يحيي الشيعة سنوياً وفي جميع أنحاء العالم، ذكرى يوم الأربعين بعد مقتل الإمام الحسين بن علي، الذي قُتل في اليوم العاشر من شهر محرم سنة 61 للهجرة، الموافق لـ12 تشرين الأول/أكتوبر 680م، ويقيمون مراسم عزاء حاشدة ومختلفة لإحياء الذكرى التي قتل فيها أيضاً أصحاب الحسين وأهل بيته، تلك المراسم التي تبدأ اعتباراً من أول يوم محرم حتى آخر يوم في شهر صفر من كل عام. لكن مسيرة "الأربعين الحسينية" التي تعتبر إحدى هذه المراسم، وتتزامن مع يوم 20 من شهر صفر، اشتهرت في الآونة الأخيرة أكثر من السابق.
يشارك سنوياً في مسيرة الأربعين الحسينية الملايين من الزوار الشيعة، من إيران والهند وأفغانستان وباكستان والدول الخليجية، ومن جميع أنحاء العالم، إذ يفضلون أغلبهم أن يأتوا مشياً على الأقدام من بيوتهم أو مدنهم وصولاًً إلى مدينة كربلاء حيث يقع قبر الإمام الحسين. وفي هذا العام حضر أكثر من 14 مليون زائر حسب ما صرح به محافظ كربلاء نصيف الخطابي، شكل معضمهم الإيرانيون.
تقول الروايات الشيعية إن أسرة الحسين زارت قبره في مثل هذا اليوم، وهم في طريق عودتهم من الشام، حيث كانت النساء سبايا والآخرون كانوا مكبلين لدى جيش يزيد بن معاوية
ويواجه هؤلاء الزوار في طريقهم، مضايف عراقية تحت مسمى "المواكب الحسينية"، التي تقدم لهم كل أنواع الطعام والفواكه والملابس، وحتى الخدمات الغريبة، منها: التدليك والاستحمام وغسيل الملابس وغيرها، باسم "الخدمة الحسينية" أو "خدمة زوار الحسين".
لكن بحسب قراءة البعض فإن مشاركة الإيرانيين في أربعينية هذا العام أخذت طابعاً سياسياً أكثر مما يكون دينياً، حيث إن أغلب الذين شاركوا في تلك المراسم في السنوات السابقة لم يشاركوا هذا العام، متأثرين بالأوضاع الاقتصادية المتدنية في إيران، وكذلك الأحداث السياسية مثل احتجاجات "المرأة، الحياة، الحرية" التي اندلعت إثر وفاة الشابة مهسا أميني والكثيرين من المحتجات/ين، خلال تلك الفترة.
لماذا الأربعين الحسينية؟
سؤال دائماً يراود الكثير؛ لماذا الشيعة يقدسون الأربعين الحسينية لهذه الدرجة؟ ويهتمون بالمسيرة والنذورات ومراسيم الحداد والعزاء؟ الجواب نجده في الروايات الشيعية التي تقول إن أسرة الحسين زارت قبره في مثل هذا اليوم، وهم في طريق عودتهم من الشام، حيث كانت النساء منهم سبايا والآخرون مكبلين لدى جيش يزيد بن معاوية.
وهناك رواية أخرى تفيد بأن جابر بن عبد الله الأنصاري صحابي النبي محمد، وصل كربلاء وزار قبر الحسين في هذا اليوم، ويعتبر جابر الأنصاري الأول من بين الصحابة الذين بايعوا النبي في بيعة العقبة الثانية، كما يعتبر من الحفّاظ ومكثري الحديث، ومن رواياته المعروفة "حديث اللوح" الذي ذكر فيه الرسولُ أسماء أئمة الشيعة.
قد يكون هذان الدليلين الرئيسَين في تقديس هذا اليوم لدى الشيعة. إلى جانب أنه اليوم الأربعين لذكرى استشهاد الحسين، حيث يعرف عند الشيعة وبعض العامة بأن مرور 40 يوماً على وفاة أي شخص يكون بمثابة خاتمة لأيام العزاء والحزن.
الدين والسياسة
تكمن وراء هذه المسيرة المليونية أهداف سياسية ودينية عديدة، في أنظمة البلدان الشيعية، وعلى وجه الخصوص إيران، التي تدعي بأن الثورة الحسينية وتلك القضية هي أساس نهجها الفكري وتحمل مقتدية بها دلالاتِ المقاومة والنضال والصمود. فقد قال مؤسس الجمهورية الإسلامية روح الله الخميني من قبل إن "محرم وصفر هما اللذان قد حفظا الإسلام"، أي إن فكرة إحياء العزاء من أجل الحسين في هذين الشهرين هي من أعمدة صيانة الإسلام واستمراره.
ومن هذا المنطلق، تحشد إيران وتشجع على الحضور الملفت في مسيرة الأربعين الحسينية، وتغطي كل ماكيناتها الإعلامية والحكومية والمؤسساتية أحداثَ هذه الأيام بشكل واسع، عبر تقديم إحصائيات عن عدد الزوار المشاركين والتقارير الميدانية من الطقوس، فهي تعتبر زيادة هذا العدد بمثابة نجاح وتأييد مبادئها الدينية وثورتها الشعبية وحكومتها الإسلامية، التي باتت تتآكل بشكل واسع من الداخل في الآونة الأخيرة بعد أن ظل الإيرانيون يشهرون في تصرفاتهم ومعتقداتهم بالخروج عن الدين والتمسك بالحريات الديمقراطية.
وتأتي تصريحات المسؤولين الإيرانيين على أن هذا الحضور الغفير والمليوني في المسيرة الأربعينية، يفشل خطط ومؤامرات العدو ضد الإسلام والحكومة الإسلامية، إذ ينظرون إلى هؤلاء "المشاية" (الزوار الذين يمشون سيراً على الأقدام إلى كربلاء) كمؤيدين للحكم الإسلامي، وفي الوقت نفسه يبذلون كل ما بوسعهم ليجعلوا من المسيرة أيقونة للمدّ الشيعي، كما أنهم يضعون حداً لمن يرفض هذه الطقوس.
الاقتصاد والأربعين
لإيران أهداف أخرى غير السياسة والدين من تلك المسيرة، فصحيح أنها تدعي تهيئة الأرضية للزيارة في هذه الأيام بشكل مجاني أو بأقل التكاليف، لكن من غير الممكن ألا يكون لها أي مصالح ومكاسب مالية وتجارية واقتصادية، وبحسب الإحصائيات أنفقت إيران خلال العام الجاري أكثر من 560 مليون دولار أمريكي، في شتى المجالات لإقامة مراسيم الأربعين الحسينية.
ولطالما شددت طهران على أن كل ما تنفقه لحب الحسين وللاهتمام برفع مستوى خدمات زواره، من البديهي أن الفصائل العراقة الموالية لإيران تعتبر من أكبر شركائها في المنطقة، حيث أنهم يشكلون محوراً شيعياً لديه نفوذ ليس بالعسكري فحسب وإنما في مختلف المجالات الصناعية والتنموية، ناهيك عن إن العراق مرتبط جداً بالمنتجات الإيرانية ويستورد بشكل كبير.
فالعام الماضي وحده فحسب، بلغت صادرات إيران إلى العراق أكثر من 10 مليارات دولار، وهو ما يعتبر مستوى جديداً وغير مسبوق ورقماً قياسياً في صادرات إيران لهذا البلد، التي تشمل صادرات منتجات عديدة كاللحوم والخضروات والفواكه والألبان والمواد الغذائية الأخرى، والملابس، حيث تصل هذه التبادلات التجارية في شهري محرم وصفر من كل عام إلى ذروتها.
كما أن إيران تعمل في مجالات البنية التحتية والتنمية في العراق بشكل واسع منذ زمن، وأن الشركات الإنشائية الإيرانية تهمين في شتى أرجاء العراق، بمشاريعها التي لا تعد ولا تحصى. ومن بين هذه العمليات الإنشائية، هناك مشاريع بناء من المضايف والمستوصفات والأماكن الخدمية، على طول طريق المسيرة الأربعينية التي تمتد من الحدود الإيرانية العراقية حتى مدينتي النجف وكربلاء، إذ تعود هذه المشاريع إلى جانب الصادرات، بأرباح طائلة على الاقتصاد الإيراني.
خدمة غير مناسبة وحوادث
لا تخلو هذه المسيرة التي يمشيها الملايين براً وجواً من الحوادث والنوبات الصحية الناتجة عن الاكتظاظ الخانق خصوصاً في موسم الصيف والطقس الحار، وكذلك عدم وجود أرضية مناسبة لاستقبال هذا الكم الهائل من الزوار، فكثير منهم يواجهون متاعب صحية مختلفة، دون وجود مراكز طبية أو طوارئ كافية لمعالجتهم أو حتى رفع مستوى التأهب على طول الطريق، فبعض القادمين أو المشاية يفقدون حياتهم جراء نقصان تلك الخدمات.
هناك مواطنون كثر ممن يدعمون احتجاجات "المراة، الحياة، الحرية"، التي حدثت العام المنصرم في إيران، يحثون على عدم الانضمام إلى هذه المسيرة، مطالبين بدماء الشباب والأطفال الذين قتلوا على يد القوات الإيرانية، خلال أحداث تلك الاحتجاجات
كما أن سوء التنسيق أو عدمه طوال المسيرة يتسبب بحوادث كثيرة، حيث أن 19 شخصاً لقوا مصرعهم في حادث سير بين حافلتين صغيريتن، وكان 14 من هؤلاء الموتى يحملون الجنسية الإيرانية.
تجاذبات الأربعين بين الإيرانيين المحتجين والمسؤولين
إزدياد عدد الزوار، هو المحور الأساسي الذي يؤكد المسؤولون الإيرانيون عليه دائماً، ففي أي بيان أو تصريح لمسؤول قد تتضمن هذا الموضوع، فمثلاً قائد الشرطة الإيرانية أحمد رضا رادان أعلن عن تزايد نسبة حضور الإيرانيين خلال هذا العام في مسيرة الأربعين، حيث وصل عدد الزوار العابرين من الحدود الإيرانية العراقية إلى 4 ملايين شخص.
وفي المقابل هناك مواطنون كثر ممن يدعمون احتجاجات "المراة، الحياة، الحرية"، التي حدثت العام المنصرم في إيران، يحثون على عدم الانضمام إلى هذه المسيرة، مطالبين بدماء الشباب والأطفال الذين قتلوا على يد القوات الإيرانية، خلال أحداث تلك الاحتجاجات.
بين البعد الجيوسياسي والديني، ترفع إيران شعار نهج المقاومة الحسينية، شعار ربما ليس عقائدياً بحتاً بل يحمل وراءه دوافع ومصالح مالية واقتصادية جمة عبر إقامة هذه الشعائر الحسينية، فكل ما يهيئه صاحب الموكب العراقي من طعام وشراب وملابس ومستلزمات أساسية خلال أيام المسيرة، إنه منتج إيراني، وهذا ما تبحث عنه طهران في منطقة نفوذها الديني من تحقيق مصالح اقتصادية بعد أن حققت المنافع السياسية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه