيء". وفي مواجهة الصعوبات يقول: "ينبغي ألا تكوني رعناء. فالحياة نفسها ستنبئك أين تقفين، وأين لا تقفين. ولو كنت مكانك لتركت للحياة أن تتكلّم".
نبقى مع أجمل رسائله التي تفصح عن صدق رؤيته إلى المرأة المقتدرة الشجاعة، إذ يكتب قائلاً: "ماذا تعنين بقولك إنك هزمتِ عند كل منعطف في الآونة الأخيرة؟ إنك تعرفين جيداَ أنك لستِ مهزومة بأي شكل أو أسلوب. فالولد فيك هو وحده الذي يصرخ ويتحدّث عن الهزيمة. إنّ المرأة التي وهبها الله الشيء الكثير والتي وضع في يدها وقلبها الكثير الكثير لا تتحدّث عن الانهزام. ولا تنتحب ولا تحني رأسها. يجب أن تكوني ذاتك الحقيقيّة. احلمي أحلامك وقومي بالعمل الصغير الواجب عليك أن تفعليه. وكوني ممتنّة لأنك تستطيعين أن تحلمي وتعملي... قلبك عالم صحيح كبير جداً برمّته".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 19 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع