بوجه تعلوه ابتسامة تتحسر على ما مضى من العمر، استقبلتنا وسيلة (63 عاماً)، قائلةً: "كانت البركة وكنا نصدّق كلّ ما يقال على أفواه الجدّات. كان كلامهنّ مقدّساً؛ ننجب أبناءنا ونتركهم في أمانتهن من لحظة تسميتهم مروراً بمداواتهم، فحتى الطبيب لا نقصده. جيلكم الآن يزور الطبيب يومياً حتى انقطعت البركة وتكاثرت الأوبئة".
توجهت نظرات وسيلة بحدّة لتواجه تقاسيم وجهي الجازمة بأنّ ما تقوله لا يُعدّ إلا خرافات عفّى عليها الزمن، فعن قصة تسمية ابنها البكر تقول محدثتنا: "تأخرت عن الإنجاب 3 سنوات، وفي إحدى الليالي جاءتني البشرى في حلمي، فقد زارني 'الشاف كمال' (أحد أعيان قريتها الصغيرة في معتمدية نائية من محافظة باجة)، حاملاً بين كفّيه حفنةً من القمح وطلب مني أن آكلها فهي من نصيبي، وعندما فطنت إلى حملي عزمت على تسمية ابني 'كمال'".
بعد إنجابها طفلها البكر، بدأ صراع تسميته وامتد طوال 6 أشهر: "بدايةً تمسك عمّه المتردّد الوحيد على مركز المحافظة حيث توجد أقرب بلدية (إدارة المواليد)، باسم 'خليل'، ولم أعارض على مضض فهو أول أحفاد العائلة، ثم مرض ابني مرضاً شديداً فأمرني والد زوجي بأن أفتح له 'البرج' (أكشف طالعه)، كي لا أخسره نهائياً"، وفق حديث "وسيلة" لرصيف22.
قراءة الطالع لاختيار اسم المولود
توجهت وسيلة إلى شيخ يسمونه بالعامية التونسية "المَدَّبْ" (المؤدب)، فـ"سيدي علي كان يدرّس القرآن لصبية القرية ويداوي مرضاهم ويكشف الطالع لتسمية المواليد الجدد ممّن حام حولهم شبح الموت. أما الأصحّاء فلآبائهم حرية اختيار أسمائهم، وهو يمتنع فقط عن مداواة نسوة القرية فهنّ من اختصاص عمتي عِبْشِيَه قابلة القرية"، تقول.
"فتح المدّب 'سيدي الهادي الستين' (لفظة عامية تونسية تطلَق على القرآن)، وتمتم بكلمات غير مفهومة مغمضاً عينيه المتوجهتين إلى السماء وكشف طالع ابني بعد أن أعطيته تاريخ مولده فبشّرني بتسميته 'شاكر'. وأنا في طريق العودة صادفت جنازةً لأحد جيراني وكان يحمل الاسم نفسه، فهرولت وزوجي عائدين إلى 'المدب' ورجوته أن يعيد قراءة طالع ابني ويجد له اسماً يمنحه حياةً طويلةً"، تضيف ضاحكةً ضحكة المنتصر فكأنما انتشلت ابنها من الموت! وتستدرك قائلةً: "كانت النية في وقتنا...".
استقر اسم الطفل على "حاتم" فقد عدّه "سيدي الهادي ولد الحرباوي" قريباً إلى اسم "شاكر"! وتالياً لن يصيب الطفل أيّ ضرر وسيُشفى قريباً، وفق رواية الأم.
تقول محدثتنا: "كان التونسيون يسمّون أبناءهم وفق اليوم الذي وُلدوا فيه، فمن وُلد يوم الجمعة يطلقون عليه اسم 'جمعة'، ذكراً كان أم أنثى، و'خميس' أو 'خميسة' على مواليد يوم الخميس. أما من وُلد يوم السبت فنصيبه في اسم 'السبتي' أو 'سبتية'، وكانت بعض النسوة يسمين أبناءهن أسماء بشعةً 'باش تعافهم الموت' (كي ينفر منهم الموت). من تكرر إجهاضها للذكور دون الإناث، تسمّي ابنها اسم فتاة يُعرف به لدى الجميع واسم ذكر في الوثائق الرسمية لا يعلمه سوى والديه ولا يتحول إلى هيئة الذكور من ملابس وحلاقة إلا في سن التمدرس"، وفق محدثتنا.
جاءتني البشرى في حلمي، فقد زارني 'الشاف كمال' حاملاً بين كفّيه حفنةً من القمح وطلب مني أن آكلها فهي من نصيبي، وعندما فطنت إلى حملي عزمت على تسمية ابني كمال
وتواصل: "لم نكن ننادي الأطفال بأسمائهم بل توحدنا على مناداة الأنثى 'عِبْشِيَه' والذكر 'عَبَشَه'، وأنا لا أدري ما معناه، لكننا نعتقد أنه اسم بشع ينفر منه الموت". تقصّى رصيف22 عن معناه وقد فسره لسان العرب على أنّه يعني "الحمق أو الغباوة"، أما ابن الأَعرابي فقال إنّ "العَبْشَ هو الصَّلاحُ في كل شيء".
الطريف أنّ اسم وسيلة في الوثائق الرسمية هو "جمعة"، فوالدها أراد تسميتها اقتداءً باسم جدته إلا أنّ شقيقته الكبرى قالت إنّ وسيلة بورقيبة، زوجة أوّل رئيس لتونس بعد الاستقلال الحبيب بورقيبة، جاءت اليوم إلى "هنشير المنصورة" وهي منطقة فلاحية قريبة من قرية "سيدي إسماعيل"، موطن محدثتنا، وهي تشرف على حصاد القمح أفضل من الرجال فوق "الماسانوج" (آلة الحصاد)، متمنيةً أن تنال المولودة الجديدة حظّ وسيلة بورقيبة، ووقع الاتفاق أن تنادى البنت "وسيلة"، وتسجَّل في الوثائق الرسمية "جمعة" وهو الاسم الذي لا يعلمه غير المقرّبين.
يصل الخصام حدّ القطيعة حين تسمي عائلة أبناءها بأسماء من تربطهم بهم قرابة، فـ"ابنة عمتي نكايةً بأبي الذي أسمى أخي 'عمر'، وهو اسم زوجها نفسه، أعطت كلّ أبنائها أسماءنا عينها (أنا وإخوتي)، وكان أول أبنائها 'مبروك' وهو اسم أبي، فقد كان الاعتقاد السائد أنّ المولود الجديد 'يقتل' الكبير الذي سُمّي باسمه، أما من سُمّي باسم قريبه المتوفى فقد أحيا ذكره، فزوجي مثلاً له اسمان 'فرج' وفق رغبة أبيه الذي أراد إحياء ذكرى والده، و'صالح' وفق رغبة الجدة التي توفي ابنها يوم مولد 'فرج' وخلّف يتيمين، كي لا تنقطع عن ذكر اسمه وإن غادرها"، وفق "وسيلة".
أما من ابتعد عن هذه المعتقدات، وأظهر "تديّنه"، فقد تشبّث بمقولة تمّ تداولها على أنّها حديث نبوي شريف ومفادها أنّ "خير الأسماء ما حُمّد وعُبّد".
طاقة الأسماء الإيجابية في السماء
غير بعيد عن قراءة الطالع، ينتصب "علم الطاقة" أو "علم الكلام" ويستند إلى مقولة أنّ "لكلّ امرئ من اسمه نصيباً"، فمريدوه يرون أنّ للاسم تأثيراً على مسار حياة الإنسان. هالة (35 عاماً)، تحدثت إلى رصيف22، قائلةً: "لاحظت أنّ أغلب الآباء يسمّون أبناءهم أسماءً ضعيفةً. أدعوهم قبل تسميتهم إلى البحث عن طاقة الأسماء والحروف. هناك أسماء تُتعب أصحابها. الأسماء التي تحتوي حروف 'لاء' و 'ما' مثل 'حلا' أو 'سما' أو 'مازن' متعبة جداً، بالإضافة إلى حروف تبدأ بالـ'سرّ' أو 'سمّ' مثل 'سمر' أو 'سرحان'، أجدادنا كانوا يبحثون إن كان الاسم مطابقاً أم لا، كذلك الأسماء التي أولها كسرة تكسر صاحبها وتتعبه".
وأفادت "هالة" أنّ هذا "العلم" كان يتّبعه العرب القدامى ثمّ اندثر وكان اسمه قديماً "علم الكلام"، وتصنيف الحروف فيه حسب الطاقة، فهناك حروف "حارة" وحروف "رطبة" وحروف "جافة" وأخرى "لينة"، وأنّه في تسمية الأطفال يجب التحري عن ملائمة أحرف الاسم لتوقيت الولادة ووضعية الكواكب في السماء، وفق ما استخلصته محدثتنا من بحثها في الموضوع.
كان الاعتقاد السائد أنّ المولود الجديد 'يقتل' الكبير الذي سُمّي باسمه، أما من سُمّي باسم قريبه المتوفى فقد أحيا ذكره
وساندتها دلندة (40 عاماً)، في حديثها إلى رصيف22، قائلةً: "الحمد لله أنّ هناك من يتبع علم الأحرف والأسماء، للأسف من يفهمون أنّ للاسم طاقته الرقمية قليلون، فهي تؤثّر في الشخص وليس المعنى، وأرجو أن يتعلم الناس ويبحثوا بدل السخرية ممن يؤمنون بعلم الكلام".
من جانبها، أكّدت يسر (28 عاماً) "أنهن يتحدثن عن علم الفلك، لا أحد يمكنه التنبؤ بحياة إنسان، كما أنّه يمكن لشخصين أن يحملا الاسم نفسه ولكلّ منهما حياته. علم الفلك ليس علم اليقين وانتهى الحوار، لدي فتاتان 'إيلاف' و'أسوة'، وبالنسبة لي هما أعز الأسماء، ولا أحد في هذا الكون يمكن أن يفتي في هذا وسعادتهما وحزنهما وفرحهما بأيدي الله، الحمد لله على نعمة العقل"، وفق تصريحها لرصيف22.
حرية التسمية والقانون التونسي
منع القانون التونسي لعقود، الوالدين من إطلاق أسماء غير عربية على مواليدهم، وكان يتمّ اعتماد "قائمة اسمية ممنوعة" توزَّع كلّ سنة على البلديات (إدارة تسجيل المواليد)، ذلك أنّه في تاريخ 16 تموز/ يوليو 2020، أصدرت وزارة الشؤون المحلية التونسية منشوراً إلى المصالح والمؤسسات العمومية التي تعود إليها بالنظر، في الأساس البلديات، يعلن إنهاء العمل بمنشور سابق صدر سنة 1965، يحدد موانع اختيار أسماء المواليد الجدد وتسجيلهم في سجلات الدولة الرسمية المتعلقة بالحالة المدنية.
ورأى المنشور أن التوجيهات السابقة لـ"العاملين في مجال تسجيل الولادات في البلديات قد تضمنت بعض 'التحجيرات' (الموانع) التي أصبحت تُعدّ اليوم نوعاً من التقييد لحرية اختيار الوالدين لأسماء المواليد الجدد عند ترسيمهم بدفاتر الولادات".
واستند القرار في "إنهاء العمل بالمنشور المذكور الذي لم يعُد يتلاءم مع ما تعيشه بلادنا اليوم من مناخ حرية ومسؤولية، إلى تطور الإطار القانوني للحريات في تونس".
ويحجر الفصل 23 من المنشور المشترك الصادر عن وزارتي العدل والداخلية، في 12 كانون الأول/ ديسمبر 1965، والمتعلق بتنظيم الحالة المدنية "إسناد الأسماء غير العربية للمواليد" كما يمنع "إسناد الألقاب كأسماء وألقاب الزعماء أو ألقابهم وأسمائهم في الوقت نفسه"، ذلك أنّه قبل الثورة التونسية عام 2011، كانت بعض الأسماء ذات الدلالة السياسية ممنوعةً، مثل اسم صدام، وذلك بعد إعدام الرئيس العراقي السابق صدام حسين، إلى جانب أنه يحجر "إسناد أسماء منافية للأخلاق أو محل التباس".
اليوم أصبحت أسماء مثل أصبحت أسماء مثل تولين وأركان وألين ولين ويارا وتينا متداولةً بين التونسيين بعد أن كانوا يستعملون الطالع لمعرفة اسم مواليدهم أو يسمونهم تيمنا بقريب
ويستثني المنشور القديم التونسيين اليهود من الموانع التي حددها، حيث كان القانون يسمح لهم بمنح أبنائهم أسماءً أجنبيةً كما يستثني المواطنين التونسيين المتزوجين من أجانب.
وتعيش العائلات التونسية خلال السنوات الأخيرة على وقع تغيّر جذري في تسمية المواليد الجدد، وذلك بانتشار إطلاق أسماء أجنبية تأثراً بالأعمال الدرامية العربية أو المدبلجة إلى اللهجات العربية، فأصبحت أسماء مثل تولين وأركان وألين ولين ويارا وأليف وبراق وبيازيد وتينا متداولةً، وتفاعلاً مع هذه الظاهرة أطلقت إحدى المعلمات عبر موقع التواصل الاجتماعي "نداء استغاثة" ساخراً قالت فيه: "ارحمونا... أتخيل لوهلة أنني في مسلسل تركي عند مناداة تلاميذي، أسماء غريبة عجيبة أصبحنا نكتشفها في دفتر المناداة، أرجو أن تتخيروا أسماءً سهلة النطق على الأقل".
إلى ذلك، فإنّ "عانس" و"عبشية" و"برنية" و"العترة" و"محضية" و"عيفة"... لم يختاروا أسماءهم لكنها تسببت لهم في سخرية أقرانهم وبأضرار نفسية اختلفت درجاتها، بينما كانت نية آبائهم، كما أسلفنا، أن يهجرهم الموت.
وفي هذا الصدد، فإنّ القانون عدد 20 لسنة 1964 الصادر في 28 أيار/ مايو 1964 يسمح لبعض التونسيين بتغيير اللقب أو الاسم وذلك بتقديم طلب رسمي لوزارة العدل للنظر في الإذن بإبدال اسمه أو لقبه بأمر. وينصّ الفصل الثاني من هذا القانون على أنه "يمكن لكلّ تونسي ليس له اسم عربي أو مغربي أو له اسم يكون من أجل معناه أو عند النطق به محلّ التباس أو سخرية أو له نفس الاسم الذي أطلق على أحد إخوته الإذن بإبدال اسمه بأمر".
ومن المفترض أن يتم نشر الأوامر الصادرة في الإذن بإبدال اللقب أو الاسم بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية سنوياً، ويقع ترسيمها بدفاتر الحالة المدنية لمدينة تونس، كما يقع التنصيص عليها بعقد رسوم ولادة المعنيين بالأمر، إلا أنّه لم يتم البت في هذه المطالب منذ سنة 2019 دون توضيح من طرف وزارة العدل.
وتفيد آخر الإحصائيات أنّه بتاريخ 17 نيسان/ أبريل 2019، تمّت الموافقة على تغيير 758 اسماً، وفي 2 شباط/ فبراير 2017، تمت الموافقة على تغيير 309 أسماء، ووجبت الإشارة إلى أنّه عقب الثورة التونسية (بين 2011 و2019) تمّ إجمالاً إصدار 6 أوامر حكومية تم بموجبها تغيير 3،774 اسماً، بينما لم يتم بين سنوات 2001 و2011 إصدار أكثر من أمرين رئاسيين تم بمقتضاهما تغيير 668 اسماً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...