لا تعلم النفس أين ستولد، وأي أرض تلك التي ستحتضن شتاتها، وأي نعوش تنتظر تهاوي الأجساد السقيمة.
تسألنا تلك البلاد التي حملتنا إليها أقدارنا إلى أيّها ننتمي بعد أن تاهت خطانا بين المدن؟ فهنا ذكرياتنا، وهناك أحلامنا، هنا آمالنا، وهناك أحبابنا. يقال إن الحبَّ لعنه، وإن الخليل الشاب بعد الفراق يصبح عجوزاً كهلاً عمره ألف قرن من العذاب، ولكن ماذا يقال عمن أصابه عشق الأرض، فبات عليلاً بعد فراقها.
عُمان. لم تكن مصادفة أن يختارها مؤسس أول جمهورية عربية (الجمهورية الطرابلسية) عام 1918، كمنفى له في السنوات الـ16 الأخيرة من حياته، فقد كان لديه ارتباط روحي قديم معها، وكأنهما كانا بحاجة إلى بعضهما بعضاً، فهو المناضل الذي رحل عن وطنه عنوة، وهي الأرض التي كانت تبحث عن شخصية يجمع على محبتها الشعب، وتوحد صفّ العمانيين.
16 عاماً قضاها مؤسس أول جمهورية عربية في سلطنة عمان، بعد نفيه من طرابلس، وتولى منصباً يعادل رئيس الوزراء في وقتنا الحالي، فقد كُلّف بتنظيم الدولة، وأصبحت بيده السياسة الداخلية والخارجية والعسكرية والمالية
مع دخوله العقد الخامس من عمره، كان سليمان باشا الباروني يعيش الشتات بعد نفيه، بعيداً عن وطنه الأم، ليبيا، ومنعه من العودة إلى أيًّ من دول حوض البحر المتوسط الإفريقي، بسبب نضاله ضد الإيطاليين، والمشاكل التي سببها للفرنسيين.
قَدِم المناضل الليبي إلى عمان لأول مرة عام 1924 بسفينة حجاج آتية من ميناء جدة المطلّ على البحر الأحمر، والتي جاء إليها من مكة بعد أدائه الحج.
لم تكن تلك محاولة الباروني الأولى لدخول عُمان، فقد رفضت السلطات البريطانية طلب تسهيل زيارته إلى مسقط عام 1923، خاصة أن صيته كمناضل ضد الإيطاليين كان يسبق اسمه. وجدد المحاولة بعد مرور سنة، وذلك بعد التسهيلات والوساطة التي قدمها له الشريف الحسين بن علي لدى الإنكليز.
عُمان: اهتمام الباروني القديم
ظهرت علاقة الباروني مع عُمان قبل انتخابه عضواً في "مجلس المبعوثان العثماني" عام 1908، وازدادت نشاطاته واتصالاته بعد أن أصبح عضواً، بحسب الدراسة الصادرة عن مركز الدراسات العمانية التابع لجامعة السلطان قابوس، تحت عنوان "سليمان باشا الباروني وحضوره في الثقافة العمانية"
وتشير الدراسة إلى أنه كان حريصاً على استقلال عُمان من جهة، وعلاقتها الودية مع الدولة العثمانية من جهة أخرى، وكان من اللافت طلبه خطياً من السلطان فيصل بن تركي وإمام وشيوخ السلطنة أن يقدموا، على سبيل الإهداء، مجموعة من الكتب المتعلقة بعُمان والمذهب الإباضي إلى مكتبـة "مجلس المبعوثان"، التي أنشأتها الدولة العثمانية.
بحث الباروني المناضل الليبي، ومؤسس أول جمهورية عربية، عن جذور عائلته في سلطنة عُمان، فقد حرص على إيجاد أية صلة لعائلته الليبية العتيقة بالقبائل العمانية، وقد أرسل استفسارات خطية حول هذه الصلة
لم تتوقف علاقة المناضل الليبي بعُمان عند الكتب، فيبدو أن هناك سراً آخر، يكشف اهتمامه، هو البحث عن جذور عائلته في عُمان. فقد حرص الباروني على إيجاد أية صلة لعائلته الليبية العتيقة بالقبائل العمانية، وقد أرسل استفسارات خطية حول هذه الصلة.
يذكر أبو اليقظان الحاج إبراهيم بن عيسى، عن الباروني في كتابه "سليمان الباروني باشا في أطوار حياته"، الذي اعتمد فيه على رسائل الباروني التي كان يبعثها من عمان والعراق له، قوله إن عائلة البارونية الموجودة في جبل "نفوسة" من طرابلس الغرب، والعائلة البروانية الموجودة في مملكة عمان الكائنة في الجانب الشرقي من جزيرة العرب، من شجرة واحدة، ويوجد من العائلة البروانية في مملكة زنجبار جماعة معتبرة، منها الأمير مسعود بن سعيد البرواني حاكم ولاية بسمرك برج الألمانية في إفريقيا الشرقية.
الباروني في عمان
كان الباروني رجلاً يمتلك قدراً من الحكمة، وشاعراً يجيد تطويع اللغة، وصاحب شخصية تترك أثراً لدى كل من عرفه. أهلته تلك الصفات إلى أن يكون أحدَ الأمناء على وحدة الصف العماني، فمع قدومه حاول تقريب وجهات النظر بين السلطتين الرئيسيتين في عمان آنذاك، المتمثلة بالسلطان تيمور بن فيصل والإمام محمد الخليلي. فقد كانت مسقط، وشناص، وصحار، وظفار، وغيرها تخضع للسلطان تيمور، بينما سمائل، ونزوى، ونخل، والرستاق، وبهلاء تتبع الإمام الخليلي، ما شكّل صراعاً دائماً بين السلطتين العمانيتين.
ومن اللافت أن السلطان والإمام قد اجتمعا على تعين الباروني سفيراً لكلٍّ منهما لدى الملك ابن سعود، والملك علي بن الحسين، سعياً لحقن الدماء بين الملكين المتنازعين على السلطة في الحجاز آنذاك. وذلك يعطي صورة واضحة عن إيمان السلطان والإمام بقدرة الباروني على تقريب وجهات النظر بين الخصوم المتحاربة، كما حدث معهما.
رفض الباروني العديد من المناصب المهمة في الدولة العمانية، فقد كان يخاف أن يؤثر ذلك على علاقته بالسلطان والإمام، وينقل كتاب "سليمان الباروني باشا في أطوار حياته" قوله: "كُلفت مراراً من بعض أهل الحلّ والعقد بقبول منصب عالٍ مع الإمام، فاعتذرت خوفاً من أن ينسب إليّ التحيز، وأنا يهمني أن أبقى للطرفين حتى أتمكن من صلح ما بينهما، يسعد البلاد إن شاء الله".
وبرغم ذلك، أصبح مستشاراً للإمام الخليلي في عام 1926، وتولّى منصباً يعادل رئيس الوزراء في وقتنا الحالي، فقد كُلّف بتنظيم الدولة، وأصبحت بيده السياسة الداخلية والخارجية والعسكرية والمالية.
كان التعليم من أبرز الأمور التي سعى الباروني لتطويرها، وافتتح أولى المدارس في "سمائل" العمانية، إلا أنه، كما يذكر لاحقاً في إحدى رسائله عام 1933، ما كان يسعى إليه من تطور في التعليم، والصحة، وإنشاء مدارس ومستشفيات لم يحدث، كما كان يرغب ويطمح.
يذكر المناضل الليبي في رسائله حادثتين حصلتا مع طبيب عثماني، وآخر أمريكي يمارس التبشير في عُمان، يقول: "وأما المستشفى فقد كنا استدعينا الدكتور فؤاد بشير الشامي العثماني، الذي كان دكتوراً معنا للمجاهدين في الحروب الطرابلسية من سنة 1911 إلى 1919، لكن مع الأسف ما كاد يصل مسقط حتى أصيب بالملاريا، فوصل إلى سمائل في حالة سيئة، وفي ظرف ذلك الشهر انتقل إلى الدار الآخرة، وكان مصابه علينا عظيماً، فحاولنا أن نقنع الدكتور الأمريكاني الذي في مسقط بأن يترك التبشير، ويسمح له الإمام أعزّه الله بالإقامة في سمائل إذا هيأنا المستشفى، فأبى إلا أن يكون بصحبته مبشراً لأن الأموال التي تنفق عليه من أمريكا، إنما خصصت للتبشير فأصبح المشروع غير تام".
المرض والوفاة
على الرغم من ارتباطه العاطفي والتاريخي مع عمان فلا شيء يعوّض الوطن الأمّ. كان برد الغربة يغزو عظام الباروني، ما جعله يصاب بعدّة أمراض. فخلال السنوات الـ16 التي قضاها في عمان، كان في صراع مع الملاريا التي يشفى منها تارة، وتعاوده مجدداً، وكأنها تذكره بضرورة العودة. وربما يعود ذلك لرغبته العميقة في النضال داخل وطنه، فرغم الإنجازات وما حققه في عمان لنفسه والبلد فإن قلبه كان معلقاً في ليبيا.
يكشف الباروني في إحدى رسائله، التي نشرها أبو اليقظان، ذلك الشعور بالغربة، الذي يوقظه المرض فينا، قائلاً: "هواء وحر عُمان ما أشدّهما وأقساهما على الغريب". وفي رسالة أخرى، بعد سفره إلى العلاج في بغداد، يقول: "وصلت بغداد، وباشرت التداوي، وصحتي في تقدم مطرد يومياً والحمد لله، وعلى رأي الدكتور سأقيم هنا نحو شهر آخر حتى يستأصل الداء، ويخرجه من مكامنه في الجسم، ولعل بعد هذا يمكنني الإقامة بعمان بهناء، ويمكنني القيام بعمل نافع جداً".
كان السؤال الذي يلح على المناضل الليبي دوماً بعد نفيه من بلاده: إلى أين الرحيل؟ ولكن دون إجابة
عاد الباروني بعدها إلى عمان، وتكررت زياراته ومراجعاته الطبية إلى العراق بين حين وآخر، يقول: "وصلت البحرين والبصرة ثم بغداد، سيفحص كيمياوي المستشفى الملوكي اليوم دمي، ليتحقق العلة، وغداً أباشر استعمال الدواء، أما صحتي بعد خروجي من مسقط ففي تقدم سريع".
لم يكن المرض الذي أصاب دم الباروني سوى الملاريا، ويبدو أن تلك المرحلة جعلته يفكر كثيراً في الرحيل، فكتب في إحدى رسائله: "إما الإقامة الدائمة في عمان إذا دامت صحتي، وإما هجرها بتاتاً إذا عاد ما كان بي".
وكان السؤال الذي يلح عليه دوماً: إلى أين الرحيل؟ دون إجابة، ليردّد كما جاء في رسالته: "طردت من المغرب إلى المشرق، والآن أطرد بالملاريا من المشرق، فإلى أين؟".
في عام 1940 سافر سليمان الباروني مع السلطان العماني تيمور بن فيصل إلى بومباي الهندية في رحلة علاج، لكنه لم يكن يعلم أن تلك ستكون المحطة الأخيرة في رحلته، التي لم ينهكها المرض، وإنما البعد عن الأرض التي ناضل لأجلها. توقف قلبه في تلك البلاد البعيدة، وهو ينتظر خبراً يتيح له العودة إلى ليبيا.
نظم العديد من الشعراء العمانيين قصائدَ المديح والاحتفاء بالباروني، ومن أشهرها قصيدة ابن دبي، الشيخ الجليل أحمد بن سلطان من آل سليم، الذي باح قلمه قائلاً:
"هنت عمان بما حازته بلدانُ
إذ أحرزت بك فتحاً يا سليمان
ألقي إليك مقاليد الأمور بها
من حثَّه لطريقِ الهديِ إيمانُ".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.