تشهد الساحة الثقافية الإماراتية حضوراً ملحوظاً للـ"ستاند آب كوميدي" stand-up comedy، بدليل ازدياد هذا النوع من الفعاليات في مدن عربية عدة أبرزها الرياض ودبي والقاهرة. حضرتُ عروضاً عدة جعلتني أتأمّل ما يُقدَّم لنا من عروض فنية بشكل عام، ومكانة الكوميديا العربية بشكل خاص، فقادني ذلك إلى التفكير في قضية المحتوى العربي الذي تسعى المؤسسات الحكومية والخاصة إلى إثرائه وترويجه بين الشباب. ثمّ تذكّرت أنني مدعوّة للمشاركة في المعرض الدولي للكتاب، كمتحدّثة في الموضوع نفسه: المحتوى العربي وسُبل إثرائه. في تلك اللحظة، بدأت أستبق مختلف الفعاليات الثقافية والترفيهية التي سأتمكّن من حضورها ضمن برنامج المعرض، ومرّت أمامي النقاشات واللقاءات الأدبية، والورش المهنية، والأفلام السينمائية العربية التي تُتاح لنا مشاهدتها في مثل هذه المناسبات.
نتحدث هنا عن الـ"ستاند آب كوميدي". للوهلة الأولى، يبدو هذا النوع من العروض الفنية الترفيهية على هامش المُنتج الثقافي العربي. هناك مَن يستخِفّ به إذا ما قورن بفنون أخرى، وهناك مَن ينظر إليه على أنّه "مَسخرة". وذلك برغم أنّ الجمهور العربي يميل بطبعه إلى الكوميديا، وغالباً ما يبحث عن الأعمال الفنية والأدبية القادرة على إضحاكه؛ بدليل أنّ أكثر الأعمال رواجاً في سوق الأدب العربي في السنوات الأخيرة، هي الكتب الساخرة، وأذكر من بينها إصدارات لكُتّاب مصريين معاصرين مثل عمر طاهر وبلال فضل وغادة عبد العال وخالد الخميسي، وسابقاً كتابات الراحل السعودي غازي القصيبي والراحل المصري محمود السعدني.
الجمهور العربي يميل بطبعه إلى الكوميديا، وغالباً ما يبحث عن الأعمال الفنية والأدبية القادرة على إضحاكه؛ بدليل أنّ أكثر الأعمال رواجاً في سوق الأدب العربي في السنوات الأخيرة هي الكتب الساخرة
إذا كان هذا الصنف من الكتب هو الأكثر مبيعاً، فلماذا إذاً لم يخرج الـ"ستاند آب كوميدي" العربي من الظل حتى الآن؟ ولماذا لا يُعدّ نوعاً راقياً من الفنون الترفيهية؟ في الواقع هناك أسباب عدة، يعود أوّلها إلى أنّ هناك مَن يربط بين هذا الفن المُعاصر وشخصية الـ"مونولوجيست" التي اشتهِرت في القرن الماضي من خلال المسرح وشاشات التلفاز. هذه الشخصية معروفة لدى "جيل الطيبين" (أيّ الجيل المولود في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، كما يُطلَق عليه في الخليج)، ومن سبقهم أيضاً. عندما نذكُر الـ"مونولوجيست" تحضر عادةً إلى أذهاننا شخصية نمطية تقليدية مفادها: الرجل الذي يقف على خشبة المسرح أو برامج العروض الليلية التلفزيونية ليُلقي مجموعةً من النكات السطحية وفقرات غنائيةً من النوع الرديء، وإنْ كان بالطبع هناك مَن أبدَع في هذا المجال.
السبب الثاني هو أنّ الـ"ستاند آب كوميدي" يبدو غريباً على جيل الطيبين ومَن يكبرهم؛ وفي أغلب المؤسسات هؤلاء هم المسؤولون عن إدارة البرامج الثقافية والترفيهية. وممّا يجعل أيضاً هذا الفن غامضاً تسميته التي جاءت باللغة الإنكليزية؛ وهي في الحقيقة سلاح ذو حدّين. فمن ناحية، استطاعت هذه التسمية الأجنبية استقطاب جمهور واسع من الشباب على معرفة واطلاع بفنانين عالميين؛ ولكنها أيضاً أبقَت الجيل الأكبر على مسافة بعيدة منه، حيث أنّ هذه التسمية لا تعني له شيئاً في أغلب الأحوال. صحيح أنّ المصطلح يترجَم إلى العربية أحياناً بـ"الكوميديا الارتجالية"، لكنّ هذه الترجمة من ناحية لا تقدّم وصفاً دقيقاً لهذا الفن، فالارتجال ليس هو الملمح الوحيد للـ"ستاند آب"؛ ومن ناحية أخرى يُهمِل هذا المصطلح عناصر يتضمّنها التعبير الإنكليزي، مثل الوقوف على المسرح والتفاعل المباشر الحيّ مع الجمهور.
تجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ الجذور الأجنبية لهذا الفن تُضفي أحياناً على الفنانين مسحةً غربيّةً تظهر في أدائهم المسرحي لا يستسيغها الجميع، إمّا لأنهم يقدّمون أداءهم باللغة الإنكليزية، وإمّا لأنّ الطابع الأجنبي يظهر في طريقة الإلقاء أو لغة الجسد. في الواقع هاتان نقطتان مهمتان يجب أن ينتبه إليهما الفنانون العرب إنْ أرادوا الوصول إلى شرائح مجتمعية أوسع.
ما سبق ذكره، عوائق لا يُستَهان بها تعرقل انتشار الـ"ستاند آب" العربي. ومع ذلك يبقى السؤال: هل يستحق هذا اللون من الفن أنْ يُروّج في المجتمع الخليجي أو العربي عامةً؟ وهل من فائدة لذلك؟
إذا تمعننا في طبيعة خطاب الـ"ستاند آب كوميدي" الجيّد، سوف نكتشف أنه خطاب لغوي ثقافي بالغ التعقيد، فمن ناحية يتناول الفنان الموهوب مواضيع ثقافيةً وسلوكيات اجتماعيةً تتطلّب قراءةً ثاقبةً لمختلف القضايا والشرائح المجتمعية. بل إنّ الكوميديان الماهر يفكّك نسيج الثقافة والذاكرة الشعبية لأنه على دراية بالتراث والفلكلور والعادات والتقاليد التي تميّز مجتمعه، وغيره من المجتمعات. لكنه في الوقت نفسه يأتي إليها بآرائه وتفسيراته الفردية لمختلف هذه الظواهر. ومن هذا المنطلق يمكن القول إنّ خشبة المسرح تتحوّل إلى منبر ومساحة حرّة للتأمّل في شؤون المجتمع ومشاركة الفنان همومه مع الجمهور.
بطبيعة الحال مشاركة الفنان همومه تتسم دائماً بالحس الفكاهي والنقدي الساخر، ليس فقط تجاه الظواهر الثقافية والسلوكية المختلفة، بل تجاه شخصه هو كإنسان. فلا يتفاعل الجمهور مع الكوميديان حقيقةً إلا إذا رأى نفسه في الحكايات والمواقف الحياتية التي يشاركها، أولاً؛ وإذا كان متقبّلاً لفكرة التهكّم (اللاذع أحياناً)، ثانياً، لأن الكوميديا لا يجب أن تكون دائماً هادفةً أو ذات رسالة تربوية؛ المهم ألا تهدف إلى التنمّر أو التجريح أو تدعو إلى الكراهية.
من ناحية أخرى، يتميّز هذا النوع من الخطاب بالتصاقه الشديد بالعاميات العربية وقدرتها -وحدها دون الفصيحة- على التسلّل إلى أعماق الوجدان العربي ودغدغته. بل إنّ بعض الكوميديان قادرون على إنتاج خطاب فُكاهي بأكثر من لهجة نظراً إلى أصولهم المختلطة أو لكونهم مقيمين على أرض متعددة اللهجات والثقافات العربية، كدولة الإمارات مثلاً. من هذا المنظور، يمكن القول إنّ الـ"ستاند آب كوميدي" مساحة لا تعترف بالقطيعة بين مختلف اللهجات العربية، بل هي حاضنة ومغذّية لها. ولا شك في أنها أيضاً قادرة على احتضان الفصحى وتوظيفها في المواقف التي تقتضي ذلك، وبالفعالية نفسها.
يقول الفنان الإماراتي عبد الله الأنصاري، إنّ "الخليجيين والكوميديا خطّان متوازيان لا يلتقيان أبداً". فهل هذا فعلاً صحيح؟ أم المقصود أنّ الوعي بهذا النوع من الفن العربي ما زال غائباً؟
أخيراً، لا يخفى على العاملين في مجال الترفيه أنّ أرباح صناعة الـ"ستاند آب" عالمياً تتجاوز بلايين الدولارات؛ عِلماً بأنّ العائد في أمريكا وحدها يصل اليوم إلى 3 بلايين دولار سنوياً، والتوقعات أنها ستزداد. ويبدو لي أنّ العالم العربي يشهد بداية ازدهار هذا النوع من الفنّ أيضاً؛ فهو قادر على استقطاب أعداد كبيرة من جمهور متعطش إلى نوع جديد من الفنون الترفيهية، بعيداً عما اعتاد استهلاكه. ثمة مثال حيّ على ذلك نجده في الجماهير الضخمة التي تملأ بعض العروض في مصر، بالإضافة إلى آلاف العرب الذين يحضرون للفنانين الغربيين الذي يقدّمون عروضاً في العالم العربي، ويدفعون مبالغ لا يُستهان بها أحياناً.
علينا الاعتراف أخيراً بأننا نحب تسليط الضوء على فناني الـ"ستاند آب" الأجانب، ودعوتهم إلى مختلف المواسم الثقافية، أحياناً على حساب الفنانين العرب؛ فالأخبار الصحافية وعدد العروض في المنطقة شاهدة على ذلك. وأقول في نفسي أحياناً: لعّل ذلك يمهّد الطريق للمواهب الناطقة باللغة العربية ويساعد المجتمع على استيعاب هذا الفن الصاعد، قبل أن يتجه عدد أكبر من الفنانين العرب إلى تكثيف عروضهم باللغة الإنكليزية، في حال لم يجدوا الدعم المؤسساتي اللازم.
يقول الفنان الإماراتي عبد الله الأنصاري في عروضه الكوميدية إنّ "الخليجيين والكوميديا خطّان متوازيان لا يلتقيان أبداً". فهل هذا فعلاً صحيح؟ أم المقصود أنّ الوعي بهذا النوع من الفن العربي ما زال غائباً؟ ألا يليق الـ"ستاند آب كوميدي" مثلاً بمعارض الكتاب ومختلف المهرجانات التي تُقام في المدن الكبرى؟ ألا يمكن لهذه العروض الخارجة عن قوالب المحتوى الجاد أن تكون مكمّلةً للساحة الفنية الثقافية كما نعرفها اليوم؟ ألا يليق الـ"ستاند آب كوميدي" بالمحتوى العربي؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون