برغم هجرتها وزوجها من العراق قبل نحو ثلاثين عاماً، دأبت أم حسين (53 عاماً) على المشاركة في زيارة الأربعين في كربلاء.
السنوات الخمس الفائتة منعتها ظروف عملها وتقييد السفر بفعل جائحة كورونا من تأدية هذا الطقس الديني الهام لدى الشيعة. لكن الفرصة أتيحت إليها مرة أخرى هذه السنة، فكانت رحلتها الطويلة الشاقة من الدنمارك إلى السويد، ثم ترانزيت في مصر ومنها إلى العراق حيث سارت يومين متواصلين حتى بلغت ضريح الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، ثالث أئمة الشيعة.
تخبر أم حسين رصيف22 بأن أولادها "يبكون حزناً" لعدم استطاعتهم المشاركة في الزيارة هذه السنة لارتباطات العمل والتعليم. أما زوجها، فسبقها إلى العراق قبل نحو شهرٍ ليعيش الأجواء كاملةً.
التحقت بأم حسين في الرحلة من القاهرة، شابة هولندية متزوجة من عراقي أسلمت حديثاً اتجهت لزيارة الأربعين للمرة الأولى وبمفردها. وخلال المسير في كربلاء، تعرفت إلى أشخاص جاؤوا من كندا وأمريكا وبريطانيا ودول أخرى "حباً في الحسين".
تلقت معدة التقرير دعوة من هيئة الإعلام والاتصالات العراقية لحضور الزيارة الأربعينية ضمن وفد من الصحافيين/ات والمؤثرين/ات العرب/العربيات، لمواكبة الاهتمام الشعبي والحكومي بزائري/ات الحسين. خلال الرحلة من القاهرة للعراق، تعرّفنا على أم حسين التي تحدثت عن شغفها بالزيارة التي تقول إنها في كل مرة تحضرها تشعر بـ"مشاعر أقوى وروحانيات أكثر من الزيارة السابقة لها".
وعلى نفس الرحلة، قابلنا الشابة العراقية مريم (23 عاماً) التي جاءت من بريطانيا حيث تقيم وتدرس لأجل الزيارة رفقة والدتها ميسون المقيمة في السويد. تقول مريم لرصيف22 إن الزيارة بالنسبة لها حدث عظيم يجعلها تفيض بالروحانيات و"مشاعر الفخر بكونها مسلمة". وتضيف أنها تنتظر هذا الحدث كل عام وتعتبر نفسها من المحظوظين/ات بأن "الحسين دعاها" لزيارته.
تقول مريم لرصيف22 إن الزيارة بالنسبة لها حدث عظيم يجعلها تفيض بالروحانيات و"مشاعر الفخر بكونها مسلمة".
ما هي زيارة الأربعين؟
في العاشر من محرم عام 61 هجرياً (680 ميلادياً) قُتِلَ الحسين - وعدد كبير من أهله وأصحابه - ومُثِّلَ بجثته على أيدي جيش الخليفة الأموي الثاني، يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، في واقعة الطفّ بمدينة كربلاء التي قصدها استجابةً لدعوات من العراقيين. وسُبيت النساء والأطفال من عائلته.
في ذكرى الأربعين لوفاته، يوم 20 من شهر صفر (وافق هذا العام الأربعاء 6 أيلول/ سبتمبر 2023)، وفق الرواية الشيعية السائدة، وقفت عائلة الحسين العائدة من الأسر عند قبره الذي دفن فيه، وهو موقع العتبة الحسينية الآن، وأعادت جمع رأسه المقطوع بجسده في اليوم الأربعين لمقتله.
وفي ذكرى الأربعين من كل عام، تنطلق حشود شيعية سيراً على الأقدام، أحياناً قبل عشرين يوماً من المناسبة (القادمون من جنوب العراق ويسيرون أكثر من 500 كم)، فيما يتوافد آلاف الزائرين من إيران (أحياناً سيراً على الأقدام قبل شهر من الذكرى)، وعادةً ما يسير القادمون من خارج العراق أو من محافظات قريبة لكربلاء أسبوعاً أو يومين متواصلين (يسيرون نحو 90 كم أو أقل).
وهذا المسير يأتي تضامناً مع آل بيت الحسين ومحنتهم وما تعرضوا له، وحباً وتقديراً للإمام وقديراً "لاستشهاده" دفاعاً عن الحق، كما يؤمن الشيعة. والمسير ركن أساسي من الزيارة لذا تُعرف اختصاراً بـ"مسيرة الأربعين المليونية" و"المشَّاية". البعض يسير حافياً إمعاناً في الشعور بنكبة آل البيت أو وفاءً لندر.
وهذه الزيارة هي طقس ديني جماعي مهم يُعد من علامات الإيمان الشيعي. علماً أنه توجد خمسة أضرحة لأئمة أهل البيت في العراق في النجف وسامراء والكاظمية، بخلاف ضريحي الحسين وأخيه أبي الفضل العباس بن علي بن أبي طالب الذي قُتِل دفاعاً عن شقيقه ودُفِن بجواره.
"زيارة الأربعين عمرها أكثر من 1380 سنة، وهي حدث عراقي ذا صفة عالمية، وفاءً وشكراً للإمام الحسين. منذ 2009، بدأ يتهافت الأجانب علاوة على العراقيين على هذه الزيارة"
منع وتنكيل بالزوار في عهد صدام
اكتسبت الزيارة أهمية متزايدة لدى الشيعة بسبب محاولات قمعها ومنعها المتكررة. كان آخرها في عهد نظام الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين، والتي انتهت بسقوطه عام 2003. خلال حكم البعث، شهد طريق الزيارة صدامات بين الزوار وقوى الأمن ترتب عليها سقوط قتلى وحالات اعتقال تبعتها أحكام تنكيلية بالسجن المؤبد والإعدام أحياناً، حسبما أخبرنا زعيم تيار الحكمة العراقي، عمار الحكيم، في لقاء على هامش الزيارة.
ومن أساليب قمع هذا الطقس الديني في تلك الفترة، منع المسير وحصر المشاركة على السيارات، وأجّلت الامتحانات في إحدى السنوات لتتزامن مع هذه المناسبة وعرقلة الكثيرين عن المشاركة، ونشر الشرطة السرية على طول الطريق المؤدي لكربلاء.
حاول الناس التغلب على هذه العراقيل بالسير في جماعات صغيرة أو فرادى حتى يسهل هروبهم إذا تعرضت لهم قوات الأمن، والسير ليلاً مع الاختباء والكمون نهاراً، واعتماد الطرق الفرعية والمهجورة فكان لرجال الدين طريق يُعرف باسم "طريق العلماء" يشق بساتين النخيل على ضفاف نهر الفرات في النجف.
لا عجب بعد كل هذا أن زادت أعداد زوار الأربعين عقب سقوط حكم صدام عام 2003، سيّما مع وصول القوى الشيعية إلى السلطة في البلاد، وازدياد نفوذ إيران فيها. يعتقد البعض أن الأعداد الغفيرة من الزوار، والاهتمام اللافت بالزيارة السنوية يعكسان جانباً من نفوذ طهران في العراق. وتأتي الغالبية العظمى من الزوار الأجانب للحسين من إيران.
ويرجح أن دافع الاستكشاف وحب الاستطلاع كانا عاملين في زيادة عدد الزائرين الأجانب والعراقيين من أتباع الطوائف والديانات الأخرى.
صرّح جسام محمد السعيدي، معاون رئيس قسم الإعلام بالعتبة العباسية، لرصيف22: "زيارة الأربعين عمرها أكثر من 1380 سنة، وهي حدث عراقي ذا صفة عالمية، وفاءً وشكراً للإمام الحسين. منذ 2009، بدأ يتهافت الأجانب علاوة على العراقيين على هذه الزيارة".
ضيافة شعبية بامتياز
ربما لم يكن مسير بهذه الضخامة وتلك المشقة لينجح ويتكرر سنوياً بدون استضافة مميزة. منذ وصولنا إلى العراق لم يكن صوت يعلو على "الترحيب" بزوار الحسين. بطول الطريق من بغداد إلى كربلاء (نحو 90 كم)، شاهدنا "مواكب الاستضافة والخدمة" على الجانبين. كما أنها تشق مدينة كربلاء من المنتصف.
تقدم هذه المواكب للزائرين الطعام والشراب والراحة والإقامة والنوم والعلاج وحتى المساج لإراحة عضلات الذين يمشون عشرات الكيلومترات تضامناً مع أهل بيت الحسين ومسيرهم من الشام إلى العراق. ومن يشعر بالإرهاق الشديد يمكنه أن يجد من يدفعه على "ستوتة" وهي وسيلة نقل تشبه التروسيكل. هناك من يقدم الأرجيلة أو خدمة غسل الملابس للزائرين كذلك.
نظراً لارتفاع درجات الحرارة هذا العام، شاهدنا من يتطوعون بإطلاق مدافع رذاذ المياه للتهوية على الزائرين فيما ثبّت أصحاب المباني والمحال القريبة من مرقد الإمام خراطيم مياه في مراوح عملاقة لتقوم بالدور نفسه.
لا يقدم طعاماً متواضعاً في هذه المواكب وإنما أشهى وأفخم الأكلات العراقية المطعّمة باللحوم والمكسرات بدايةً من السيّاح (خبز التمّن) والهريسة العراقية والبرياني العراقي، وصولاً إلى القيمة والكباب العراقي والآش (نوع من الشوربة)، وأشهى الفواكه الطازجة والعصائر مثل عصير الموز وعصير الليمون وعصير قمر الدين وبرتقال وغيرها.
لا يكتفي القائمون على هذه المواكب بوضع الطعام وانتظار الزائرين وإنما يقفون لدعوتهم بـ"أقبل يا زائر، تفضّل يا زائر" ويلحون عليهم بشدة لتناول الطعام والمشروبات الباردة مجاناً تماماً. أخبرنا السيد عمار الحكيم أنه لاحظ هذه السنة أن أصحاب بعض المواكب يحملون عصي ويضربون بها أنفسهم إذا دعوا زائراً لتناول الطعام لديهم ولم يفعل، مؤكداً أن العراقيين البسطاء يفعلون ذلك حباً لا تفاخراً أو انتظاراً لشكر أو شهرة لأن عملهم على الأغلب لن يُرى.
أكد لنا مسؤولون عراقيون أن هذه الضيافة بالكامل هي جهد شعبي لا يُسهم فيه الساسة ولا الأثرياء وإنما يقتطع الفقراء من أموالهم على مدار السنة للمساهمة فيه. "أحدهم لشدة فقره لم يجد ما يُسهم بخدمة الزوار به، فتطوّع بحماية الزوار بجسده من أشعة الشمس"، أخبرنا عمار الحكيم.
مواكب الضيافة بالكامل هي جهد شعبي لا يُسهم فيه الساسة ولا الأثرياء وإنما يقتطع الفقراء من أموالهم على مدار السنة للمساهمة فيه. "أحدهم لشدة فقره لم يجد ما يُسهم بخدمة الزوار به، فتطوّع بحماية الزوار بجسده من أشعة الشمس"، أخبرنا عمار الحكيم
اللافت أن كميات اللحوم الهائلة التي تكفي ملايين الزوار لا تدخل فيها أي لحوم مصنعة أو مجمّدة. أخبرنا عراقيون أن هناك فتوى من المرجع الشيعي البارز، علي السيستاني، بألّا تقدم أية لحوم مجمدة أو مصنعة في المواكب ولا بد من الذبح على الطريقة الإسلامية. شاهدنا ماشية تُذبح في منتصف المواكب بالفعل.
وتستمر بعض مواكب الخدمة والضيافة حتى إحياء ذكرى وفاة النبي (في الثاني عشر من ربيع الأول) لكن بدرجة أقل كثيراً مما يحدث خلال الزيارة الأربعينية.
نهاية عام 2019، أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) "عنصر توفير الخدمة والضيافة خلال الزيارة الأربعينية ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية".
قالت اليونسكو آنذاك إن "توفير الخدمة والضيافة في الزيارة الأربعينية تُعد ممارسة اجتماعية تجري في المناطق الوسطى والجنوبية من العراق، حيث يبدأ ملايين الزوّار رحلة الحج إلى مدينة كربلاء المقدسة لزيارة المرقد الشريف للإمام الحسين. ويخصِّص عدد كبير من الناس وقتهم ومواردهم لكي يوفروا للحجاج خدمات مجانية مثل الانتفاع بقاعات الصلاة ودور الضيافة وأماكن للإقامة ليلاً وغيرها من خدمات. وجذور هذه العادات ضاربة بعمق في تقاليد الضيافة العراقية والعربية، وتعتبر عنصراً محدّداً للهوية الثقافية للعراق".
وفي قلب هذه الأجواء النابعة من ذكرى حزينة، شاهدنا شباباً يلتقطون "السيلفي"، ونساء يمشين فرادى وفي جماعات، متشحات بالسواد غالباً. أما المشهد الأكثر لفتاً للانتباه فكان أعداد سيارات النقل الضخمة (اللوري تريلا أو الكونتينر) التي تنقل الزائرين الإيرانيين بالعشرات إلى كربلاء. رغم الوقوف لساعات داخل الشاحنات المكدسة، شاهدنا الزائرين الإيرانيين وهم يقفزون من الشاحنات بحماسة لبدء مراسم الزيارة.
علاوة على مواكب الخدمة، هناك مجالس العزاء التي تسترجع تفاصيل حادثة مقتل الحسين بأداء لا يخلو من النحيب وإنشاد قصائد الرثاء الحزينة (في ما يُعرف باللطميات) التي يتفاعل معها الكثيرون بلطم الصدور والخدود وضرب الرأس وأحياناً شق الملابس. يُعتقد أن اللطميات تُلهب حماسة الزوار وتدفعهم إلى تفادي الشعور بتعب المسير الطويل والشاق في الشمس الحارقة.
وخارج كربلاء، تغلق المحال والأسواق في جميع أنحاء العراق أبوابها حزناً وحداداً وتضامناً مع الذكرى الأليمة.
تسخير كافة إمكانات الدولة
إلى ذلك، تسخّر الدولة العراقية كافة مقدراتها كل عام لرعاية زوار الحسين والتيسير عليهم سيّما عمليات التفويج والتفويج العكسي والتنقل وتنظيم المرور وتوفير الكهرباء ومصادر الطاقة وتحسين خدمة الإنترنت وما شابه.
هذه السنة، شدّد رئيس الوزراء محمد شياع السوداني على أن "جميع إمكانيات الدولة وظفت لاستقبال زائري الأربعينية" بخطة رُصد لها "أكثر من 50 مليار دينار"، واصفاً أعداد الزائرين هذه السنة بأنها "غير مسبوقة".
وقال وزير النقل رزاق محيبس السعداوي إن خطة الوزارة لخدمة زائري الإمام الحسين نجحت بفضل "أسطولها البري والجوي والسككي" في "استيعاب الزخم المليوني للزائرين، في جميع محاور العمل بالمنافذ الحدودية والمحافظات" بما في ذلك "700 باص وحافلة" و"20 قطاراً" و"50 مركبة بحرية و 29 زورقاً" و"1850 طائرة، أقلت أكثر من ربع مليون زائر أجنبي" علاوة على شاحنات ومركبات الدعم اللوجيستي والتفويج العكسي.
وخصّصت وزارة التربية العراقية 400 آلية لإعادة الزائرين/ات إلى محافظاتهم/ن بعد إتمام مراسيم الزيارة.
ماذا عن التأمين؟
رغم الأعداد الهائلة من الزوار واختلاف الجنسيات والثقافات التي يتحدرون منها، يشدد المسؤولون العراقيون على أن نسبة الجريمة في فترة الزيارة تنخفض لدرجة تقترب من العدم. قال جسام السعيدي، من العتبة العباسية، لرصيف22: "معدل الجرائم بما فيها التحرش والسرقة يصل إلى الصفر أثناء الزيارة ليس في كربلاء وحدها وإنما في عموم العراق تقريباً".
في هذا الإطار، يلفت رئيس هيئة الإعلام والاتصالات العراقية، د.علي المؤيد، في لقاء على هامش الزيارة، إلى أن "أهل محافظات مثل البصرة يخرجون بكثافة ويتركون خلفهم منازلهم وأملاكهم ما قد يغري بالسرقة وما شابه. لكن مع هذا، لا تُسجّل أي حوادث في تلك الفترة". يضيف أن من القصص المؤثرة التي وصلت إلى علمه أن رجلاً عفا عن قاتل ابنه حين التقاه في أحد مواكب الضيافة "لأجل الحسين" فيما تنتهي العديد من خلافات الجيرة والمشاحنات في هذه الفترة "بفضل مشاعر المحبة والتسامح التي تعم"، على حد قوله.
مما شاهدناه أثناء الزيارة، عشرات الأطفال (أحياناً أقل من ست سنوات) يمشون وسط الحشود بمفردهم. وهذا مؤشر على شعور الأهل بالأمان.
الأربعاء 6 أيلول/ سبتمبر، صرّح وزير الداخلية عبد الأمير الشمري: "لم يحصل أي خرق أمني طيلة أيام زيارة الأربعين"، معلناً "انتهاء حالة الإنذار (ج)" في كربلاء والمحافظات المجاورة لها. في تصريح لوكالة الأنباء العراقية (واع)، قال قائد عمليات بغداد، الفريق أحمد سليم، لوكالة الأنباء العراقية (واع)، إن "خطة تأمين الحماية للزيارة الأربعينية نجحت حيث لم تشهد أي خرق أمني".
إلى ذلك، قال جهاز الأمن الوطني العراقي إنه أحبط " مخططاً إرهابياً لاستهداف الزائرين من خلال الإطاحة بشبكة إرهابية مكونة من خمسة عناصر في محافظة ديالى"، وقبض على "31 متهماً بالترويج للحركات الدينية المتطرفة وبحوزتهم آلاف المنشورات التحريضية في محافظات (بغداد، وكربلاء، وبابل، والديوانية، والمثنى)". كما شهدت الزيارة، بشكلٍ متكرر، حوادث سير قضى فيها عدد من الزائرين الإيرانيين.
أرقام قياسية حصرية
ويوضح جسام السعيدي: "كعراقيين، كنّا نتعامل مع هذا الحدث وكأنه أمر طبيعي حتى تفاجئنا عام 2009 - مع بدء قدوم الزائرين الأجانب، أن ما يحدث مبهر وغير عادي. فبدأنا العمل على الترويج له".
يتابع: "لدينا أكبر عدد من الأشخاص الذين يزورون أي مدينة في مناسبة سنوية محددة، وأكبر عملية توزيع مجاني للخدمات بما يقدر بنحو 1.7 مليار دولار، كلها من الفقراء وذوي الدخل المحدود وليس الأثرياء أو الحكومة. الأشخاص الذين يتطوعون لتقديم الخدمات للزائرين يناهزون اثني مليون شخص وهو أكبر حدث تطوعي بالكامل، كل متطوع يخسر نحو 200 دولار في اليوم جراء تطوعه هذا لكنه يقبل عليه حباً للحسين وتقديراً لزائريه".
عام 2013، طلب المسؤولون العراقيون من موسوعة غينيس تسجيل الأرقام الخاصة بالزيارة المليونية. لكنهم عجزوا عن تلبية شروطها لتوثيق الأعداد والجهود لانشغالهم وتسخير كافة جهودهم لخدمة الزائرين فترة الزيارة.
كما يتمسك جسام بأن أرقامهم "دقيقة بنسبة لا تحتمل الشك" حيث يرصدون أعداد الزائرين من خلال المعابر الجوية والبرية المؤديّة لكربلاء عبر بغداد وبابل والنجف. قدّرت العتبة العباسية أن "العدد الكلي لزائري أربعينية الإمام الحسين في محافظة كربلاء المقدسة (هذه السنة) بلغ (22.019.146 ) زائراً".
وقال محافظ النجف ماجد الوائلي أن محافظته وحدها استقبلت أكثر من 12 مليون زائراً من داخل وخارج العراق، مستدركاً بأن أكثر من 5,000,000 زائر منهم تم تفويجه.
تتسق هذه الأرقام مع ما أعلنه القائد العام لقوى الأمن الداخلي الإيراني أحمد رضا رادان، من أن أربعة ملايين زائر إيراني وصلوا إلى العراق عبر الحدود البرية والجوية للمشاركة في مراسم الأربعين في العام الجاري، مبرزاً أن مليونين ونصف المليون منهم غادر العراق فور انتهاء الزيارة. وقال رئيس هيئة المنافذ الحدودية العراقية عمر الوائلي إن نحو مليونين ونصف المليون زائر غادروا العراق عبر المنافذ البرية والجوية فور انتهاء الزيارة.
بسبب الزحام والإقبال الهائل على كربلاء، قضينا الرحلة من بغداد لكربلاء والتي تتطلب في الظروف العادية من ساعة إلى ساعة ونصف في تسع ساعات متواصلة، غالبيتها داخل المدينة (من الرابعة عصر الثالث من أيلول/ سبتمبر حتى الواحدة والنصف فجر الرابع من الشهر نفسه).
حين أصبحت جزءً من المشهد توحّدت مع الحالة، ووجدتني أتألم ويقشعر بدني حزناً على ما أصاب الحسين، سقطت دموعي وجرت الدعوات تلقائياً على لساني. هل لأننا في مصر اعتدنا أن نتبارك بآل البيت؟ ربما، لكنني أكاد أجزم أن ما من أحد يعيش هذا الموقف إلا وسيتفاعل معه… يحزن ويتألّم، أكان سنيّاً مثلي أو مسيحياً أو يهودياً أو حتى من أتباع الديانات غير السماوية أو حتى لا دينياً
أزمة النفايات
مع التسليم بأن الزيارة الأربعينية تقدّم لوحة فريدة من التكافل الإنساني والاجتماعي وتعزز قيم الإخاء والمحبة والإيثار والتضحية وحسن الاستضافة وغيرها من القيم المحببة، إلا أن مشهد النفايات المتكدسة في كل مكان شكّل اللقطة السلبية التي تشوه هذه اللوحة الجميلة.
سألنا العديد من المسؤولين العراقيين حول الأمر وأقروا بصعوبة التعامل مع النفايات الناتجة عن هذا الحجم الهائل من الضيافة في ظل وجود ملايين البشر في مساحة جغرافية محدودة، مؤكدين أنه بالتزامن مع بدء عملية التفويج العكسي وبدء خروج الزائرين من المدينة تنطلق عمليات رفع النفايات في كربلاء والمدن المجاورة التي تشهد الظاعرة نفسها.
في هذا الصدد، أوضح محافظ النجف ماجد الوائلي أن النفايات المرفوعة في مديرية بلدية النجف بعد انتهاء الزيارة بلغت 72,000 متر مكعب. وفي مديرية بلديات النجف الأشرف فكمية النفايات المرفوعة 61,000 متر مكعب. مع العلم أن محافظة النجف محطة مكوث وليس مرور فقط للزائرين لاحتوائها على العديد من المزارات والمقامات المقدسة التي يستهل بها الزوار مراسمهم وفي مقدمتها مرقد الإمام علي بن أبي طالب.
قبل الصعود على متن الطائرة المتجهة إلى بغداد، سمعت كثيراً وبشغف من العراقيات والأجنبيات المتجهات إلى زيارة الأربعين. شعرت بانبهار لتلهفهن إلى "المسير" لساعات طوال في طقس شديد الحرارة وتكدس مليوني لنصرة شخص توفي قبل أكثر من 1300 سنة ولن ينفعه مسيرهم بشيء. لم أتفهّم ذلك أبداً. تماماً كما لم أكن أتفهّم أبداً الحزن الشيعي على الحسين وممارسات مثل البكاء والنحيب ولطم الخدود والصدر وضرب الرأس. علماً أن الطقوس الدينية كثيراً ما تخرج عن المذهب أو العقيدة لتتحول إلى ممارسة إنسانية بدرجة أكبر.
لكنني حين أصبحت جزءً من المشهد توحّدت مع الحالة، ووجدتني أتألم ويقشعر بدني حزناً على ما أصاب الحسين، سقطت دموعي وجرت الدعوات تلقائياً على لساني. هل لأننا في مصر اعتدنا أن نتبارك بآل البيت؟ ربما، لكنني أكاد أجزم أن ما من أحد يعيش هذا الموقف إلا وسيتفاعل معه… يحزن ويتألّم، أكان سنيّاً مثلي أو مسيحياً أو يهودياً أو حتى من أتباع الديانات غير السماوية أو حتى لا دينياً. وقتها فقط أدركت معنى عبارة "الحسين يجمعنا" الموجودة في كل مكان زرته في كربلاء وبغداد.
من لم يحضر زيارة الأربعين ربما يصعب عليه أيضاً استيعاب كيف يمكن لشعبٍ عانى الحروب والقمع وتكالب القوى الخارجية والداخلية الطامعة والفساد والتجويع والحصار أن يكون بهذا الكرم وأن يعامل ضيوفه بكل هذا الترحاب لا لشيء إلا حباً في رمز ديني تعاطف مع محنته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...