شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
الجبل الأخضر الذي لم يعُد أخضر

الجبل الأخضر الذي لم يعُد أخضر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والبيئة

الاثنين 18 سبتمبر 202312:44 م

                                                                                      1                                                                                

مرّ إعصار "دانيال" في مشواره المتوسطي على الساحل الليبي، وعليه دمّر أكثر البيئات هشاشةً في رحلته المزلزلة. في ساعات الرحلة هذه، كنتُ أقرأ في ظلام العواصف الملازم كمن يقرأ في المعتقلات؛ برغم أنّي لم أعِش حياة السجون، حيث لا يتمتع المُعتَقلون بترف الدفء والطمأنينة. صرتُ أتنقل في بيتنا الآمن بين فينومونولوجيا هيغل وسينما دولوز في سويعات وسنٍ وصحوٍ مغيَّب عمّن يُحتضَر ومن يصارع الموت وينجو. في ساعات الرحلة هذه، قتلت العاصفة آلاف المعتقلين في سجن ليبيا الكبير، لتصبح هذه الفاجعة أكبر الكوارث في تاريخ البلاد الحديث.

في مدينتي البيضاء، لم نتوقع أن تمسي العاصفة وحشاً بهذه القسوة، فهي ليست المرة الأولى التي يستجلب فيها شتاء المدينة وابلاً يُغرِق المدينة يوماً كاملاً بليلته. يُردَف هذا إلى إيمان الليبيين العميق بحماية إلهية غيّبت عنه الكوارث لعقود، منذ زلزال مدينة المرج في 1963.

في هذا السياق، يتندّر الكاتب سالم العوكلي في "بوابة الوسط"، على ذهنية الاستخفاف بالأمان في المجتمع: "حين اشتريت أول سيارة نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وأتممت إجراءات ملكيتها وتأمينها، واستخرجت رخصة قيادة، قررت أن أمضي قدماً في التزامي بالقانون، وبشكل غير دارج اتخذت قرار ربط حزام الأمان في كل حركة، ولكن، وعند أول بوابة، أوقفني شرطي المرور دون الجميع، وطلب أوراق السيارة وهو يقول بثقة من كشف حيلةً، ما مفاده أن ربطي للحزام ليس من دون "خنطقيرة"! بمعنى أني أخفي مصيبةً بمحاولة تضليله بربط الحزام. وحين وجد كل الإجراءات سليمةً، قال بإحباط: "غريبة"! وتركني أمضي في حال سبيلي. ومنذ تلك الحادثة أصبحت أفك حزام الأمان كلما اقتربت من بوابة حتى لا يجلب لي الشبهة".

ولا يأتي عبثاً ذكر هذا العبث، فقد عاش وعمل العوكلي في المدينة القديمة في مدينة درنة، حيث انمحقت الأولى، أي القديمة، ودُمِّر ما يقرب من ثلث الثانية، درنة الكبرى. حوّل انفجار السدّيْن في وادي درنة منسوب المياه إلى "تسونامي" اقتلع ما بناه البشر وقذف بضحاياه صوب البحر وما جاوره.

 اختبر الناس الانسجام والوئام، فتكاتفت أطراف البلاد المتباعدة، وعاد صدق الإحساس بمعاناة الآخر الذي شهدناه في الأيام المبكرة لانتفاضة 17 شباط/ فبراير 2011

2

ما معنى أن تكون شاكراً أنك لستَ أحد الضحايا، أحياءً كانوا أم أمواتاً؟ في البدء يُسأَل عن أحوال الأصدقاء والأقارب في درنة، نحزن على الميت والمفقود، ونقول "الحمد لله على سلامتك"، لمن نجا وترك نصيب موته الآجل لغيره.

بالحديث عن الأزمات الأخلاقية، ثمة من يجاهد الآن جسداً ونفساً لينقذ من/ ما يُنقَذ، وأنا أدوّن أفكاراً لا نفع فيها لمن يُنقِذ. فها قد بدأت ما تشبه الأخبار السارة في الظهور مع السيئة التي تتعاظم ساعةً بساعة. عمليات الإنقاذ والنجدة، من داخل ليبيا وخارجها، عارمة. هذه العمليات تؤجل بعضاً من تشخيصٍ منهجي لهذا العطب.

ثمة إجماع علمي على تدهور السد في سلسلة من دراسات متنوعة منذ أكثر من عقد، وسلسلة من ندوات كان آخرها في السادس من هذا الشهر، بعنوان "وادي درنة... تبِعات الإهمال ومخاطر الانهيارات" في "بيت درنة الثقافي" الذي تلاشى الآن بين أرضه وسمائه.

وثمة فريق، من ضمنه العوكلي، يؤمن بأن السد كان سيؤول إلى الانهيار في جميع الأحوال، إلا في حال تسليحه وما يلازم ذلك من دواعٍ علمية. حجة العوكلي تصبّ في أهمية إخلاء السكان الذي لم يحدث. وعن هذا الإخلاء تتضارب التقارير: هل رفض أغلب السكان إخلاء مساكنهم أم رفض الجيش والجهات المسؤولة إخلاءهم لسلامتهم؟ في الحالتيْن، تتكاثر نظريات المؤامرة من أنصار المعسكريْن المتحاربيْن وهما المسيَّران من إدارتيْن عاجزتيْن تماماً عن إدارة دولة.

3

في خضم الكره المتزايد للسلطات وأزمة الثقة المنبثقة، نسَّق الشعب جهوده عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وحاولت المنظمات الخيرية، على رأسها جمعية الهلال الأحمر الليبي، أن تساعد المتطوعين على كيفية إدارة الأزمة التي غاب مديروها الحقيقيّون. فالكارثة فوق طاقة وإرادة الموارد التي لم تؤسَّس أصلاً، وأولها ثلاجات تحفظ الجثامين التي رصفت قارعات الطرق.

وكعادة البشر في استجابتهم لكوارث الطبيعة، صار الهوس الإعلامي بصحة عدد الوفيات، ونجحت بعض أعمال النهب وفشل البعض الآخر، وكثُرَت التأويلات الثيولوجية عمّا إذا كان الأموات شهداء أم لا (عرَض مكتب توظيف في البيضاء خدمات حذف حسابات الضحايا الذين نشروا موسيقى و"غيره"، لعلهم يضمنون بذلك دخولهم إلى الجنة).

كعادة البشر أيضاً في هذه المواقف، اختبر الناس الانسجام والوئام، فتكاتفت أطراف البلاد المتباعدة، وعاد صدق الإحساس بمعاناة الآخر الذي شهدناه في الأيام المبكرة لانتفاضة 17 شباط/ فبراير 2011. تكاد تعادل معونات الأفراد تلك المُرسَلة من دول عربية، وشهدت آثار الفقد على الوشائج المغيَّبة بين "الشرق" و"الغرب" و"الجنوب" أيضاً؛ فللجميع أقارب وأصدقاء في المناطق المنكوبة كافةً. وبقدر شدّة الحداد على الضحايا الليبيين، تضامن المعزّون مع عائلات ضحايا العمّال الأجانب، لا سيما المصريين والسودانيين.

سيظل هذا "الحدث الجلل"، بلغة المؤرّخين، مرجعاً للّيبيين، إذ تصير الصدمة الجمعية تذكيراً بوهن دولتهم وخرابها، وتصبح المثال الأوحد لهذا الجيل في التعرّف على الكوارث المحتَمَلة مستقبلاً. وكما تظل انتفاضة 17 شباط/ فبراير في أول أيامها مرجعاً في التآخي والتكافل، تبقى أيضاً مرجعاً في الانقسام والتشظّي، والوقت مبكّر جداً على استبصار تحوّل التآخي في أيامنا هذه إلى نمطٍ مستجدٍّ من التشظّي.

ما معنى أن تكون شاكراً أنك لستَ أحد الضحايا، أحياءً كانوا أم أمواتاً؟

4

لكل كارثة تبعاتها في سوء الإدارة، طبيعيةً كانت (تسونامي المحيط الهندي في 2004 مثالاً)، أو لم تكن (تشرنوبل وفوكوشيما). فما حدث في شرق ليبيا، وفي درنة على وجه الخصوص، سوء إدارة في أدنى المستويات. أرجّح أن جل أهل الضحايا سيرغبون في محاسبة المسؤول عن التأخر في الاستجابة في الأقل، فهم الآن – أي أهل الضحايا- يفرّقون بين القضاء والقدر ومسؤولية البشر. لكن المحاسَبة في هذا الإقليم المعطوب "خنطقيرة" وشبه مستحيلة (انفجار مرفأ بيروت 2020، مثالاً).

في مطلع جمهورية أفلاطون، يستفهم سقراط عن طبيعة العدالة وليس عن معناها، إذ تسبق طبائع الأشياء معانيها. هكذا يُنظَر هنا إلى طبيعة الكارثة والمسؤول أولاً. لا وجود لرواية أصح أو "أحق" في هكذا موقف وفي هذا الوقت. الرواية الأقرب إلى ذلك نسمعها مِمّن قذف به الطوفان إلى بلكونة، فطرق بابها على صاحب الشقة ليفتح له؛ من الذين وثّقوا الحدث بالصوت والصورة، تارةً، وعبر المنشورات الفيسبوكية تارةً أخرى، قبل أن نسمع أنهم ماتوا بعدها. سنسمعها، يقيناً، من الذين كشفوا الأغطية عن الجثامين الملقاة في الشوارع، فرأوا وجوهاً ميّتةً، لعلها تقتل وطأة الانتظار والحيرة، أو لعلها تؤجل المحتوم، فيصير المفقود في حضرة هشاشة الوجود التي تسبق زمنياً هشاشة البلد وناسه.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ما أحوجنا اليوم إلى الثقافة البيئية

نفخر بكوننا من المؤسّسات العربية القليلة الرائدة في ﻣﻴﺪﺍﻥ ﺇﺫﻛﺎﺀ ﺍﻟﻮﻋﻲ البيئيّ. وبالرغم من البلادة التي قد تُشعرنا فيها القضايا المناخيّة، لكنّنا في رصيف22 مصرّون على التحدث عنها. فنحن ببساطةٍ نطمح إلى غدٍ أفضل. فلا مستقبل لنا ولمنطقتنا العربية إذا اجتاحها كابوس الأرض اليباب، وصارت جدباء لا ماء فيها ولا خضرة.

Website by WhiteBeard