شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
في ذمّ التخمة وفقر الخيال... جاء الدور على ضريح مارييت

في ذمّ التخمة وفقر الخيال... جاء الدور على ضريح مارييت

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع

الخميس 14 سبتمبر 202310:57 ص

بسبب الفقر المادي، قد يضطر الأهل إلى "تقفيل البلكونة"؛ لتوفير خصوصية لابن يحتاج إلى خلوة للمذاكرة. يراهنون على التعليم، فيضحّون بخزين البصل والثوم المعلّق في البلكونة، ويزحمون به المطبخ. ثم إن البلكونة، والشقة كلها، شأن أُسري، يختلف ترتيب أولياته المتغيرة. وبعد استقلال الابن تُستعاد البلكونة، ويرجع إليها خزين البصل والثوم ونباتات الزينة، وتصير منصة للتمتع بالنظر إلى الأفق وإلى السماء.

أما في الشأن العام فالخطأ نهائي، ويعلم المصريون خطيئة التجريف الحالي، المجنون المتهافت، لمعالم عمرانية ومعمارية وأثرية. إصلاح الخطيئة، إذا كُتبت للبلد النجاة بنجاح ثورة في الخيال، يستهلك جيلاً على الأقل. ساعتها يكون تشويه الآثار حماقة تدعو إلى الخجل والاعتذار.

تمثال وتابوت مارييت باشا

اعتدت في أول السنة المصرية، (1 توت الموافق 11 أيلول/سبتمبر)، زيارة المتحف المصري. لكن بداية هذه السنة (6265 مصرية) لا تبشر بخير. يوم الاثنين الماضي ذهبت إلى المتحف، واكتفيت بالحديقة. عبرت البوابة ولم أجد الحديقة، فخرجت من الباب القريب من الضريح الأثري لمارييت. قبل عام 4200 قبل الميلاد، وضع التقويمَ المصري رب الحكمة "توت، تحوت، تحوتي، جحوتي"، رسول الآلهة، مخترع الأبجدية والحساب. السنة قسمت إلى اثني عشر شهراً، وتبدأ بشهر "توت". أول توت، رأس السنة المصرية، عيد النيروز، عيد الشهداء القبطي لاحقاً. النيروز المصري احتفال باكتمال موسم فيضان النيل الذي يبدأ في بؤونة (حزيران/يونيو). أما النوروز الفارسي فهو عيد الربيع.

إصلاح الخطيئة، إذا كُتبت للبلد النجاة بنجاح ثورة في الخيال، يستهلك جيلاً على الأقل. ساعتها يكون تشويه الآثار حماقة تدعو إلى الخجل والاعتذار

في 15 تشرين الثاني/نوفمبر 1902 افتتح المتحف المصري رسمياً. قبله تنقلت الآثار المصرية بين عدة بنايات. كان رفاعة الطهطاوي أول مشرف على مصلحة ومتحف الآثار عام 1835. وجاءت النقلة النوعية على يد الفرنسي أوجست مارييت (1821 ـ 1881) الذي عينه الوالي سعيد باشا، عام 1858، أول مأمور لأشغال العاديات.

أسس مارييت متحف بولاق، وجمع فيه ثمرة حفائره من القطع الأثرية. وأغرق الفيضان عام 1878 قاعات المتحف. أُنقذت المحتويات، وضاعت قطع صغيرة. وتمت تعلية الأرضيات، وتوفي مارييت قبيل إعادة افتتاح المتحف عام 1881. وبناء على وصيته، نُقل ضريحه إلى حديقة المتحف المصري المطل على ميدان التحرير. دفن في تابوت حجري أمام تمثاله.

لافتة ضريح مارييت باشا

تابوت مارييت صممه المهندس الفرنسي أمبراوز بودري. ضريح يلازم المتحف كلما تغير مكانه، حتى الاستقرار عام 1902 في حديقة المتحف، وهو أول بناء في العالم يتأسس كمتحف. المتاحف السابقة كانت بنايات أو قصوراً تحولت إلى متاحف.

تصميم حديقة المتحف، بالتماثيل والنافورة التي تحجبها الآن "أشغال التطوير"، تكوين بصري مريح، فضاء يحرض على الخيال. ومن حسن حظ المتحف إزالة مقر الحزب الوطني المبنيّ اغتصاباً في حديقته الخلفية. كان يحجب المتحف عن النيل. ثم أفقنا على كابوس بديل سيخنق المتحف، مشروع عنوانه "أبراج التحرير". خازوق شمالي وقرينه الجنوبي. من أراد أن يشاركني الغضب فليقرأ مقال "خوازيق التحرير... عُقدة الميدان وتقزيم المتحف المصري".

أبراج التحرير

تمثال مارييت باشا في أقصى الجنوب الغربي، يطل على المتحف والحديقة. والتابوت في مركز نصف دائرة، خلفه قوس حجري علوي يتوسطه التمثال الذي كتب على لوحته التذكارية:

تخليداً لذكرى

مريت باشا

واعترافاً بخدماته.

يتعذر حالياً الوصول إلى الضريح. التقطتُ صورة وحيدة بدا فيها مارييت ضئيلاً غير مرئي تقريباً. يحاصره من الخلف غرباً، وعن اليمين جنوباً، مشروع بناء أسمنتي من طابقين، في مستوى رأس التمثال.

زعلت وخرجت. لا تكفي تعزية النفس بأن ضريح مارييت ليس أغلى ولا أعزّ من أضرحة طه حسين وأحمد شوقي ومحمود سامي البارودي ويحيى حقي وغيرهم. قد نفاجأ باختفائه، بحجة التطوير، والحاجة إلى هذه المساحة لتوسعة مطعم سيضجّ من ضوضائه الرجل في قبره. في المساء هاتفت الدكتور علي عبد الحليم مدير المتحف. عرفته بنفسي، وسألته عما يجري عند ضريح مارييت. مكالمة غير مريحة، دامت 303 ثوان، خالية من الإفادة بشيء.

كلما سألته عما رأيته في حديقة المتحف وعند ضريح مارييت، قال:

ـ كله منشور في الأهرام من أسبوعين.

أطلب الاستماع منه، فيقول:

ـ كله منشور في الأهرام.

أؤكد رغبتي في المعرفة المباشرة، لا عبر وسيط، فيردّ:

ـ كله منشور، راجع الأهرام.

راجعت ما كتبته الأستاذة هاجر صلاح، في 24 آب/أغسطس 2023. تقرير يقل عن مئتي كلمة، يبدأ بالتساؤل عن الحديقة، "ولماذا تم تجريفها رغم جمال تصميمها وتنسيق معروضاتها المتحفية". أجاب مدير المتحف: "تطوير الحديقة المتحفية يأتي ضمن مشروع متكامل لتطوير المتحف المصري، وتم إعلان مشروع التطوير منذ أكثر من عام وليس سراً"".

لا أطمئن لكلمة "تطوير". لماذا لا نسمي الأشياء بأسمائها؟ عند تجريف المقابر والبنايات الأثرية أُعلن رسمياً عن خطة للتطوير، فهل يصح لمتخصص أن يتكلم عن تطوير ضريح أثري؟ الأثر يلزمه صيانة، فقط صيانة تشمل الترميم للحفاظ عليه. وما معنى أن مشروع التطوير معلن "وليس سراً"؟ هل هذا دفاع استباقي؟

هل يصح لمتخصص أن يتكلم عن تطوير ضريح أثري؟ الأثر يلزمه صيانة، فقط صيانة تشمل الترميم للحفاظ عليه. وما معنى أن مشروع التطوير معلن "وليس سراً"؟ هل هذا دفاع استباقي؟

وينتهي تقرير "الأهرام" بقول مدير المتحف عن المباني خلف النصب التذكاري لمارييت وعن يمينه: "ستكون عبارة عن بازارات للسياح الأجانب، وهى تقع خلف النصب الرخامى ولا تحجب عنه الرؤية".

هنا تسمية للشيء باسمه. اظهر وبان. وربما وجب عليّ أن أوضح الواضح، وأعرّف البدهيات: البناء الأثري هو نص حجري. والبناء الأدبي هو نص كتابي. والبناء السينمائي هو نص فيلمي. لا يجوز لمسؤول، ولا لورثة المعماري والمثّال والكاتب والمخرج أن يضيفوا إلى هذه النصوص (المعمارية، والأدبية، والفيلمية) ما يرون أنه فات مبدعيها. الإضافة والتعديل انتهاك صريح. ربما يحتجّ ورثة المهندس المعماري الفرنسي مارسيل دورنون، صاحب تصميم المتحف عام 1896، على العبث بالتصميم.

حديقة المتحف المصري

زائرو المتحف وموظفوه ومديره يعلمون أن البازارات لا تنقصه. بعيداً عن الحديقة، في مسار خروج الزائرين، بازارات كافية. ولا أظن تجريف الحديقة وتشويه الضريح استجابة لإلحاح "السياح الأجانب" على إضافة بازار يحاصر الضريح، يدخلونه بجواز السفر الأجنبي، ويُحرّم على المصريين.

المتحف لا يلزمه بازار، ولا مطعم يسيء إلى الآثار والسياحة. أخشى أن يضطروا يوماً إلى بناء كشك ملاصق للتابوت، لبيع المثلجات. فعلوها من قبل في دار الأوبرا، ببناء كشك بجوار تمثال محمد عبد الوهاب، وكشك آخر أمام قصر الفنون بجوار تمثال "الرخاء ونهضة الفنون" للفنان المصري محمد حسن. العمل الوحيد الناجي من حريق الأوبرا عام 1971 لا ينجو من العبث.

بقي الرهان على الوعي بأن للسمعة الطيبة ثماراً، اقتصادية، أكبر من عائد بيع الشطائر. بقي الاعتراف بأن مصر ينقصها الخيال السياسي. بقي الاستعداد لخسارة المرشح المصري لإدارة اليونسكو للفترة من 2025 إلى 2029. أشفق على المرشح الدكتور خالد العناني الوزير السابق للسياحة والآثار، المدير السابق للمتحف المصري. أرى صفر المونديال.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image