شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
فيديو مفبرك لرئيس بلدية درنة يُغرقه في وحل الطوفان

فيديو مفبرك لرئيس بلدية درنة يُغرقه في وحل الطوفان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والتنوّع

الأربعاء 20 سبتمبر 202312:19 م

لا أعرف إن كان في ثقافات أخرى، غير العربية، يستطيع شخص أن يقمع رأياً مخالفاً بجملة من قبيل "مش وقته"، لكن ما أنا متأكد منه وخبِرته في الكثير من المواقف والآراء، هو أن ثقافتنا وموروثنا يسمحان لأي شخص أن يشهر هذه الجملة في وجهك، إن كان رأيك مخالفاً لقناعاته، أو للقناعات السائدة عند الجمهور.

هذا القمع يجد من يؤيدونه حينما يكون الرأي المقموع يتعلق بكارثة طبيعية، أو بحرب، أو باستشهاد مقاتل هنا أو مدنيين هناك. صحيح أن الآراء حول قضية ما ليس بالضرورة أن تتشابه، وصحيح أن الاختلاف في المواقف والرؤى يغني أي نقاش، لكن غير الصحيح هو أن يكون هناك رأي ما، وتكون معارضة هذا الرأي أو مشكلته هي التوقيت الذي صدر فيه.

المعترضون في هكذا حالات لا يجدون الحجة الملائمة أو المقنعة لمعارضتهم، فيلجؤون للابتزاز العاطفي تحت يافطة "مش وقته". يقولون لك: "قد يكون رأيك فيه القليل أو حتى الكثير من المنطق، لكن ألا ترى أن الوقت غير ملائم لطرحه؟ ألا ترى أن الناس مشغولة بلملمة جراحها، أو بدفن أحبّتها، ولا يريدون سماع ما يزيد طينتهم بلّة؟".

جرّب أن تكتب رأياً مخالفاً للسائد أو للصراخ الوطني أو للحماس الديني، في اللحظة التي تنطلق فيها الصواريخ على غزة مثلاً؟ سيهاجمونك بحجّة التوقيت غير الملائم. جرّب أن تؤجل رأيك إلى ما بعد لملمة الجراح، سيقولون لك: "على بال مين يلي بترقص في العتمة، الناس في إيش وإنت في إيش؟"

وفي حالة كهذه أمامك خياران: إما أن ترفض هذا الابتزاز وبالتالي تكتسب لقب هادم اللذات أو معكّر الطمأنينة، أو ترضخ لهذا الاعتراض وتنتظر الوقت الملائم لقول رأيك، وستكتشف حينها أن هذا الوقت لا ولن يأتي أبداً.

جرّب عزيزي القارئ أو عزيزي الكاتب أن تكتب رأياً مخالفاً للسائد أو للصراخ الوطني أو للحماس الديني، في اللحظة التي تنطلق فيها الصواريخ على غزة مثلاً؟ سيهاجمونك بحجة التوقيت غير الملائم. جرّب أن تؤجل رأيك إلى ما بعد لملمة الجراح، سيقولون لك: "على بال مين يلي بترقص في العتمة، الناس في إيش وإنت في إيش؟"، أو على الأقل لن تجد من يستمع لك حتى من الضحايا أنفسهم، لأنك تأخرت كثيراً، وهم انشغلوا بهموم جديدة وتم تجاوز المرحلة، أو الحادثة التي كان لك فيها رأي.

كم شخصاً سيقرأ مقالاً عن انفجار مرفأ بيروت، لو قرّر أحدهم أن يكتب الآن عن تلك الحادثة؟ وكم شخصاً سيهتم لتحليل حالي عن سقوط صدام أو عن حربه على الكويت؟ لا أحد، إلا إن كان العنوان مثيراً ويستطيع دغدغة فضول القارئ وإثارته.
وكعنوان مثير لهذا المقال، اخترت "فيديو مفبرك لرئيس بلدية درنة يُغرقه في وحل الطوفان". الفارق الوحيد بين هذا العنوان وعناوين الإثارة هو أن المقال في وقته وليس بعد لملمة الجراح وإحصاء الضحايا.
لا أعرف أيضاً إن كانت الثقافة العربية هي الوحيدة التي تركّز على مشاعر التضامن بديلاً عن الإغاثة العاجلة، وعلى الدعاء بديلاً عن الآليات الثقيلة وفرق الدفاع المدني، وعلى إلقاء اللوم على الآخرين بديلاً عن التحقيق الجدي وتقديم المسؤولين للعدالة، ومن ثم استخلاص العبر.

واستخلاص العبر لا يكون من أجل عدم تكرار الكارثة وحسب، بل من أجل أن لا نقع ضحية لكوارث جديدة، سواء أكانت شبيهة أو غير شبيهة. ولكي لا نقع مجدداً فعلينا أن نغوص عميقاً في التحقيقات، ولا نكتفي بإدانة المسؤول المباشر وكأننا نبحث عن كبش فداء، بل أن نتمعّن في منظومتنا الإدارية والفكرية والأخلاقية، وأن نحقق في الأسباب التي تدفع رئيس بلدية لأن يدّعي أنه حذّر المواطنين مسبقاً بأن الوضع خرج عن السيطرة، ثم يكتشف المواطنون الضحايا أن رئيس البلدية كاذب ويريد تبرئة نفسه لا غير.

والتحقيق مهمته أيضاً أن يغوص في الأسباب التي أوصلت البلاد، برمّتها، إلى حالة من اللامعقول، بحيث يتم بناء سدود لا داعي لها، ولا فائدة ترجى منها على الإطلاق، لا من ناحية مشاريع الريّ، ولا من ناحية إيقاف خطر فيضان حقيقي، ولا من ناحية تنظيم تدفق مياه نهر ما.

والتحقيق مهمته أن يجيب على السؤال المتعلق بالتحذيرات من كارثة وشيكة منذ عام 2000، أي طوال ثلاثة وعشرين عاماً، دون أن يستجيب أي مسؤول، لا من البلدية ولا من الحكومات المتعاقبة، ولا من الهيئات المنوط بها متابعة السدود وشبكات المياه والمجاري. والأدهى من كل ذلك، هو أن المحذرين اكتفوا بالتحذير، وعادوا وكرّروه مرّة واثنتين وثلاث، لكنهم لم يفعلوا شيئاً إزاء عدم استجابة الجهات المسؤولة؛ لم يصرخوا، ولم ينزلوا إلى الشارع، ولم يعتصموا أمام السد أو تحته. لم يفعلوا إلا التحذير والندوات، والتي كان آخرها قبل أربعة أيام من الكارثة.

حتى لو اكتشف الليبيون غداً أن فاسداً ما سحب الأموال المخصّصة للصيانة من البنك، أو أن لا مال تم إيداعه من الأساس، فماذا سيستفيدون؟ حتى لو علّقوا رئيس البلدية على حبل المشنقة، إن كان مقصراً أو كاذباً في الفيديو، أو حتى لو صنعوا منه بطلاً قومياً إن اكتشفوا أنه مظلوم وصادق، وقام فعلاً بتحذير المواطنين قبل الكارثة، فماذا سيستفيدون أيضاً؟

نسي الرئيس التونسي كل ما حلّ بجيرانه من موت وتشريد، وركّز في خطابه على تسمية الإعصار باسم "دانيال"، وأن هذا اسم أحد أنبياء اليهود، ولهذا فهو اسم من صنع الصهيونية، التي تغلغلت فينا ومسحت عقولنا، حسب قوله. مثل هكذا رأي تحديداً يمكن أن يقال له: "مش وقتك يا أخي، الناس في إيش وأنت في إيش"
الطبيعة وكوارثها تقتل في كل يوم وفي كل مكان، وهي قتلت في مدينة سوسة الليبية بعض المواطنين وأغرقت مئات المنازل وشردت أصحابها، وهي أغرقت المنازل في البيضاء المرتفعة، لكن في هذه وتلك يمكن لوم الطبيعة أساساً، ومن ثم لوم البلدية لعدم مراقبتها الجدية لتراخيص بعض الأبنية المشيدة بطريقة غير سليمة، أو حتى لوم المواطنين أنفسهم لعدم مراعاتهم للقوانين في البناء، أو لعدم استجابتهم للتحذيرات. أما ما حصل في درنة فهو للأسف نتيجة حتمية لخمسين عاماً من اللامبالاة، والفساد، والاتكالية، والمراهنات الفارغة على الحظ أو على رعاية وحفظ الله. ألا يلزمنا في العالم العربي لجان تحقيق مختصة بهذه المراهنات؟
لقد بدأ إعصار دانيال في بلغاريا وتركيا، واجتاح في طريقه اليونان ووصل إلى سواحل ليبيا، لكنه لم يفعل في البلدان الثلاثة ما فعله في ليبيا، رغم أن بلغاريا واليونان دولتان فقيرتان، لماذا لم يفعل؟ لأن هذه بلدان فيها نظم إدارية وقانونية لا يمكن المساس بها من مسؤول فاسد، أو هيئة تعتبر نفسها فوق القانون. ولأن هذه النظم يتم مراجعتها دورياً لما فيه مصلحة المواطن، بتعريفه الحقيقي كمواطن في دولة، أي كدافع ضرائب له حقوق وواجبات، وليس كفرد من رعية أو عنصر من أمة، عليه أن يقول آمين.
هذه النظم الإدارية والقانونية ليست في ذهنيتنا حين نقيل مسؤولاً أو نحقق في مصيبة، لا كمواطنين ولا حتى كرؤساء، وليس أدلّ على ذلك من تصريح الرئيس التونسي، وهو يبيع ليبيا تضامناً لم يخطر على بال أحد، حيث نسي كل ما حلّ بجيرانه من موت وتشريد، وركّز في خطابه على تسمية الإعصار باسم "دانيال"، وأن هذا اسم أحد أنبياء اليهود، ولهذا فهو اسم من صنع الصهيونية، التي تغلغلت فينا ومسحت عقولنا، حسب قوله. مثل هكذا رأي تحديداً يمكن أن يقال له: "مش وقتك يا أخي، الناس في إيش وأنت في إيش".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image