شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
عندما وجدت ضالتي في الأطباء النفسيين

عندما وجدت ضالتي في الأطباء النفسيين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والفئات المهمشة

الاثنين 18 سبتمبر 202310:57 ص

على مدار سنوات، كانت زياراتي للأطباء النفسيين تتواصل أحياناً وتنقطع أحياناً، لكنها تبقى مستمرة، وتبقى مضادات الاكتئاب ومثبتات المزاج والمنومات على الكومودينو المجاور للسرير، ورغم تعدّد الزيارات، لم أحب عيادات الأطباء النفسيين.

كانت الإضاءات البيضاء الكاشفة تمنعني من الغوص في داخل نفسي، خاصة أنني بحاجة إلى التركيز الشديد لجمع أكبر قدر من المعلومات والمشاعر والأفكار التي أرغب في عرضها على طبيبي، لذا أكون بحاجة إلى الدخول في حالة من التداعي الواعي.

في إحدى العيادات، كان المرضى متجاورين على مقاعد الانتظار، يحملقون في شاشة التلفزيون المعلقة وكأنهم يرغبون في الابتعاد عن أنفسهم. حتى المقاعد المتجاورة تجعل المرضى أشبه بنمط متكرّر، مع عيون منهكة وملامح لا تخفي حزنها.

في واحدة من زياراتي لطبيب نفسي، كانت أرضية العيادة عبارة عن بلاطات سيراميك بالأبيض والأسود تشبه الشطرنج، والجدران كانت صفراء وسكرتيرة الطبيب كانت تتحدّث في الهاتف طوال مدة الانتظار، والإعلانات لم تتوقف في التلفاز، أما الطبيب نفسه فقد تثاءب أثناء انهماكي في الحديث معه، وعندما لفت نظره لتثاؤبه، أخبرني أنه محترف جداً فيجب ألا أقلق من تثاؤبه، ولكن ما حدث بالفعل أنني شعرت أنه غير مهتم بكلمة واحدة مما أقول، ولم أكرّر الزيارة.

في واحدة من زياراتي لطبيب نفسي، كانت سكرتيرته تتحدّث في الهاتف طوال مدة الانتظار، والإعلانات لم تتوقف في التلفاز، أما الطبيب نفسه فقد تثاءب أثناء انهماكي في الحديث معه، وعندما لفت نظره لتثاؤبه، أخبرني أنه محترف جداً فيجب ألا أقلق من تثاؤبه

الطبيب الأب

مرة أخرى، أوصتني صديقات بطبيب يتابعن معه، و أقسمن أنهن أصبحن أفضل مع جلساته، أقبلت على التجربة بقوة نتيجة التوصيات المتعدّدة، لكن زيارتي الأولى لم تكن مبشّرة، كانت عيادته شديدة العادية، تشبه عيادة أطباء الباطنة والنساء والتوليد، لا شيء غير عادي، وأنا أفكر دائماً أن الطبيب النفسي شخص غير عادي، يهتم بالتفاصيل ويعرف تأثيرها الكبير على الأشخاص، سواء اختيار الأثاث أو ألوان الجدران والأرضيات.

لم أجد تفاصيل خاصة تشير إلى أي نوع من الأطباء هو، وعندما جاء دوري وأصبحت في مواجهته، لم أشعر أنني قادرة على الاسترسال. غرفته ضيقة وهو يتحدث بأبوّة مفرطة. ليست تلك الأبوّة الطيبة، ولكنها أبوة حاسمة واثقة، يبدو أنها سبب تفضيل صديقاتي له، لكنها كانت أيضاً سبب عدم استمراري معه.

أصرّ على ضمّي إلى جروب للعلاج الجماعي، وأنا لا أحب العلاج الجماعي وغير قادرة على الاستماع إلى آلام الآخرين، منغمسة تماماً داخل نفسي، لكنني طاوعته وقلت لا بأس من التجربة.

استمر العلاج الجماعي لشهور، لكنني لم ألمس تحسّناً، وأصبحت الجلسات عبئاً كبيراً علي، يضطرني للاستماع إلى مشكلات الأخريات، كما أنني لم أستطع الاسترسال دائماً في الحديث، لأن هناك أخريات يجب أن يتحدثن، ورغم تشابه وتقاطع مشكلاتنا إلا أن العلاج الجماعي لم يكن مناسباً ولا مريحاً لي، فانقطعت عنه دون رجعة.

عندما وجدت ضالتي

في إحدى نوبات حزني، أوصاني صديقي المقرب بطبيب اعتقد أنه مناسب لي، وأخبرني أنه يتابعه على فيسبوك، يعرفه إلى حد ما ويثق به كطبيب. قلت لما لا؟ تابعت الطبيب الشهير على السوشيال ميديا، وبالفعل كان ما يكتبه مؤثراً بقوة، ليست مجرد بوستات على فيسبوك بلغة بسيطة، ولكنها فقرات يمكن جمعها لعمل كتاب حقيقي يساعد المرضى النفسيين في استكشاف أنفسهم، وفي فهم معنى المرض النفسي، وكيف ولماذا يحدث.

بمجرد دخولي عيادته شعرت أنني في حضرة الفن، لوحات معلقة على الجدران، كتب من أنواع مختلفة متراصة داخل المكتبة، منضدة من الموزاييك الرخامي بزهور متداخلة بألوان لم أستطع أن أرفع عيني عنها من شدة جمالها، أجواء فنية واضحة بقوة في كل تفصيلة صغرت أو عظمت. ليس هذا فقط، لكن موعد دخولي إلى غرفة الكشف كان منضبطاً تماماً.

كان الطبيب مرحِّباً ولطيفاً كمن يقابل صديقاً قديماً، لم أشعر أنها المرة الأولى التي أراه فيها، ولم أشعر أمامه أنني حالة مرضية يحاول انتزاع الكلام منها، بل شعرت بألفة شديدة، وعندما قال: "أحكي لي"، انفتحت في بكاء شديد وعنيف ولم يقاطعني، ثم استرسلت في حكي من هنا وهناك وهو يدوّن ورائي ما يعتقده مهماً، تمنيت أن تطول الجلسة ولا تنتهي، لأنه أدرك التفاصيل الصغيرة التي تدور في رأسي و تدفعني للجنون طوال الوقت، أدركها وقدّر أهميتها بالنسبة لي، ولم يتعامل بتعالٍ أو سخرية أو حتى يقين، لكنه كان شديد الإنسانية، وهو ما افتقدته في كل الأطباء قبله، حتى طبيب الذئبة الحمراء لم يتعامل معي بإنسانية وهو يبلغني بمرضي المزمن الذي لن يشفى.

الإنسانية هي جوهر الطب بالنسبة لي حتى لو خالفني الجميع، خاصة الطب النفسي، نحن نذهب بكامل إرادتنا لنفشي أسرارنا وماضينا، ونقول للطبيب: هاهي ذواتنا أمامك، افعل بها ما شئت، هذا هو جانبنا الضعيف أو القاسي أو الشرير، أرجوك تعامل معه برفق ورحمة. نذهب للطبيب النفسي، في مجتمعاتنا المصرية والعربية، غالباً في السرّ، دون دعم من أحد، عندما لا نتحمل أنفسنا وتصبح حياتنا عبئاً علينا، ونكون بحاجة إلى من يخبرنا أننا سنكون بخير، لكن بطريقته الخاصة. بعد جلستي الأولى معه، شعرت أنني في انتظار الجلسة الثانية قبل أن أغادر العيادة أصلاً، وبعد الجلسة الثانية لمست التحسّن داخلي.

الإنسانية هي جوهر الطب بالنسبة لي حتى لو خالفني الجميع، خاصة الطب النفسي، نحن نذهب بكامل إرادتنا لنفشي أسرارنا وماضينا، ونقول للطبيب: هاهي ذواتنا أمامك، افعلْ بها ما شئت، هذا هو جانبنا الضعيف أو القاسي أو الشرير، أرجوك تعامل معه برفق ورحمة

هناك أطباء يرفضون شرح المرض أو التشخيص لأسباب تخصّهم، لكنه لم يفعل ذلك. حدثني عن نفسي بحب وصدق، وعرّفني ما أجهله عنها وكيف يجب أن أعاملها ولماذا ينبغي أن أترفّق بنفسي، حتى أنني بدأت أتنفّس بعد أن كان الشعور بالذنب يغمرني والرغبة في الاختفاء تحاصرني.

استمرّت الجلسات فترة، ثم توقفت بعد ان أصيب طبيبي العزيز بكورونا ثم سافر خارج مصر ولم نلتق لسنتين، قرّر هو فيهما أن يتوقف عن الجلسات العلاجية الفردية لأسباب تخصّه. احترمت إرادته تماماً، رغم افتقادي لجلسات العلاج معه ورغم افتقادي لطبيب مثله، ينظر للجميع بإنسانية ويحترم فرادة كل شخص وحكايته دون أحكام، لكنني في النهاية، وبعدما لم أجد طبيباً مثله، استأذنته أن أزوره في عيادته، و رحّب رغم إعلانه الواضح أنه لم يعد يرغب في العمل العيادي الفردي، وكانت الزيارة مثل كل زياراتي له، مؤنسة ومؤثرة في نفسي وقادرة على إبقائي في حالة جيدة لأيام بعدها.

أخبرت صديقي المقرّب الذي رشحه لي أن من هم مثل هذا الطبيب قلة في الحياة، فهو ليس مجرّد طبيب نفسي، لكنه عالم نفس حقيقي، يتعامل مع مرضاه بإنسانية وعلم قل ما يجتمعان معاً، ورغم أنني أفتقد جلساتي معه إلا أنني أتمنى له حياة هادئة وجميلة كما يتمنى.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image