بمجرّد انتهائي من العمل مع البهوات إياهم في أول عملية استشارية، أدركت ان البلد تتجه نحو الهاوية وبمعدل سريع جداً، وبالتالي اتجهت لقرار السفر رغم بغضي للغربة، لكن ما باليد حيلة، ولكي أكون صادقاً معك، على الرغم أني اتخذت قراري وقتها بالسفر – أو بالأحرى النجاة من هذه الهاوية - إلا أني كنت ملتزماً بمجموعة هائلة من المصاريف وقتها، من مستلزمات البيت ومصاريف مدارس الأولاد، وبعد أن جلست في بيتي لمدة أربعة أشهر من تحت رأس المشروع الأخير، تلقيت مكالمة من صاحب المكتب الاستشاري إياه، يخبرني فيه بوجود عملية جديدة، فأخبرته بموافقتي على الفور، وقتها أخذت في قرارة نفسي قراراً بضرورة أن أتعلم من الأخطاء السابقة، وألا أسمح لأحد من البهوات أن ينتقص من كرامتي، ووقتها قرّرت أيضاً أن تكون فرصة لرد اعتباري لوأمكن، ولكن ما حدث هو العكس تماماً.
المشروع هذه المرة كان عبارة عن تقديم الدعم الفني لشركة استثمارية كبيرة يمتلكها ملياردير ما، قرّر أن يستثمر في مصر عن طريق عقد عدة مفاوضات مع أحد الهيئات العسكرية، والتي تقوم بتخصيص الأراضي للمستثمرين في أحد المدن الجديدة، والحق يقال إن الشركة كانت بالفعل جاهزة بالرسومات والمخططات لمدينة متكاملة، تجارية وصناعية وزراعية، وكان دورنا ينحصر في عرض هذه المخططات على هذه الهيئة العسكرية، ولأن هذا الملياردير يؤمن بالعلم والدراسات بعض الشيء، فقد قرّر الاستعانة بأساتذة الجامعة للقيام بعرض هذا المشروع عليهم، وأنا كنت أحد أفراد هذا الفريق الذي يضم لفيفاً من أساتذة الجامعة، الكبار خبرةً وسناً.
كان المشروع يستهدف نقل مئات الآلاف من الدلتا وتوطينهم في هذه المدينة، ولكن عندما سمع هؤلاء البهوات الرقم المستهدف للسكان، اعترضوا وأوقفوا العرض على الفور، وهنا سمعت شيئاً أغرب من الخيال: "عائلات؟ عائلات ايه؟ الريس لن يوافق على هذا الكلام أبداً"
عندما وصلنا لمقر هذه الهيئة العسكرية، قمنا بعمل عرض مبهر الحقيقة أمام جميع أفراد هذه الهيئة، وهذا المشروع والحق يقال كان يمثل نقلة في قصة التوسع الأفقي لمصر وتخفيف الضغط على الدلتا المكتظة أصلاً بالسكان، وكان المشروع يستهدف نقل مئات الآلاف من الدلتا وتوطينهم في هذه المدينة، ولكن عندما سمع هؤلاء البهوات الرقم المستهدف للسكان، اعترضوا وأوقفوا العرض على الفور، وهنا سمعت شيئاً أغرب من الخيال، كان اعتراضهم على أن عدد السكان كبير جداً من وجهة نظرهم - والتي فهمت فيما بعد أنها وجهة نظر الباشا الكبير أوي - وأنهم لا يريدون لهذا العدد الكبير أن يتسبب في افساد المدينة، لتتكرّر نفس مشكلة الاكتظاظ الحادثة في الدلتا، وعندما شرحنا لهم بالأرقام أن نسبة الاكتظاظ التي يتحدثون عنها هي نسبة لا تذكر بحكم كبر مساحة المشروع، وأن المشروع خصّص هذه النسبة وهذا العدد لكي ينتقل العاملون بأسرهم وعائلاتهم للمدينة الجديدة بما يضمن الاستقرار لهم، فما إن سمعوا كلمة "عائلاتهم" إلا وقد كانوا كمن ركبهم 600 عفريت: "عائلات؟ عائلات ايه؟ الريس لن يوافق على هذا الكلام أبداً"، وهنا تحول النقاش لسجال، وكاد الموقف أن يتطور أكثر لولا أن أشار لنا هذا الملياردير بالتوقف عن العرض والنقاش، واستأذننا جميعاً بمنتهى الأدب في الخروج من قاعة العرض، وقفنا خارج المبنى ونحن أساتذة جامعة نضرب كفاً بكف، إذا كان المشروع يستهدف أصلاً تخفيف الضغط والكثافة السكانية في الدلتا، فما جدواه إذن لولم ترد نقل السكان وأسرهم لهذه المدينة الجديدة؟ وانتهى هذا اليوم هذه النهاية الغريبة، ولم أعرف مصير هذا المشروع وهل تمت الموافقة عليه أم لا للأمانة.
طبعاً لو حضرتك أضفت هذه التجربة المريرة للتجارب الأولى الأكثر مرارة، ستجدني قد حسمت قراري بالسفر نهائياً من هذا البلد، فخبطتين في الراس توجع، وفي حالتي أنا، لم يتوقف الأمر عند مجرّد مشروع وعرض وفشل، وانما كان يتجاوز هذا بكثير، فلو كان مصير هذه المشاريع العملاقة في يد هؤلاء الجنرالات الجهلة، فلا عجب فيما وصل إليه حال البلد، سابقاً وحاضراً ومستقبلاً.
كان هذا كلامنا ولسان حالنا جميعاً ونحن واقفين كأساتذة جامعة نتكلم ونحن شبه مطرودين خارج المبنى، لهذا اتخذت قرار السفر، ولقصة سفري من البلد حكاية أخرى كنت أتمنى ألا تكون بنفس مأساوية قصة وجودي في البلد، ولكن يبدو أن كونك مصرياً يكتب عليك المآسي طالما حييت على هذه الأرض.
وحتى يأتي الوقت المناسب لكي أروي تفاصيل هذه المآسي، دعني أطلعك على تفاصيل آخر مشروع عملت فيه تحت إمرة هذا المكتب، وهو كان أهم المشاريع وأكبرها على الصعيد القومي والاقتصادي، وهو مشروع تعوّد النظام على أن يسبح بحمد مجهوداته وتخطيطه فيه أمام الجمهور في أي مناسبة متاحة، لكن بحكم تخصصي وما حدث أمامي من هرجلة وسربعة وضغط غير مفهوم لإنجاز المشروع في أسرع وقت ممكن، فأنا أيضاً رأيت العجب العجاب في التخطيط له وعمل الدراسات الأولية المطلوبة لتنفيذه، لكن اسمح لي كالعادة بالتعتيم على بعض التفاصيل حتى لا أقع في المحذور، وللمصادفة البحتة، فأنا عملت في المشروع الذي حدثتك عنه من قبل بالتوازي مع المشروع الذي أنوي الحديث عنه الآن، فكلاهما مترابط، فالمشروع الأول هو إنشاء مدينة جديدة، والمشروع الثاني متعلق بتوصيل مرفق هام من المرافق لمنطقة هذه المدينة الجديدة وما حولها.
هنا أيضاً حضرت اجتماعاً تنسيقياً في إحدى الهيئات العسكرية ولكن على أعلى مستوى، وهذا الاجتماع شمل حضور وفود ممثلة عن مختلف الوزارات المعنية بهذا المرفق، أعتقد أن عدد الوزرات الممثلة في هذا الاجتماع وصل لأربع أو خمس وزارات، بجانب حضور رئيس هذه الهيئة العسكرية ومعاونيه، والموضوع كان يتلخص في كيفية توفير المطلوب من هذا المرفق الهام لمنطقة المشروع، وكالعادة، فالريّس متعجل ويريد أن يرى الحل خلال أسبوع واحد، وهنا كان الكيل قد فاض بي بالفعل، فهذا المشروع سيكلف الدولة عشرات المليارات من الجنيهات، ولو تم اختيار حل خاطئ أو غير مدروس بعناية فسوف يكلف الدولة أضعاف ما يمكن أن يكلفه في الظروف العادية.
بدأ الاجتماع بعرض الحلول المختلفة للمشروع، ولكن للأمانة، فإن ممثلي أكثر وزارة معنية بهذا المرفق حاولوا تنقيح الاختيارات ومناقشتها - بل والاعتراض عليها - قدر الإمكان، وفي أحد النقاشات الساخنة تطور الموقف بعض الشيء نتيجة لانفعال أحد ممثلي الوزارة عندما تحدث عن جدوى المشروع من أساسه، وذلك لأن البلد تئن حالياً من العجز الحادث في هذا المرفق، وهنا، انفعل أيضاً رئيس الهيئة العسكرية الحاضر للاجتماع وقال له فيما معناه: "ما الوزير بتاعك قال للريس انه حيقدر يوفر المطلوب، انت جاي تعترض هنا على كلام الوزير بتاعك ولا ايه؟ الوزير بتاعكم قال للريس تمام، يبقى تمام"، وهنا نزل صمت مطبق على الجميع.
طبعاً أنا أتخيل كيف تورط الوزير المعني في هذا الكلام، فالريس في إحدى جلسات الأنس إياها، وهو ممسك بالحديدة إياها، قال: "عايزين نعمل كذا، ينفع يا فلان؟"، ففلان هذا أومأ برأسه بالإيجاب على طريقة الكلاب الهزازة في عربيات الأجرة، كما أشرت حضرتك في هذا التشبيه المضحك والمؤلم في آن واحد. هكذا، بدون دراسة، وبدون أن يرجع فلان هذا لكوادر وزارته، وبدون التحقق من المشاكل التي يمكن أن تحدث من تحت رأس كلام فارغ من هذا النوع، يعني ممكن تعتبر أي وزير في أي اجتماع يحضره الريس "كاورك " أو "شرابة خرج"، فلا أحد يملك الاعتراض أو حتى مجرد طلب وقت للدراسة والرد، خصوصاً بعد حادثة الإطاحة بمحافظ الإسكندرية الذي طلب وقت للدراسة، فكان نصيبه الإقالة السريعة، وحتى لوكان الموضوع يشمل مصيبة كبيرة ممكن أن تكلف الدولة إما سداد عشرات اضافية من مليارات الجنيهات أو حدوث عجز في المرفق ككل يتأثر به المواطنون في كامل صعيد مصر.
فالوزير هنا أومأ برأسه إيجاباً ولا أستبعد قوله: "تمام يا فندم"، ولهذا، ورجوعاً للاجتماع الذي كنت أحضره في هذه الهيئة العسكرية، اضطرّ ممثل هذه الوزارة لأن يهدأ، وذلك لأن "الكبسة" التي اتكبسها كانت شديدة عليه بعض الشيء، ليتم بعدها إنهاء الاجتماع على عجل، مع الاتفاق على أن يقوم الاستشاري وهو العبد لله، بدراسة أفضل الحلول واختيار الحل الأمثل، على أن يتم الاجتماع مرة أخرى بعد ثلاثة أيام فقط لاختيار الحل النهائي، وبعد شوط من الفصال والمناهدة، اتفقوا على تمديد المهلة اللازمة لدراسة المقترح لتصبح أسبوعاً بدلاً من ثلاثة أيام.
بعد انتهاء الاجتماع، جلست مع ممثل هذه الوزارة واتفق معي على الاجتماع في الوزارة في اليوم التالي للاتفاق على بعض الأمور الفنية، ثم عدت في نهاية هذا اليوم التالي لصاحب المكتب الاستشاري لعرض كافة التفاصيل عليه. طبعاً هنا يظهر الأداء الكارثي والشيطاني لصاحب المكتب الاستشاري، وأنا لا أجد تشبيها يصف أداءه أفضل من تشبيهه بـ "آل باتشينو" في فيلم محامي الشيطان، فأنا لن أتعجب أبداً لو اكتشفت أن الرجل قد تحول بعدها لإبليس مجسّد، وهو يردد أن ضرب المشاريع وسلقها هو خطيئته المفضلة، فالرجل بمنتهى البساطة أتى بمسؤول سابق في الوزارة، على دراية تامة بتفاصيل المنطقة محل الدراسة، وسهروا مع بعض لوش الصبح في المكتب وطلعوا، بعد العديد من كوبايات الشاي الأسود التقيل والقهوة، باقتراح زي الفل على طريقة "بس على الله محدش ينخرب ورانا"، وعليه، تم إرسال المقترح للوزارة وانقطعت أخبار هذا المشروع عني تماماً بعدها، فقط لأتفاجأ بعدها بعدة أشهر، أن التنفيذ بدأ بالفعل وأن الريس، في أحد مؤتمراته المضحكة إياها، كان يتباهى بالمشروع وفوائده كأنه سيعيد لمصر مكانتها الفرعونية.
كما سمعتك تقول من قبل في إحدى حلقاتك، فإن الوقت سيأتي لا محالة لمراجعة هذا العك، سواء بنا أو بدوننا، فالتاريخ لن يرحم هذه "الهرتلات" والتي أضاعت على الدولة العشرات - بل قل لو شئت المئات - من مليارات الجنيهات، في بلد يأنّ فيها الشعب من الديون ويرزح أكثر من ستين بالمائة من تعدادها تحت وطأة الفقر، وللأسف، فلن يحاسب على مشاريب الشاي الأسود الثقيل والقهوة التي طفحها الاستشاري الشيطان ومعاونوه ورئيس الهيئة العسكرية ومساعديه والوزارات المختلفة بممثليها إلا هذا الشعب المأسوف عليه.
في أحد النقاشات الساخنة تطور الموقف بعض الشيء نتيجة لانفعال أحد ممثلي الوزارة عندما تحدث عن جدوى المشروع من أساسه، وهنا، انفعل أيضاً رئيس الهيئة العسكرية الحاضر للاجتماع وقال له فيما معناه: "ما الوزير بتاعك قال للريس انه حيقدر يوفر المطلوب، انت جاي تعترض هنا على كلام الوزير بتاعك ولا ايه؟ الوزير بتاعكم قال للريّس تمام، يبقى تمام"
بناءً على ما سبق، ولأن ضميري "ابن الجزمة" نقح علي بشدة وقتها مرة أخرى، حدثت بيني وبين صاحب المكتب الاستشاري مكالمة عاصفة، طلبت فيها عدم اشراكي في أي عمليات يشترك فيها أي ضابط جيش مهما صغرت رتبته، طبعاً كان هذا الطلب مضحكاً جداً له لأنه لا يوجد حالياً أي عمليات من هذا النوع، وهذا الطلب كان أشبه بالاستقالة المبطنة، ولكني نجحت في التملّص منه متحججاً بمرض أحد أقربائي الذي لا يملك أحداً ليقوم برعايته، ووقتها سحب مني كافة المشاريع التي كنت مشتركاً فيها بشيء من "القمص" وانتهت المكالمة.
لقد اتخذت هذا القرار لأني لن أرضى لنفسي ولا لأولادي أن نقتات من الحرام، فمن يستفيد مادياً من هذا العك كمن يقتات من الجيف أعزك الله، ولعل هذا العك والفساد والقرف كان الدافع الأساسي لمراسلة حضرتك لتكون على علم بهذا كله، أنا أعي طبعاً أن لديك ما يكفيك من الأخبار والحوادث السيئة، فكنت أتمنى ألا يأتي العبد لله ليزيد الطين بلة، لكني أظن أن هذا هو السبيل الوحيد لتوثيق الفساد الذي حدث قبل أن يموت في صدري ولا يدري به أحد.
قبل أن أنهي رسالتي سأطلعك على مشروع آخر يجب أن يكتب في كتب التاريخ على أنه مثال للغباء والفساد، وأرجو أن يتسع صدرك لبعض التفاصيل الخاصة بشرح الموضوع أولاً حتى أنتقل الى نتيجة الموضوع، لعلك تتذكر منطقة سيدي جابر على كورنيش البحر في محافظة الإسكندرية، في العقود السابقة كانت هذه المنطقة متسعة نسبياً بعض الشيء مقارنة بما قبلها وما بعدها على امتداد خط الكورنيش، فإذا بنا نفاجأ بأن البهوات قد قرروا عمل كوبري في هذه المنطقة بدون الرجوع لأحد أو أخذ رأي أحد، طيب ما هي جدواه؟ سمعنا أنه سيتم عمل فندق على الطراز العالمي أمام الكوبري في هذه المنطقة، هم سيقومون بهدم مسرح السلام ومساكن الضباط وعمل الفندق، وهنا ظهرت عدة أسئلة: ما الدافع وراء إنشاء الفندق من أساسه؟ وما علاقة الكوبري بالفندق؟ وهل راجع أحد نسبة الإشغالات في فنادق الإسكندرية من أساسه حتى نتبين الحاجة لإنشاء فندق جديد من عدمها؟ ماذا عن فندق تيوليب التابع للجيش والموجود بالفعل في أول شارع المعسكر الروماني، والذي هو على بعد خطوات من الفندق المزمع إنشائه؟ هل راجع أي أحد نسبة إشغاله؟ يقال إن نسبة إشغال فندق فلسطين، والموجود في حدائق المنتزه التاريخية وهو أحد أرقى فنادق الإسكندرية وأجملها موقعاً وتصميماً، لا تتجاوز الخمسين بالمائة على مدار السنة، فما هي جدوى إنشاء فندق جديد عالمي في منطقة مزدحمة ليل نهار مثل منطقة سيدي جابر؟ كان الرد هنا أن الكوبري سيساهم في تخفيف الأزمة وأن المرور لن يتأثر بالفندق الجديد مهما بلغت نسبة إشغاله، إذن فالقصة كلها تتلخّص في وجود حاجة ملحة لإنشاء فندق هنا والآن، والسبب مجهول، هو كده وخلاص يعني.
قبل أن نحاول الوصول لأي إجابات، بدأ العمل فوراً في الكوبري، وبدأ المنفذون في تحديد عدة مسارات بديلة للكورنيش، وذلك بالمرور داخل الشوارع الضيقة لمساكن الضباط وقتها، تخيل سيادتك أن تحول تدفّق المرور من طريق حيوي وهام ككورنيش الإسكندرية الى شوارع ضيقة جانبية لم يمش بها أحد من قبل، اللهم الا فيما ندر، وغير مؤهلة من أساسه لاستيعاب هذا التدفق المروري الضخم، فكانت النتيجة أن المشوار الذي كان يأخذ نصف ساعة أو ساعة زاد وأصبح يأخذ ساعتين وثلاث من عمر البشر، كل هذا من أجل ماذا؟ من أجل فندق؟
ما يغيظ هنا هو عدم وجود مشاركة مجتمعية، وأنا حضرت بنفسي اجتماعاً من هذه العينة تم دعوتي له من أحد ممثلي المعونة الأمريكية في مصر، وكان الهدف هو مناقشة آراء الحضور في مشروع يهدف إلى الحفاظ على التراث الحضاري لمنطقة ما، فما كان من الجماعة الأمريكان الا أن قاموا بدعوة ممثلين عن الجامعات وممثلين عن المجلس المحلي وغيرهم للوصول إلى أفضل تصور للمشروع ومناقشة أي اعتراضات أو ملاحظات عليه، لا تنس أن هذا المشروع كان تحت إطار المعونة الأمريكية، أي أنهم هم من سيقومون بتحمل كافة التكاليف الخاصة بالمشروع، فلماذا الاهتمام بسماع رأي الناس؟ ذلك لأن رأي الناس مهم، وموافقتهم أهم.
رجوعاً لقصة الكوبري، حدثت وقتها العديد من المناقشات الحادة على شبكات التواصل الاجتماعي بخصوص جدوى المشروع، لأتفاجأ بعدها بأحد السادة الضباط وهو يسب الناس سباً في أحد التعليقات، وهو يقول: "ما انتم أصلكم شوية بهايم، الكوبري ده اسمه Flyover وبيتنفذ في كل حتة في العالم يا بهايم"، المهم جرت الأيام وتم الانتهاء من الكوبري بعد أن بلغت الروح الحلقوم لمعظم أهل الإسكندرية، وتردّد وقتها أن نقاشاً دار بين محافظ الإسكندرية وقائد المنطقة الشمالية للجيش عن مشاكل التكدس المروري الحادث أثناء التنفيذ، فما كان من قائد المنطقة الشمالية الا أن قال للمحافظ: "ما احنا وقفنا جنب الناس في 30 يونيو 2013، ما يتحملونا هم شوية"، يصعب عليّ التثبت من صحة هذه الواقعة للأمانة، لكنها على ما أتذكر تردّدت أمامي من عدة أساتذة جامعة كبار أعتقد أنهم حضروا هذا الاجتماع.
ماذا عن الفندق؟ بعدها بعدة أعوام وجدنا أن الفندق الخرساني الضخم والمشوه لمنظر الكورنيش قد شارف على الانتهاء، ها هوذا، ظهر الى النور أخيراً بعد معاناة، ماذا بعد؟ هل سيتم تشغيله بشكل جيد؟ لا تنس أن هناك ماسورة فنادق تابعة للجيش ضربت في إسكندرية ولا كأن الناس كلها عايشة بالمايوهات طول السنة، المنتزه وحدها تحتوي الآن على ثلاثة فنادق، وما حدث في المنتزه هو جريمة أخرى ممكن الكلام عنها فيما بعد، ناهيك عن الفنادق التابعة لهم والموجودة في الإسكندرية أصلاً قبل هذا العك.
وهنا تأتي المفاجأة التي علمت بها قبل رحيلي عن البلد بأيام قليلة، وهي أنه قد صدر قرار بتحويل هذا الفندق لشقق سكنية عادية، طبعاً سيادتك أعلم مني من المستفيد من هذا القرار، من سيملك شقة سكنية شاسعة على واحد من أجمل المناظر الطبيعية في الإسكندرية برمتها، وأنا لم أعلم بهذه المعلومة إلا من أحد المقربين مني والعاملين في مجال الاستشارات الهندسية، والذي يعرف أحداً ممن شاركوا في عملية التحويل الإنشائي لهذا الفندق من غرف فندقية الى شقق سكنية.
تردّد أن نقاشاً دار بين محافظ الإسكندرية وقائد المنطقة الشمالية للجيش عن مشاكل التكدّس المروري الحادث أثناء تنفيذ كوبري إسكندرية، فما كان من قائد المنطقة الشمالية الا أن قال للمحافظ: "ما احنا وقفنا جنب الناس في 30 يونيو 2013، ما يتحمّلونا هم شوية"
مرة أخرى، ومروراً بكل الحوادث والشواهد التي شهدتها، أستطيع القول إن الفساد استشرى في البلد فلا تعرف له أول من آخر، وأن القائم على هذه الأمور والمسؤول عنها جدير أن يكون حطباً لجهنم تحرق أتباعه ومعاونيه ومن تبعهم، وأنا أتمنى من كل قلبي أن يكون ذلك في الدنيا قبل الآخرة، رفقة ورحمة بهذا الشعب الذي أراد الإتيان بمن يحنو عليه، فأتى بمن يجثم عليه وعلى أنفاسه، ولوكان الأمر بيدي، لجئت بمن اقترح هذا المشروع، وقمت بخوزقته وتعليقه أعلى هذا الفندق أو ذاك الكوبري ليصبح عبرة للجميع.
في النهاية سأختم رسالتي إليك بعدة عبارات تبدأ كلها بكلمة (مصر)، ولكنها لن تكون كتلك العبارات التي قالها بشكل مضحك ذلك اللواء في المجموعة الرئاسية إياها التي تكلمت عنها في احدى حلقاتك، بل هي عبارات تلخّص تجربتي في وطني الذي يحزنني البعد عنه مع أنني أدرك أن السفر كان الطريق الوحيد للنجاة من جحيمه:
مصر تعلّم الجميع الصمت، بينما هي في أمسّ الحاجة لكلام الجميع.
مصر، قطار الحياة فيها يشبه بدرجة كبيرة قطار قليوب، فما تلبث أن تستقر الأحوال بعض الشيء إلا وتفاجأ بانقلابه رأساً على عقب، وراجع على سبيل المثال مدخرات الناس في مصر منذ سنة واحدة وراجعها الآن.
مصر، الآن يمكنك التنبؤ فيها بالمستقبل بمنتهى السهولة، فقط توقع الأسوأ وسوف يحدث.
مصر، الوطن الذي تهدر فيه كرامة مواطنه على أرضه ليس بوطن، لقد ضجت مصر بأهلها، وضج أهلها بها، وضججت أنا من نفسي ومن حالي، فأصبحت عضواً جديداً في نادي الهاربين الناجين من الوطن.
*****
صورة طبق الأصل من شهادة قمت بتغيير بعض تفاصيلها وحذفت أجزاء منها، لأسباب لا تخفى على انتباه كل من يكتوي بجحيم الوطن، سواء كان يعيش داخله أو بعيداً عنه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...