لم يلتقيا، لكن أقدارهما التقت في النهاية. كانا مميزَين في العالم بين الشرق والغرب، فكلاهما ورث أرضاً وأمةً اتسعت رقعتها وازدهرت في عهديهما.
على وقع أهازيج البحارة وسواعدهم السمراء التي لفحتها الشمس، وهي تلقي بالأشرعة للريح، أبحرت السفن وسط الأمواج مختزنةً في داخلها خيولاً وزمرداً وسجاداً ورسائل ستبقى شاهدةً على تلك الصداقة بين بريطانيا وعمان التي وُصفت في معاهدة "العلاقات الراسخة" عام 1800، بأنها ستظل ثابتةً دون اهتزاز حتى نهاية الدهر وحتى تنتهي الشمس والقمر من مسيرتهما الدوارة.
تجود الذاكرة وهي تخلق صوراً من خيال عن ذلك اللقاء الذي لم يحدث وترسمه كأسطورة أو حكاية مفقودة نثرتها عجوز في غابر الأزمان.
كُتب عنهما الكثير وآمنت بأن للرواية بقيةً.
لم يلتقيا، لكن أقدارهما التقت في النهاية. كانا مميزَين في العالم بين الشرق والغرب، فكلاهما ورث أرضاً وأمةً اتسعت رقعتها وازدهرت في عهديهما
"سلطان مسقط يريد أن يهديكِ شبل نمر، ولكنني ظننتُ أن جرواً صغيراً سيكون لائقاً أكثر"؛ بهذه الكلمات نطقت إحدى الشخصيات المحيطة بالملكة فيكتوريا ملكة "بريطانيا العظمى وإيرلندا وإمبراطورة الهند"، في العمل الدرامي الذي تناول سيرتها الذاتية وصعودها إلى العرش وهي في الثامنة عشرة من عمرها. فهل اختزلت تلك اللقطة اليتيمة قِدم العلاقات العمانية البريطانية؟
في حزيران/يونيو 1837، وبعد شهرين من اعتلائها عرش بريطانيا، عرضت فيكتوريا على رئيس وزرائها "اللورد ملبورن"، قائمةً بالهدايا التي كانت ستتلقاها من حاكم مسقط (عمان) سعيد بن سلطان، وكانت قلقةً من قبولها ودوّنت محادثتهما في يومياتها كاشفةً أنها تخشى أن تقبل هذا النوع من الهدايا خوفاً من أن تُتّهم بالضعف الأنثوي. بإحساس عالٍ بالمسؤولية أدركت فيكتوريا مبكراً ومنذ اللحظات الأولى لحكمها كيف تبني وترسخ صورتها كامرأة صلبة ستنجو لاحقاً من سبع محاولات اغتيال، وتقود أهم الثورات الصناعية في أوروبا.
هدايا متبادلة
تراءت لي قلعة وندسور العريقة، وهي واحدة من أكبر قلاع العالم وأقدمها، وهي تختزن تاريخ ملوك تعاقبوا عليها وعرفت معهم الحروب وحوصرت لمرات. يدخل بخطوات واثقة إلى ساحة القلعة لافتاً الأنظار إليه بزيّه العربي الأصيل وعمامة رأسه البيضاء. هكذا كان "علي بن ناصر" المبعوث العماني كما صوّرته اللوحة المحفوظة في متاحف بريطانيا. استقبلته الملكة فيكتوريا في 30 آب/أغسطس 1838، ووصفته في مذكراتها قائلةً إنه شخص ذو مظهر مذهل بعيون سوداء رائعة، ويبلغ من العمر 67 عاماً.
كانت هدايا سلطان مسقط وعمان التي رحبت بها الملكة عبارةً عن ستة خيول عربية وتاج من الأحجار الكريمة ومجوهرات أخرى. احتفظت فيكتوريا بالتاج الملكي الذي أهداها إياه السلطان العماني والذي ما يزال في متحف قصر باكنغهام.
في تلك الرحلات الطويلة إلى إنكلترا: كيف يمكن أن تروّض الخيل وهي تقف على أرضية ليست ثابتةً؟ كيف يمكن لتلك الخيول العربية أن تتأقلم مع برد جنوب لندن؟ كان لا بد من رفيق وسائس تألف وجهه وملمس يديه وخشونة صوته الذي يرقّ وهو يربت عليها، ويهدّئ من روعها. كانت تلك مهمة المصري حجي حامد والجورجي محمد حسن اللذين أرسلا مع الخيل وأوكل إليهما أمر الاهتمام بها. أعطت الملكة فيكتوريا أحد الأحصنة وكان رمادي اللون إلى كاتب الإسطبلات الملكية، الذي باعه فتم شراؤه من قبل مدرب المسرح والرسام جون فريدريك هيرينج.
خلّد تلك الهدية الرسام "جورج هايتر"، فرسم لوحةً تضم سائسَي الخيل ودوّن في يومياته أنه رسم هذه الصورة في قصر باكنغهام لشخصين في خدمة سلطان مسقط وعمان، أتيا إلى إنكلترا في آب/أغسطس 1840، مع حصانين جميلين، لصاحبة الجلالة الملكة.
بعض الوثائق المنشورة التي اطّلعت عليها، أشارت إلى أن الملكة فيكتوريا عام 1840 أمرت ببناء عربة ملكية كالتي تملكها وبإهدائها إلى سلطان مسقط وعمان خاصةً بعد التصديق على معاهدة الصداقة والتجارة والملاحة بين عمان وبريطانيا عام 1839 وعيّن إتكنس هامرتون كأول قنصل بريطاني في زنجبار التابعة لعمان، أواخر عام 1841.
في العام 1842، تصدرت صورة السفينة العمانية الشهيرة باسم "السلطانة" الصحف الإنكليزية ومنها مجلة Illustrated London News في عدد 18 حزيران/يونيو من العام نفسه. كان على رأس الوفد مبعوث وسفير عمان علي بن ناصر الذي يلتقي الملكة واللورد أبردين للمرة الثانية حاملاً معه رسائل سعيد بن سلطان (سلطان عمان) التي تدعو بريطانيا إلى تغيير بعض سياساتها التي أثّرت على التجارة العمانية وقيّدتها وكالعادة لم تخلُ حمولة السفن العمانية من الهدايا ومنها عقود من اللؤلؤ والزمرد، وأربعة خيول عربية، وشالان، وعطر ورد.
في جريدة عمان 2018، شاهدت مجموعةً من الوثائق والمخطوطات المنشورة وكانت من ضمنها وثيقة مترجمة هي عبارة عن رسالة من الملكة فيكتوريا ملكة بريطانيا إلى السلطان سعيد بن سلطان، تشكره فيها على الهدايا المرسلة من قبله، وترسل إليه مجموعةً من الهدايا عام 1844.
إهداء جزر كوريا موريا إلى الملكة
يتوقف الكثير من المؤرخين عند مرحلة إهداء أو تنازل سعيد بن سلطان عن جزر كوريا موريا العمانية (الحلانيات حالياً)، للملكة فيكتوريا عام 1854، وكتب في وثيقة النقل قائلاً: "من سعيد بن سلطان إلى كل من يرى هذه الوثيقة سواء كان مسلماً أو غيره... لقد وصلني من الأمة القوية (إنكلترا) الكابتن فريمانتل من الأسطول الحربي للمملكة العظمى طالباً مني جزر كوريا موريا... وإني هنا أسلّم للملكة فيكتوريا الجزر المشار إليها لتصبح ممتلكات لها أو لوارثيها أو خلفائها من بعدها، وكبرهان فإني أثبت توقيعي وختمي، أصالةً عن نفسي وابني من بعدي...".
ويرى بعض المؤرخين أن فكرة التنازل أو إهداء الأراضي كانت نوعاً من أنواع المقايضة السياسية الرائجة حينها كعربون صداقة وحفاظاً على الاستقرار أو السلام، فمثلاً تنازل حاكم كلات "ناصر خان" عام 1784 عن منطقة جوادر في إقليم بلوشستان لسلطان بن أحمد حاكم وإمام عمان حينها.
لم يلتقِ سعيد بن سلطان ملكة الإنكليز أبداً، لكنها كانت إحدى حكاياته التي يرويها لأبنائه، ولم يخفِ عليهم إعجابه بذكاء المرأة الاستثنائي فقد عرفها على مدار عشرين عاماً من حكمها، إلا أن المفارقات تحدث دائماً
قبل التنازل عن جزر كوريا موريا كان لدى الإنكليز اهتمام بالجزر واستحواذهم عليها كدولة عظمى واقع لا محالة، خاصةً وقد رأوا فيها محطة ربط بين بومباي وعدن، بالإضافة إلى اكتشافهم وجود جوانو Guano فيها، وهو نوع من أنواع السماد وقد عرضت بريطانيا عشرة آلاف باوند إسترليني على سعيد بن سلطان حتى يبيعهم الجزر تلك، لكنه رفض فكرة البيع وأن يأخذ مبالغ ماديةً وفضّل عليها فكرة الإهداء. يُذكر أن الجزر عادت لتصير تحت المظلة العمانية في عام 1967، إبان عهد سعيد بن تيمور.
خيول الأمير ألبرت
كان للأمير ألبرت زوج الملكة فيكتوريا نصيب من هدايا سعيد بن سلطان، وقد وثّق الرسام توماس وودوارد من خلال لوحته التي رسمها عام 1840، والتي عُرضت في الأكاديمية الملكية، ظهور فتاة بلباس عربي تعمل في الإسطبل وتطعم حصانين أطلق على أحدهما اسم إمام والآخر مصطفى. كما أهداه في العام 1852 حصاناً آخر أطلق عليه اسمه: "سعيد".
السفينة فيكتوريا وتعزية الملكة
لم يلتقِ سعيد بن سلطان ملكة الإنكليز أبداً، لكنها كانت إحدى حكاياته التي يرويها لأبنائه، ولم يخفِ عليهم إعجابه بذكاء المرأة الاستثنائي فقد عرفها على مدار عشرين عاماً من حكمها، إلا أن المفارقات تحدث دائماً؛ ففي العام 1856 توفي وهو على ظهر سفينة حملت اسمها "كوين فيكتوريا"، ويُعتقد أنها مهداة منها ويبدو أن عادة إطلاق أسماء الملوك على السفن المهداة كانت منتشرةً، ففي العام 1824 أهدى سعيد بن سلطان، وليم الرابع، بارجةً حربيةً أطلق عليها ملك بريطانيا اسم "الإمام"، وهو لقب حاكم عمان. والجدير بالذكر أن عمان امتلكت أكبر أسطول بحري في الخليج العربي وشرق إفريقيا وصولاً إلى جزر القمر ومدغشقر.
عندما وصل خبر وفاة سعيد بن سلطان إلى فيكتوريا، كتبت إلى ابنه ماجد بن سعيد معزيةً: "نقل إلينا قنصلنا كولونيل همرتن الخطاب الذي أعلنتم سموّكم من خلاله إلينا النبأ المحزن بوفاة والدكم السلطان سعيد بن سلطان، إمام مسقط، التي حدثت في عرض البحر على ظهر فرقاطة (سفينة حربية) سموها "كوين فيكتوريا"، صباح يوم19 تشرين الأول/أكتوبر الماضي. من الشعور الودي الذي حملناه دوماً للفقيد ومن الصداقة التي أظهرها دوماً نحونا ونحو حكومتنا وشعبنا، فإن خبر وفاته المؤلم قد سبب لنا أسفاً خالصاً. نشكر سموكم لاهتمامكم بإطلاعنا على خسارة صديقنا الراحل، ونحن في الوقت الذي نشاطركم فيه الأسى بصدق على هذه الخسارة التي كانت رغبته في عليائه، فإننا نرجوكم أن تقبلوا أفضل تمنياتنا برفاهيتكم وسعادتكم، ونترككم في رعاية الله".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه