يترقب التونسيون مصير الإثني عشرة شخصية تونسية الصادرة في حقهم بطاقات جلب دولية بأمر قضائي وتهم خطيرة تصل عقوبتها حدّ الإعدام، وسط تشاؤم كبير من أن تلقى مثل هذه القضايا المعقدة تجاوباً دولياً نظرا للتجربة التونسية السابقة في مثل هكذا قضايا، وقد سبق لسلطات دول أن رفضت الاستجابة فيما مضى لطلب تسليم شخصيات سياسية طالتها اتهامات بالتآمر على الدولة.
امتحان صعب
تتسع دائرة التحقيقات بملف قضية التآمر على أمن الدولة مع إصدار القضاء التونسي بطاقات جلب (مذكرات توقيف) دولية بحق 12 شخصية بارزة بينهم مسؤولون سابقون رفيعو المستوى، يوجدون خارج تونس.
وقد أثارت الخطوة التي قام بها قاضي التحقيق الأول بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب التخمينات بين من ثمّن هذه الخطوة واعتبرها تكريساً لدعوة الرئيس قيس سعيد للقضاء للقيام بدوره وبداية تعافي السلطة القضائية. مقابل من اعتبرها حرباً على الخصوم السياسيين والمعارضة خصوصاً وأن بطاقات دولية قد أُصدرت سابقاً في حق الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وعائلته وأيضا الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي، دون حصول أي استجابة دولية.
كما أثار قرار قاضي التحقيق سيلاً من التساؤلات حول توقيت إصدار تعليماته في وقت غادرت فيه الشخصيات المطلوبة التراب التونسي، فهل سبق لتونس أن تلقت استجابة دولية في هذا الخصوص وتسلمت سياسياً مطلوبا صدرت في حقه مذكرة توقيف دولية؟ وهل فقد القضاء التونسي مصداقيته في نظر السلطات الأجنبية التي لم تبد معها أي تعامل سابقاً في مثل هكذا قضايا؟ وهل تستعمل مذكرات التوقيف حقاً في إطار حملة مكافحة الفساد التي دعا إليها الرئيس التونسي أم أن أغراضاً سياسية مبيّتة تنطوي في ثناياها؟
تتسع دائرة التحقيقات بملف قضية التآمر على أمن الدولة مع إصدار القضاء التونسي بطاقات جلب (توقيف) دولية بحق 12 شخصية بارزة بينهم مسؤولون سابقون رفيعو المستوى
تضع الأسئلة المذكورة القضاء التونسي في امتحان صعب إذا لم يفلح هذه المرة في تسلّم المطلوبين وهم كل من رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد، ومديرة الديوان الرئاسي سابقا نادية عكاشة، والوزير الأسبق والقيادي في حركة النهضة لطفي زيتون، وكل من ماهر زيد ومعاذ الخريجي وكمال القيزاني ومصطفى خذر وعبد القادر فرحات وعادل الدعداع وشهرزاد عكاشة وعلي الحليوي ورفيق يحي.
ويجرّ تسلسل الأحداث في تونس إلى العودة إلى خطاب الرئيس قيس سعيد في أبريل/ نيسان الماضي عندما أكد، وفق رؤيته، أن "تونس تخوض حرب تحرير وطني ضد من يسعون لضرب الدولة ومؤسساتها"، ودعا حينذاك القضاء إلى أن يقوم بــ "دوره في هذه المرحلة التي تمرّ بها تونس، وأن يكون على موعد مع التاريخ".
يرى المحلل السياسي محمد ذويب، في حديث لرصيف22، أن ما يحدث اليوم دليل على بداية تعافي القضاء من التهم المنسوبة له وتحرره من جلباب الانحياز السياسي، معتبراً أنه من حقّ التونسيين متابعة سيرورة هذه الملفات التي ستقود بالضرورة إلى فتح ملفات أخرى وازنة.
لكن رئيس جمعية القضاة التونسيين أنس الحمادي لم يرقه هذا التوجه، وعبر في تصريح لرصيف 22 عن امتعاضه من هذه القرارات التي تزامنت مع الحركة القضائية السنوية التي عرفت تغييرا على مستوى رؤسائها ومناصب مسؤوليها وهو ما عدّه محدثنا "مكافأة للموالين للسلطة الحاكمة التي تسعى لمزيد السيطرة وتكريس تدخّل السلطة في الشأن القضائي".
هل يستجيب الانتربول؟
فسّر المحامي مختار الجماعي آلية التعامل مع بطاقات مذكرات التوقيف الدولية قائلاً إنها "بطاقات جعلت أساساً لتُنفذ فكل دولة تتحققّ من تواجد أي من المتهمين المذكورين على أراضيها وهي ملزمة بمقتضى المعاهدات الدولية بالقبض على المتهم وتسليمه للسلطات التونسية".
ولفت محدث رصيف 22، أن مذكرات التوقيف التي صدرت مؤخراً لا تعدو أن تكون سوى قرارات لإلهاء الرأي العام عن قضايا أكبر ولن تتجاوز قيمتها الحبر الذي كتبت به لأن الواقع مغاير تماماً وتطبيقها يتطلب توفر جملة من الشروط المرتبطة "بمدى توفر ثقة السلطة الأجنبية في القضاء التونسي لتنفذ قرراته وهو ما يتوقف تبعاً لذلك على مدى جدية الملف والأساليب والإجراءات القانونية والواقعية المتخذة من قبل الجهات التونسية. وقد لاحظنا سابقاً أن الجهات الأمنية القضائية الدولية لم تتعامل مع النظام القانوني التونسي بجدية"، وفق رأيه.
لا تعدو أن تكون سوى قرارات لإلهاء الرأي العام عن قضايا أكبر ولن تتجاوز قيمتها الحبر الذي كتبت به لأن الواقع مغاير تماماً
من جانبه، استبعد عضو هيئة الدفاع عن المتهمين في قضية الدفاع عن أمن الدولة ورئيس جمعية الهيئة الوطنية للدفاع عن الحريات الديمقراطية العياشي الهمامي أن تستجيب منظمة الشرطة الجنائية الدولية "الإنتربول" لمذكرات التوقيف لأن "إصدار هذه البطاقات من ناحية قانونية دولية لا يتم بشكل آلي أو اعتباطي أو حتى إداري لأن الانتربول يستند في استجابته للنشرة الحمراء التي طالبت بها تونس على المعطيات الخاصة والدقيقة المتعلقة بالقضية المنظور فيها وأيضاً لمدى جدية القضاء التونسي وتعامله مع هكذا صنف من التهم الخطيرة بكل شفافية وهو ما لا ينطبق على أرض الواقع".
وأضاف أن "الرئيس التونسي سعيّد وبدل الاستثمار في الحد من الاحتقان الاجتماعي جراء غلاء المعيشة وفقدان عديد المواد الأساسية، ذهب في خيار آخر، وهو ترهيب القطاع لقضائي وتحكمه في المجلس الأعلى للقضاء وتدخله في الحركة القضائية الأخيرة وعدم احترامه للأحكام القضائية بعزله لـ 57 قاضي برّأتهم المحكمة من تهم مختلفة وهو يعتبر استغلالاً للقضاء لتحقيق سياسته الانتقامية من خصومه السياسيين وكل من يمكن أن يشكّل تهديداً حقيقياً لحكمه وذلك عبر تصفية منهجية لجميع أصوات المعارضين، حتى أولئك الذين كانوا في يوم ما مقربين منه وأسهموا بشكل فعّال في إنهاء الديمقراطية التونسية".
تصفية سياسية بأسلحة قانونية؟
وحول دلالات هذه مذكرات التوقيف الصادرة بأمر قضائي، يؤكد السياسي التونسي والقيادي في حزب التيار الديمقراطي هشام العجبوني، أن "النخبة القضائية فقدت سلطتها منذ أن ألقى الرئيس قيس سعيّد باتهاماته للمعتقلين السياسيين واعتبرهم إرهابيين ومجرمين، وهدّد القضاة على أن كل من يتجرأ على تبرير مواقفهم فهو شريك لهم".
وتابع بالقول "كل المحاكمات الحالية بغض النظر على مضمونها تعتبر سياسية بامتياز، فمن كان يصدّق أن شخصيات مثل غازي الشواشي وخيام التركي وشيماء عيسى ورضا بلحاج وجوهر مبارك وغيرهم هم إرهابيون! ما يحدث ليس سوى تمييع لقانون الإرهاب ومحاولات لرمي التهم جزافاً على ثلة من الفاعلين السياسيين غايتهم الوحيدة الاهتمام بالشأن العام ومعارضتهم لانقلاب "25 جويلية" (تموز/يوليو) ومسار رئيس الدولة العبثي".
"النخبة القضائية فقدت سلطتها منذ أن ألقى الرئيس قيس سعيّد باتهاماته للمعتقلين السياسيين واعتبرهم إرهابيين ومجرمين، وهدّد القضاة على أن كل من يتجرأ على تبرير مواقفهم فهو شريك لهم"
لفت المتحدث ذاته لرصيف 22، أن الرئيس التونسي قد أثبت "رغم الصلاحيات التي منحها لنفسه عجزه عن الإنجاز وتغيير واقع التونسيين نحو الأفضل، فاختار إسكات وتخويف كل نفس معارض ومتشبث بضرورة ضمان حياة كريمة للتونسيين".
وبالتالي يضيف المتحدث "سعى قيس سعيد من خلال حملة الاعتقالات ومساعي توظيف القضاء في كواليس السياسة إشغال الرأي العام بقضايا ما يسمّى التآمر على أمن الدولة في وقت تمر به هذه الفئة بأزمة نقص حادة للمواد المعيشية الأساسية تستوجب الوقوف على أسباب عدم توفرها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 9 ساعاتوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 10 ساعاترائع
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت