لم تنته قوافل الحكايات التي تتناقلها رمال الصحارى، ولم تتوقف أهازيج البحارة وهم محملون بلؤلؤ الخليج، فما يزال عبق سحر الشرق يفوح، ويجذب أبناء القارات الباردة نحو هذه الأرض التي عرفت عبر تاريخها، العديد من الرحالة والمستشرقين الذين توحدوا مع عاداتها وطقوسها وتبدلت أثوابهم لكنهم اختاروا دائماً ثوبها.
لفتت الأنظار بملامحها الغربية وخصلات شعرها الذهبية على مواقع التواصل الاجتماعي وهي تتجول بين جبال وشواطئ عمان، وتعانق صحراءها وكأنها من سلالة بدوية لا تقهرها حرارة الشمس، وهي تعكس لون شعرها فتظهر في كل قرية ومدينة عمانية، مرتدية زيها التقليدي الخاص وتتحدث عن تراثها.
لم تكن تعلم "أميليا جيرمان"، وهي قادمة من موطنها المملكة المتحدة، أنها ستكون في موعد مع بلد سيشكل أحد أقدارها، خصوصاً أنها ابنة الريف والحياة البكر، فقد عاشت بين ريف باركشير وشمال ويلز.
"في عام 2016 انتقلت إلى البحرين، حيث عملت كمدرسة للكيمياء والأحياء في المدرسة البريطانية، ومن البحرين، زرت عمي وعمتي في دولة الإمارات خلال العطلة الشتوية المدرسية، ومن هناك أخذاني إلى مسندم العمانية."، تقول جيرمان لرصيف22 عن بدايات تعرفها على عمان.
كان لعم أميليا وعمتها قدراهما الخاصان في شبه الجزيرة، فبعد إقامتهما قرابة العشرين عاماً في المملكة العربية السعودية، وبلوغهما سن التقاعد، اختارا أن يكملا حياتيهما في إمارة رأس الخيمة الإماراتية".
"لعبت في الغابات"
عن الشعور الذي اجتاحها عند دخولها عمان من بوابة محافظة مسندم، تحكي: "أردت استكشاف البلد أكثر فأكثر لأنني شعرت بالسلام والصفاء كما جذبتني طريقة العيش التقليدية، وجمال البيئة، والود والترحيب بالناس".
توالت الزيارات إلى عمان، وكأنها قطعت وعداً أن تعود دائماً.
في المرة الأولى، انضمت إلى مجموعة تتنزه سيراً على الأقدام إلى قمة جبل شمس، في الثانية أمضت أسبوعاً في مسقط، وزارت بعض الأماكن القريبة من العاصمة، مثل قريات ووادي شاب. أما المرة الثالثة، فقد قصدت جزيرة مصيرة التي سحرتها وجعلتها تنظر إلى كل شيء في عمان بعين مختلفة.
"منذ تلك اللحظة أثار أسلوب الحياة في البلد اهتمامي بشكل كبير لدرجة أنني قررت الانتقال والعيش فيها، قابلت مدرساً محلياً، ورتبنا بعض دورات اللغة الإنجليزية للطلاب، واستأجرت غرفة وسيارة، وبمجرد أن ضرب فيروس كورونا توقفت دروس اللغة الإنجليزية لكنني واصلت البقاء في جزيرة مصيرة، حيث وجدت أنها مكان جيد لأكون فيه خلال الاضطرابات الوبائية"، تقول أميليا.
يعود انجذاب أميليا لساكن المناطق الريفية، وتقاليده المتوارثة لأنها ترعرعت في قرية صغيرة، فيها عدد قليل من المنازل، ولا توجد متاجر، وهناك مدرسة ابتدائية، وكنيسة واحدة فقط، تقول: "قضيت طفولتي ألعب في الغابات، وأركض في الحقول مع إخوتي وأطفال الجيران، وكان لدينا العديد من الحيوانات مثل المهور والدجاج والقطط والكلاب".
مدن متوترة
تصف أميليا علاقتها بالمدن: "في المرات القليلة التي عشت فيها في مدينة شعرت أن شيئاً ما مفقود، وبدأت تظهر لدي علامات التوتر والخمول. أدركت لاحقاً أن هذا بسبب الانفصال عن الطبيعة، لأنني نشأت في مثل هذه البيئة الريفية".
تضيف: "ذهبت إلى أقرب بلدة مرتين في السنة تقريباً لشراء زي مدرسي جديد، لم أكن أعرف كيف أفعل أي شيء في المدينة، مثل العثور على طريقي، ولم أكن أعرف كيف أذهب للتسوق لشراء ملابس عصرية وما إلى ذلك، كان علي أن أتعلم هذه الأشياء لاحقاً، وما زلت أفضل أن أكون في الريف بدلاً من المدينة حتى في المرحلة الجامعية، اخترت جامعة "بانجور" في ويلز"، تضيف أميليا.
سكنت في مدينة صغيرة ريفية في ويلز، وسط جاذبية طاغية للجبال والشواطئ والمتنزهات الوطنية المحيطة، ثم انتقلت إلى اسكتلندا حيث درست وحصلت على الماجستير في علم البيئة والاستدامة البيئية، وبدأت المهنة في هذا المجال لمدة سبع سنوات.
هل سافرت يوماً كرحالة أو سائح لمنطقة بدوية؟ هل اكتشفت الفرق بينك وبين سكان تلك المنطقة الأصليين؟ تقول أميليا: "جلست مع البدو عند تناول الغداء واندهشت"
تحكي عن تلك الفترة: "كانت بعض الأماكن بعيدة جدًا، مثل العيش في مزرعة أبقار، عندما كنت أقوم ببعض الأبحاث حول سلالات مختلفة من الأبقار في اسكتلندا، وكانت هناك أوقات لم يكن لدي فيها سيارة، واضطررت إلى ركوب الدراجة لأشق طريقي بين تلال كبيرة وعبر الثلج والجليد".
وتضيف مستدركة: "ليس من المستغرب أن أحب المناطق الريفية في عمان أو أي بلد أزوره، وقدرة التواصل والتقدير للطبيعة التي يتمتع بها الأشخاص الذين يعيشون في هذه المناطق، ولهذا السبب كنت تراني في القرى والمناطق الطبيعية في سلطنة عمان، وأصر على أنني أفضل أن أنام تحت النجوم على بطانية والرياح على وجهي أكثر من فندق خمس نجوم، في غرفة محكمة الغلق بها مكيف هواء".
الشبه مجرد صدفة
عندما سألنا أميليا اذا كانت استوحت فكرة إبراز التراث العماني والأزياء من خلال تجارب الإنجليز والأوروبيين، الذين أصبحوا من مشاهير السوشال ميديا في عمان خاصة والخليج العربي عامة، كان جوابها: "سألني الناس من قبل عما إذا كانت تحربتي مستوحاة من المسافرين السابقين أو المستكشفين أو الأفلام أو الكتب، لكنني في الحقيقة بالكاد قرأت أو شاهدت أي شيء عن المسافرين الأوروبيين السابقين في شبه الجزيرة العربية، وأعرف القليل عنهم، قيل لي وسُئلت عنهم في عمان أكثر من بلدي".
وشددت أميليا على أن أي وجه تشابه بين قصتها مع رحالة أو مستكشفين آخرين في الماضي هو "مجرد مصادفة، وربما مجرد مسار طبيعي يمكن لشخص ما أن يسلكه قادماً من خلفية وثقافة مختلفتين تماماً عن خلفيتنا وثقافتنا".
البدو والرحالة
وعن تعارف أميليا مع البدو عن قرب، ومعايشتها لتفاصيل يومهم وطقوسهم، تقول: "عندما التقيت البدو لأول مرة وقضيت وقتًا معهم، أحببت كيف يتأقلمون مع البيئة، ويمتزجون بها. يفعلون الأشياء بطريقة مختلفة تماماً عن الشخص الذي يعيش في المدينة".
وتضيف: "إذا ذهب شخص من المدينة للتخييم وأراد طهو الغداء أو العشاء، فسوف يجلبون جميع أنواع الأواني والمقالي والأدوات ومعدات الطهو المعقدة والمكونات، ويطبخون شيئاً لذيذاً، ولكن يمكن تناوله في أي مكان في العالم في مطعم فاخر".
وتتابع: "جلست مع البدو عندما تناولوا الغداء، وقد اندهشت كيف يمكنهم إنتاج شيء بأقل المكونات، ربما ثلاث أو أربع قطع من المعدات، وإنشاء شيء لذيذ جداً ومذاق خاص لا يمكن العثور عليه في أي مطعم؛ فهو يشبه البيئة التي خرج منها".
وأصر على أنني أفضل أن أنام تحت النجوم على بطانية والرياح على وجهي لا فندق خمس نجوم، في غرفة محكمة الغلق بها مكيف هواء
وتكمل: "بالنسبة لكثير من الناس، يفضلون النمط الأول ولكن بالنسبة لي الجمال في البساطة والاندماج مع الطبيعة. أنا شخص غير مادي وبسيط، وقد أحببت أيضًا الطريقة التي يعيش بها البدو فهم غير مرتبطين بالممتلكات المادية، ومن السهل التخلي عن أي من ممتلكاتهم ومشاركة كل شيء بنكران الذات التام".
أتاحت الشهرة التي حصلت عليها أميليا من خلال مواقع التواصل الاجتماعي أن تعمل كسفيرة لمنظمة تدعى International Volunteers، وهي منظمة عمانية تعمل لتحسين حياة الأفراد في جزيرة زنجبار بشرق أفريقيا، تقول عن هذه التجربة: "إنهم يجمعون الأموال لبناء المدارس، وآبار المياه والمساجد، ويوفرون متطوعين للقيام بالبناء، وأيضًا التدريس في المدارس".
وتضيف: "في وقت سابق من هذا العام، ذهبت إلى زنجبار لمشاهدة عملهم وعرضه على وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بي، في محاولة لجذب المزيد من الأشخاص للتسجيل كمتطوعين. لقد اندهشت من عمل المنظمة، وكيف تمكنت من القيام بالكثير ولكن أيضاً إلى أي مدى لا يزال أمامها الكثير، رأيت مدارس بنتها المنظمة وكانت عبارة عن هياكل جميلة ومليئة بالطلاب المتحمسين".
وتكمل: "أكثر ما لفت انتباهي هو أنه ينقصهم الكثير من الأمور والأدوات التعليمية مقارنة بنا. كان في حجرة الدراسة مكاتب وكراسٍ وسبورة بيضاء وأقلام ولا توجد مكتبة، هناك القليل من الكتب الأساسية فقط، ولا توجد أجهزة كمبيوتر أو معدات علمية. ومع ذلك، كان جميع الطلاب يتعلمون، وهم سعداء ومتحمسون للدراسة. آمل أن أستمر في دعم عمل المتطوعين الدوليين ومساعدتهم على الاستمرار في القيام بالعمل الرائع الذي يقومون به".
لدى أميليا الكثير من الأفكار للمستقبل لكنها تفضل ألا تحدد أو تبوح بها. فالحياة دوماً ترسم لنا أقداراً مختلفة، فلم تكن تعلم وهي طفلة في قريتها الريفية أنها سوف تقع في غرام الصحراء البعيدة، وأنها ستكتشف من خلالها عالماً جديداً يرافقها أينما ذهبت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 11 ساعةمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
Ahmed Adel -
منذ 3 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ أسبوعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعاخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.