شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
بكاء الرجال... أمي لا تعترف ببكائي أنا وتشرشل

بكاء الرجال... أمي لا تعترف ببكائي أنا وتشرشل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الثلاثاء 19 سبتمبر 202311:53 ص

صادفني "بوست" لأحد أصدقائي على فيسبوك، أوقفت تمرير الشاشة وتأملت كلمات فؤاد حداد: "بكيت مسحت دموعي". أكاد أجزم أن حداد كتبها وهو يبكي، ولكن لماذا تصر أمي أن الرجال لا يبكون؟

رجعت بالذاكرة إلى شتاء 1995. كنت حينها في الحادية عشر من عمري، وفي إحدى الأيام كان الجو شديد البرودة، لم يخفف من برودته سوى  جاكيت أزرق اللون، أخبأ يدي داخل جيوبه ملتمساً بعض الدفء.

كان الطريق إلي البيت طويلاً، أقطعه سيراً على قدمي المحشورتين داخل حذاء أسود لم أرحم ضعفه وقلّة "ورنيشه"، فأركل به الحصى والطوب الذي يقابلني في طريقي، وهي عادة كنا نتبعها ونحن عائدين من المدرسة كنوع من التسلية. كانت عادة سيئة تغضب والدينا وتفرح بائعي الأحذية، لأن حذائي بعد شهر واحد، يسمح لـ "صباعي" الأكبر بالخروج من مقدمة "الجزمة"، وهو يلعن "سلسفيل" ذلك اليوم الذي اشتريته فيه وأخرجه البائع من مكانها الأنيق داخل "الڤاترينة".

لا أعرف أن أمشي بهدوء. أسرق التوت الأحمر من شجرة شاء حظها العاثر أن تقف على جانب الطريق المؤدي للمدرسة، وأشرب الماء من كل "قلة" تقابلني، أو أضرب كل صديق أجده أمامي على "قفاه" ليفتح لي السكة، هكذا حتى أصل إلي بيتنا، وأول شيء أفعله هو سؤال أمي عن وجبة الغداء. لكن هذه المرّة كانت مختلفة قليلة: ما إن اقتربت من بيتنا حتى لاحظت حركة غير عادية، نزعتي حقيبتي من خلف ظهري وألقيتها على الأرض،  شاهدت بعض النسوة من الجيران يقفن خارج عتبة البيت، وأخريات ينتشرن في غرفة جدتي بهجة، بينما تحاوطها بناتها يطردن عن سريرها شبح الموت.

وجدت دموعي تسيل على وجهي وأنا أرى الجدة لا تقوى على تحريك يدها التي كانت تهز سنابل القمح، وتحيك لي ملابسي، وتقطف بها عناقيد العنب وتضعها في حجري. لمحتني أمي التي تجلس بجوار بعضهن، وقامت بسرعة من مقعدها وجذبتني من يدي إلى خارج الغرفة، وقالت بحدة: "الراجل عيب يبكي قدام الستات".

وجدت دموعي تسيل على وجهي وأنا أرى الجدة لا تقوى على تحريك يدها التي كانت تهز سنابل القمح، وتحيك لي ملابسي، وتقطف بها عناقيد العنب. لمحتني أمي فقامت بسرعة من مقعدها وجذبتني من يدي إلى خارج الغرفة، وقالت بحدّة: "الراجل عيب يبكي قدام الستات"

قالتها بغضب وبلهجة صعيدية، فهي نشأت في بيئة ترى في بكاء الرجل عاراً حتى لو كان طفلاً، بعد أن مسحت دموعي، تذكرت أن جدتي ماتت، حاولت أن أبكي ولكن الدموع احتبست داخل عيني، ربما هي الأخرى خافت من غضب أمي.

كنت كلما حاولت أن أصطنع البكاء فشلت في تمثيل دور "الباكي"، فأنا لست ممثلاً بارعاً مثل نجيب الريحاني في مشهد بكائه الحقيقي وهو يجلس بجوار ليلى مراد ويستمع إلي أغنية "عاشق الروح" التي غناها محمد عبد الوهاب، في فيلم "غزل البنات"، عندما رفض أن يضع في عينه بعض النقط من "الجلسرين" حتى تساعد دموعه على النزول وخلا بنفسه دقيقتين، وعندما دارت الكاميرا نزلت دموع الريحاني الحقيقية، وكان المشهد من أروع المشاهد التي سجلتها السينما، وحين سُئل كيف استطاع أن يبكي هكذا بكل بساطة، رد: "افتكرت فشلي في الحب فصعبت عليّ نفسي".

أعتقد أن الدموع التي نزلت قبل موت بهجة هي أول دموع حقيقية تنساب من عيني، تلقيت إشعاراً من فيسبوك أعادني من ذكريات التسعينيات إلي الوقت الحالي، ولكن ما زالت جملة أمي: "الراجل عيب يبكي قدام الستات"، ترن في أذني، وبات السؤال يلح في عقلي: لو لم تكن للدموع فائدة، إذن لماذا جعلها الله تسكن عيوننا؟

في بلادنا البكاء لا يفارقنا، نبكي في لحظات الحزن، وهو أمر منطقي وطبيعي، ولكن لماذا نبكي في لحظات السعادة ونطلق عليها "دموع الفرح"؟ قلت ذلك وأنا أشعل سيجارة دخّنتها للمرة الثانية بعد أن انطفأت.

بحثت في غوغل عن فائدة البكاء: يقولون إنه يغسل القلب، ويعيد إلى الذهن الصفاء، ويريح الأعصاب وتعصر الكبت والانفعالات داخل الجسم وتخرجها على هيئة دموع، بينما أمي لا تصدق علماء النفس ولا تعترف ببكاء الرجال.

أخبرتها ذات مرة: أثناء معركة "رمات راحيل"، أصيب أحد الجنود المرابطين في الخنادق في يده، ونظر الجندي ليده المجروحة وأجهش بالبكاء، وكان البطل أحمد عبد العزيز بنفسه في الخندق، وأشفق الشاويش أن يبكي أحد الجنود أمام القائد العام للقطاع، فنهر الجندي الجريح ونعته بأنه "امرأة"، وثار أحمد عبد العزيز على الشاويش واقترب من الجندي وربت على كتفيه وقال له: "ابك يا بني... إن الشجعان يبكون أحياناً"، ودخل الجندي في نوبة بكاء عنيفة، وبعد عشر دقائق كان يجفّف دموعه ويربط يده الجريحة بمنديل من جيبه، ثم يندفع مع زملائه في هجومهم على استحكامات "رمات راحيل".

لا تعترف أمي أن الدموع غيّرت مجرى التاريخ، فسردت لها قصة عبد الخالق باشا ثروت الذي صنع ما صنع الحداد بـسعد باشا زغلول والوفد، ووصلت الخلافات السياسية بينهما إلى ذروتها، وعجزت كل محاولات الصلح بينهما، وبعد أن هدأت العاصفة ذهب ثروت باشا إلى سعد زغلول ليقابله في بيت الأمة، ووقف على عتبة مكتبه، وقبل أن يتصافحا نظر سعد إلى عيني ثروت فوجد الدموع تسيل منها، ونهض سعد زغلول من مكانه وتعانق الرجلان واختلطت دموعهما ثم كان الائتلاف، ونجحت الدموع أن تنهي كل الخلافات التي فشلت فيها المساعي والاجتماعات والمباحثات، وبعد أن انتهيت من سرد تلك الحكايات، نظرت لي أمي بعين نصف مفتوحة، ففهمت من مغزاها أنها لا تصدّق حرفاً مما قلته، وما هي إلا حكايات من نسج خيالي ولا تمت للواقع بصلة، فنهضت من جوارها قبل أن تتهمني بتزوير التاريخ.

ربما تحرمني أمي من الميراث عندما تعرف أن دموعي تسقط عند كل هزيمة يتلقاها الزمالك بعد "تحفيل" مشجّعي الأهلي عليه، ولكن حان الوقت لأمي أن تعرف أنها لو تركتني أبكي على جدتي "بهجة" لما سقطت كل هذه الدموع على الأرض

كنت أنتهز كل فرصة لأحكي لها قصة تتعلق بمن سجّل التاريخ بكاءهم في محاولة مني لتغيير قناعتها والتخلي عن ربط البكاء بالرجولة، لأستطيع البكاء أمامها بحرية. سألتني ذات مرة عن كتاب في يدي فأخبرتها: أنه عن "تشرشل"، بينما هو رواية "الرابح يبقى وحيداً" للروائي البرازيلي باولو كويلو، ولا علاقة له بـتشرشل من قريب أو بعيد، ولكن استغليت اسمه لكي أنتهز الفرصة وأسرد لها واقعة حدثت في مطلع نوفمبر 1944، عندما كان يركب بجوار الجنرال ديجول، وسارت بهما السيارة في طريق الشانزليزيه بباريس، بين حشد من الجمهور ليس له مثيل، وقال حينها تشرشل: "ما إن اقتربت السيارة من قوس النصر ودوت في أذني الهتافات، وأحسست في أعماقي أننا حققنا الحلم الكبير وخلصنا باريس من طغيان النازي، حتى وجدت الدموع تنهمر علي خدي". كان غرضي من تلك القصة قول إن القادة يبكون أيضاً.

ومرت الأيام ومازالت أمي تقف عند رأيها، وترى في بكائي أنا وتشرشل عيباً، وتقول إن الرجل لو استدعاه ما يبكيه عليه أن يحبس دموعه، حتى يبقى وحيداً ويقذفها دفعة واحدة دون أن يراه أحد، وكل ما يشغل تفكيري الآن كيف سأواجه أمي عندما يخبرها أحدهم بما كتبته في هذا المقال، وتعرف أنني ما زلت لا أتحكم في دموعي حتى بعد أن كبرت، ولا أعرف كيف أخفيها، وتبكيني تلك المتسوّلة التي تقف على باب المسجد بعد صلاة الجمعة، تستعطف المصليين وهي تكرّر جملة: "حاجة لله"، ويقطع قلبي بكاء الأطفال، وقبل عدة أسابيع فتحت باب المصيدة وأطلقت سراح فأر صغير كان ينتظر القتل على يد شقيقي الأصغر.

وربما تحرمني أمي من الميراث عندما تعرف أن دموعي تسقط عند كل هزيمة يتلقاها الزمالك بعد "تحفيل" مشجعي غريمه الأهلي على صفحات السوشيال ميديا، ولكن حان الوقت لأمي أن تعرف أنها لو تركتني أبكي على "بهجة" لما سقطت كل هذه الدموع على الأرض.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

تنوّع منطقتنا مُدهش

لا ريب في أنّ التعددية الدينية والإثنية والجغرافية في منطقتنا العربية، والغرائب التي تكتنفها، قد أضفت عليها رومانسيةً مغريةً، مع ما يصاحبها من موجات "الاستشراق" والافتتان الغربي.

للأسف، قد سلبنا التطرف الديني والشقاق الأهلي رويداً رويداً، هذه الميزة، وأمسى تعدّدنا نقمةً. لكنّنا في رصيف22، نأمل أن نكون منبراً لكلّ المختلفين/ ات والخارجين/ ات عن القواعد السائدة.

Website by WhiteBeard
Popup Image