للسنة الثانية على التوالي، تخلو شوارع المسير إلى كربلاء من صوت القارئ الإسلامي الشيعي باسم الكربلائي وقصائده، بعد أن كان متربعاً على عرش القصيدة الحسينية في العراق وعند أتباع المذهب الشيعيّ بشكل عام لسنين طويلة، حتى أنه سُمّيَ بـ"سلطان المنبر الحسيني"، وكان يُعدّ أيضاً أيقونةً مرتبطةً بعاشوراء، إذ كان يتصدر قائمة أفضل الرواديد وأشهرهم عند السؤال عمّن هو "المُلّا الأفضل".
لم تكن تخلو شوارع المسير إلى كربلاء والمواكب الخدمية في شهر عاشوراء من مكبّرات الصوت التي تبُثّ قصائد الكربلائي للسائرين إلى الحسين بن عليّ بن أبي طالب، وهو الذي تربّت على صوته أجيال من أبناء المذهب الشيعي منذ العام 1986، وحتى السنوات القليلة الماضية. فما الذي حدث؟
ما القصة؟
انتقل باسم الكربلائي في السنتين الأخيرتين من قراءة القصائد كالمعتاد في محافظات كربلاء والبصرة والمجالس التي يقيمها أصحاب المواكب والتجّار، إلى قراءة القصائد في مجالس عزاء في منطقة الجادرية في العاصمة بغداد، وهي المنطقة المحببة إلى مسؤولي الدولة والوزراء للسكن فيها. وهي مجالس أقامها رجل الدين الشيعي والسياسي البارز زعيم تيار الحكمة عمار الحكيم، الأمر الذي أثار استياء عدد كبير من أبناء المذهب الشيعي تحديداً، بصرف النظر عن الشيعة الموالين للنظام وأحزابه الإسلامية ومنهم أتباع الحكيم وتياره الحكمة، خاصةً أن من حضروا في تلك المجالس هم شخصيات دينية وسياسية مثيرة للجدل ومشاركة في حكم عراق ما بعد 2003، بدءاً برئيس مجلس القضاء والرئاسات الثلاث، انتهاءً بزعماء ميليشيات مسلحة ومتهمين بالإرهاب أمثال رئيس اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية في العراق حميد الحسيني، الذي كان قد أصدر القضاء العراقي مذكرة قبض بحقه وفق المادة "4 إرهاب"، لكنه ظهر فجأةً في مجلس عزاء الحكيم، وزعيم ميليشيا عصائب أهل الحق "المصنفة منظمةً إرهابيةً" قيس الخزعلي، والقيادي السابق في الحشد الشعبي حامد الجزائري الذي تم اعتقاله بتهم فساد وهو الآخر أيضاً وظهر فجأةً في مجلس الحكيم بالإضافة إلى زعماء مجاميع تعزز جهود النظام الإيراني بتقويض السيادة العراقية، وغيرهم الكثير من الشخصيات التي حولها علامات استفهام عدّة.
"أذهب مشياً من محافظتي إلى كربلاء منذ ثلاثة عشر عاماً، في رحلة تستغرق أربعة إلى خمسة أيام أمرُّ خلالها بمحافظتين قبل أن أصل إلى مقصدي، وخلال جميع الرحلات كان صوت باسم يصدح عبر مكبرات الصوت في الشوارع ومواكب الطعام، والشراب والمبيت، وكأن صوته مرتبطٌ بالقضية التي أسير نحوها. لكن في العامين الماضي والحالي، لم يعد الأمر كذلك، ولم أعد أشعر بذاك الارتباط ولم أسمع صوت باسم خلال مسيري إلا مرةً أو اثنتين، ويكاد أن يكون منعدم الوجود"؛ يقول أمير الزبيدي (24 عاماً)، وهو أحد الشباب المشاركين في المسير إلى كربلاء من محافظة الديوانية منذ العام 2010.
ويضيف: "أعتقد أنَّ الناس تجاهلوا الرادود باسم الكربلائي بعدما ألقى قصائده في أحد الأماكن التابعة للسيد عمار الحكيم، فالسياسيون اليوم يحاولون العودة إلى الساحة والإعلام بعد فشلهم الذريع سياسياً، وبما أنَّ باسم شخصية مشهورة وله قاعدة شعبية حاولوا استغلال الأمر لجذب الناس إليهم. أما باسم فأعتقد أنه اتّجه نحو أمور مادية وسياسية، وقولي هذا يأتي من دعوته من قبل الكثير من أصحاب المجالس والحسينيات، دون أن يلبّي أي دعوة. لن يقرأ باسم في أي مكان غير الأماكن المخصصة والتي تلبي طموحاته المادية".
لا يختلف رأي فاطمة سلام (26 عاماً) من محافظة البصرة، عن رأي الزبيدي، إذ تقول لرصيف22، إنَّ "رحلتي صوب كربلاء استغرقت ثمانية أيام مررت خلالها بخمس محافظات لم أسمع خلالها مطلقاً قصائد للملا باسم الكربلائي بعكس الأعوام الماضية، حيث كنت أسير كل عام منذ أول مرةٍ في 2016، وهذا بسبب توجهاته الأخيرة برأيي، وإقامة مجالسه في أماكن تابعة لأحزاب وميليشيات ذات توجه إيراني أفسدت وقتلت وهجّرت العديد من العراقيين، لذا تراجعت قاعدته الجماهيرية وأصبح منبوذاً عند الكثير من الناس".
"رحلتي صوب كربلاء استغرقت ثمانية أيام مررت خلالها بخمس محافظات لم أسمع خلالها مطلقاً قصائد للملا باسم الكربلائي وهذا بسبب توجهاته الأخيرة برأيي، وإقامة مجالسه في أماكن تابعة لأحزاب وميليشيات أفسدت وقتلت وهجّرت العديد من العراقيين"
كان من أبرز المنتقدين له رجل الدين الشيعيّ شهيد العتّابي الذي عبّر عن رأيه في مقطع مصوّر نشره في قناته على منصة يوتيوب، قال فيه: "الطبقة السياسية التي حكمت العراق بعد سقوط النظام السابق وإلى الآن، لم نرَ منها خيراً بل العكس، لذا فإنَّ تكثير سوادها والحضور عندها في مناسبات الفرح أو الحزن لا يجوز، لأنه إقرار بأنهم على حق ودلالة على الرضا عن أفعالهم، ومن أحب قوم حُشِر معهم ومن رضي بعمل قومٍ أُشرِك في عملهم، والذي يحضر عندهم ويقتنع بهم يجب أن يُحضّر جواباً أمام الله، ولا أخص المجلس هذا بالتحديد، بل أيّ مجلس سواء كان لعمار الحكيم أو مقتدى الصدر أو أي شخصية شاركت في الحكم وأقامت مجالس الحسين".
وعلى خلفية كلام العتّابي وناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي أطلقوا وسم #باسم_دولار تعبيراً عن امتعاضهم من لحاق باسم بأموال الحكيم، شُنّت هجمة شرسة على كل من انتقد باسم الكربلائي ووصلت الهجمة إلى الطعن بالشرف، والتخوين والتهديد بالقتل.
وعن هذا يقول شهيد العتابي في حديثه إلى رصيف22: "وردتني تهديدات قوية ومستمرة من جهات كثيرة لا من جهة واحدة، معروفة هويتها واندفاعاتها وكلٌّ يجرّ النار إلى قرصه، وإن التهديدات التي ترونها على وسائل التواصل الاجتماعي هي ذاتها التهديدات التي أتلقاها من خلال الاتصالات على واتساب أو على رقم هاتفي الخاص. جهات معروفة ومسجلة لدي لكن مع ذلك لا أريد إذاعة أسمائها كي لا تكون باباً لفتنة في المجتمع".
لماذا يلجأ السياسيون إلى باسم؟
يضيف شهيد العتّابي: "لم نرَ رواديد انتقلوا إلى القراءة في مجالس برعاية جهات سياسية هذا العام، ولا خلال الذي سبقه سوى الملا باسم، ولدوافع لا أعلم ما هي صراحةً دون خوف أو مجاملة. أما دوافع السياسيين أنفسهم فهي محاولات لتبييض وجوههم وسمعتهم أمام الناس وممارسة دور الداعي إلى الدين وشريعة الله عز وجل، والدين منهم براء، في حين أنَّ الدافع الأساسي هو تخدير الشعب وإلهاؤه بهذه المجالس وغيرها عن مشكلاته الحقيقية، وخُذوا مني قسماً واجعلوه قلادةً في عنقي يسألني الله عنها يوم القيامة: لو عُرِضَت علَيّ الدنيا كلها من قبل السياسيين كي أحضر مجلساً لهم ما حضرت".
وﺩعا العتابي في حديثه إلى رصيف22، إلى أن "يكون الانسان العراقي حرّاً لا يُستعبد من أي دولة أو جهة سياسية أو حتى جهة دينية، ويعيش حرّاً في بلده عيشة الكرام، وأن يأخذ حقه الذي أعطاه الله إياه في عراق الخيرات، الخيرات التي سلبوها منه وجعلوا الناس تحت خط الفقر يحنّ إلى قرص الخبز ويئنّ".
وفي مهرجان شعريّ، وجّه شاعرٌ شاب رسالةً إلى الكربلائي من على المنصة، وهي رسالةٌ بأبياتٍ وجهها باللهجة الشعبية العراقيّة منتقداً بها فعل باسم:
"چا ليش افتحت بيبانك لحكام
بوجه الفقرة چانت بابها تسدّه؟
ما معقولة ما تعرف الجاي يصير؟
بلد كامل ترابه انترس من ولده
ما تدري المكان التقرا بي مغصوب؟
ما تدري ثوابه لبابهم حدّه؟
ما تعرف الكلمة بوجه ظالم سيف؟
ليش تحدّه سيفه وسيفك بغمده؟
عليك الفقرة فكّر مرة بالموضوع
راح الظلم يكبر لمن تسنده
إذا قابل عليه قابل على السواه
والسواه جرم ثارات متسدّه".
طرح الشاعر في أبياته تساؤلات واعتراضات عديدةً: "لماذا فتحت أبوابك لحكامٍ أُغلقت أبوابهم في وجوه الفقراء؟ ألا تعلم أنَّ المكان الذي تقرأ فيه مُغتصَب؟ ألا تعلم أنَّ كلمة الحق في وجه الظالم سيف؟". وأشار إلى أنَّ "ما فعله الحكام جرمٌ لن تأخذ بحقهِ الثارات" (جرم لا يُغتفر").
أسباب أخرى!
لم تكن القراءة عند الحكيم سبباً وحيداً وراء امتعاض الشارع الشيعيّ من باسم، بل ثمة أسباب أخرى تتمثل في إثارته النعرات الطائفية والفتن بين أفراد المجتمع العراقي، حيث تهجّم على صحابة الرسول محمد في قصيدة له ووصفهم بـ"العصابة"، ما سبّب حالةً من التراشق بالسباب والاتهامات والشتائم ملأت الفضاء الرقميّ حينها، وسببت حساسيةً كبيرةً بين الشيعة والسنّة الذين رفضوا المساس برموزهم الدينية. وعلى الرغم مما أثاره باسم من تهديد للسلم المجتمعيّ وتعدد المطالبات من جهات مسؤولة بمحاسبته، لم تقُم الحكومة العراقية بأي تحرك في الموضوع ولم تتطرق إليه بتاتاً.
سكوتٌ مريب في وقتٍ تدّعي فيه الحكومة العراقية ممثلةً في وزارة الداخلية محاربة "المحتوى الهابط" على حد وصفها بعد إطلاقها منصة "بلّغ"، وبالإضافة إلى ذلك أصبحت قصائد باسم تميل إلى الرد على الانتقادات والقضايا الشخصية منحرفةً بذلك عن الحديث عن قضية الحسين، حيث يلطم المعزّون (ضرب الجسد تعبيراً عن الحزن) على كلمات لا علاقة لها بالحزن ولا القضية الحسينية!
"دعي باسم الكربلائي من قبل الكثير من أصحاب المجالس والحسينيات، دون أن يلبّي أي دعوة. لن يقرأ باسم في أي مكان غير الأماكن المخصصة والتي تلبي طموحاته المادية"
يقول الزبيدي: "على الرغم من أنني كنت أحب صوت باسم سابقاً وما زلت كونه صوتاً شجيّاً ومميزاً ويؤدي أطواراً مميزةً في القصيدة، إلا أن شخصه ودوره على المستوى الاجتماعي والوطني ضعيفان جداً، فمثلاً لم يشارك في دعم وطنيّ معنوي خلال احتجاجات تشرين في الساحات والإعلام، ولم ينصر العراق في أي معركة إعلامية أو غيرها، بل فعل العكس تماماً عندما أثار الفتن بين السنّة والشيعة بكلمات مسيئة إلى الصحابة لا يرضاها الله ورسوله ولا أهل البيت أنفسهم".
ويختم حديثه قائلاً: "قام باسم بالرد على المرجع الدينيّ محمد اليعقوبي عندما أفتى بحرمة ذهاب النساء إلى الزيارة أو في قضية التطبير، لكن هذا الأمر متروك للمرجع وعلى ذمته ولا يحق للرادود الرد على مرجع دينيّ، فكلٌّ يردّ على ندّه؛ الرادود يرد على الرادود لأنه من وزنه والمرجع يرد على المرجع للسبب عينه".
ثمة سبب آخر يتعلق بتضخم أموال الكربلائي، الذي يمتلك أكثر من متجر للألبسة، والأكسسوارات والعطور الإسلامية التي تحمل علامته التجارية (BK)، تتوزع بين إيران، أمريكا، لبنان، البحرين، عُمان، والكويت، وله متجران في العراق ومتجران في المملكة المتحدة، بالإضافة إلى استعداده لإطلاق قناة فضائية (BK TV).
تقول فاطمة سلام: "كنت أتوقع سابقاً أنَّ مجالسه خالصة للإمام الحسين (ع)، بعيداً عن المتاجرة والتوجهات السياسية، لكن الآن أصف صوته بأنه مأجور لدى السياسيين ويستخدمه لتصفية حسابات شخصية، وهدفه أصبح مادياً ولا تفسير غير هذا، فالشهرة تجلب المال ودليل هذا المؤسسات التي تحمل 'براند' خاصاً به في دول عديدة. أصابه هذا بالغرور فلم يفكّر في قاعدته الشعبية على الأقل".
هكذا انتقل سلطان المنبر الحسيني من كربلاء إلى الجادرية، ومن باسم كربلائي إلى باسم دولار، ولم يبقَ على القدسية التي كان عليها لسنوات طوال، فالسياسة تُذهب القدسية، والطائفية تُذهبها، وكذلك الاغترار بالشهرة. حب المال والابتعاد عن الشعب يذهبانها أيضاً، وليس الزمن هو من يحدد وَقع الإنسان على مجتمعه، بل مواقفه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع