شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"احتجت إلى سنوات لأفهم بشاعة 'يا ولد بورقيبة'"... أطفال التبنّي في تونس والوصم الاجتماعي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والتنوّع

السبت 12 نوفمبر 202203:22 م

"كنت في العاشرة والنصف من عمري، يوم نُعِتُّ للمرة الأولى بـ’ولد بورقيبة’... تشاجرت يومها مع ابن جارتنا وتسببت له بجرح بسيط على مستوى اليد. اشتكاني لوالدته فوبّختني وانهالت عليّ بالشتائم. لم ترسخ في ذهني حينها إلا الكلمة التي قلبت حياتي رأساً على عقب: 'يا ولد بورقيبة'. لم أفهم ما المقصود بهذه الكلمة للوهلة الأولى، لكن تغيّرت ملامح والدتي عندما أخبرتها بكل براءة بما قالته الجارة. دموعها التي انهمرت فجأةً وعجزت عن إخفائها عنّي، أثارت شكوكي وزادت من إصراري على معرفة معنى 'ولد بورقيبة'. لم يمضِ وقت طويل على الحادثة حتى قررت أمي مصارحتي بالحقيقة بعد استشارة أخصائي بعلم نفس الأطفال"؛ ويضيف معتز في حديثه إلى رصيف22، عن كيفية اكتشافه أنه طفل بالتبنّي، قائلاً: "عندما اكتشفت أني مجهول النسب، وأن العائلة التي نشأت فيها ليست عائلتي البيولوجية، لم تخالجني أي مشاعر. فقد كان صعباً على طفل ذي عشر سنوات استيعاب مسألة بهذه الحساسية، لكن ما أذكره هو أنني بعد فترة وجيزة بدأت أشكك في حب والدتي لي: كيف تحبني وهي التي لم تنجبني ولا تربطها بي أي علاقة دموية؟".

"كنت في العاشرة والنصف من عمري، يوم نُعِتُّ للمرة الأولى بـ’ولد بورقيبة’... تشاجرت يومها مع ابن جارتنا (...) لم أفهم ما المقصود بهذه الكلمة للوهلة الأولى، لكن تغيّرت ملامح والدتي عندما أخبرتها بكل براءة بما قالته الجارة. دموعها التي انهمرت فجأةً وعجزت عن إخفائها عنّي، أثارت شكوكي"

يتابع معتز، وهو مهندس معلوميات تجاوز سن الأربعين وأبٌ لطفلين، قائلاً إن الحبّ والعطف اللذين حظي بهما وسط عائلته لم يحولا دون تفكيره في هويته وفي والديه البيولوجيين وسبب تخليهما عنه، لكنه يؤكد أن إحاطة العائلة به كانت دائماً تنتشله من بحار التفكير التي يغرق فيها، ومكّنته من تجاوز ما وصفه بأزمة الهوية.

كغيره من أبناء التبنّي، عانى معتز من الوصم والتنمر وكذلك من نظرات الشفقة التي كان يرمقه بها المحيطون به على الرغم من حياة الرفاهة التي كانت توفّرها له العائلة: "أن تكون مُتبنّىً ومجهول النسب، ليس أمراً هيّناً أبداً، إذ عليك أن تتحلى بشخصية قوية تواجه بها كل المواقف التي يمكن أن تتعرض لها. في الحقيقة، لا أحب التعميم، فقد تعرضت لمضايقات في سنوات المراهقة وبداية الشباب، لكنني الآن لا أواجه أي مشكلة ذات علاقة بهذا الموضوع. حتى في زواجي كنت صريحاً مع زوجتي وأهلها ولم يعيروا موضوع نسبي أي اهتمام. تغيرت نظرة المجتمع التونسي إلى التبنّي والدليل على ذلك الإقبال الكبير على التبنّي والكفالة".

"الجروح النرجسية قاسية"

يواجه الطفل المتبنّى أو حتى البالغون بعض المشكلات النفسية، خاصةً عندما يتملكهم التفكير في أنهم منبوذون من قبل آبائهم البيولوجيين، وتم الاستغناء عنهم لظروف يجهلونها. تتعزز هذه الإشكاليات النفسية مع تعرض المتبنّى للوصم ولأبشع النعوت وأحياناً للرفض المجتمعي، ما يسبب له إحراجاً كبيراً وصعوبةً في التواصل. 

يرى المتخصص في علم النفس، عبد الباسط الفقيه، أن الانتساب إلى الأسرة بصفة عامة عنصر ركيزة للهوية خاصةً في المجتمعات المحافظة لأن المجتمعات الأخرى تكون فيها الفردانية هي المعيار الأساسي واللقب العائلي يُعدّ فيها غير ذي وزن، في المقابل يصبح هذا اللقب في المجتمعات العربية، وخاصةً في الأحياء الشعبية، مهماً، والانتماء إلى الأسرة مهماً جداً.

يواجه الطفل المتبنّى أو حتى البالغون بعض المشكلات النفسية، خاصةً عندما يتملكهم التفكير في أنهم منبوذون من قبل آبائهم البيولوجيين، وتم الاستغناء عنهم لظروف يجهلونها

أبرز الفقيه في حديثه إلى رصيف22، أن الثقل يبرز في مرحلة المراهقة لأن أسئلةً عديدةً متعلقةً بالهوية تُطرح في هذه السن، وإذا ما طُرحت هذه الأسئلة يصبح الأمر شديد الإحراج خصوصاً عند انكشاف عدم انتساب المعني بالأمر إلى الأسرة التي تتبناه.

وأضاف الفقيه: "وعليه، يصبح المتبنى معرّضاً أكثر للوصم ولنكران النسب لأنه يلحق مباشرةً بنسب مجهول، وهذا ما يحطّ بالصورة التي يحملها المراهق عن نفسه، وتتفكك بذلك أحياناً الرابطة الأسرية، ويدخل المتبنّى في بحث نشيط عن نسبه البيولوجي، ويصاب في بعض الأحيان بصدمات، خاصةً عندما يكتشف حقيقةً غير مقبولة اجتماعياً بما أنه ربما طفل مجهول النسب أو من أم عزبة وتالياً المسائل المتعلقة بالهوية في المجتمعات المحافظة لها آثار أقسى بكثير من المجتمعات التي في المدن الكبرى".

يرى المتخصص في علم النفس، أن الوصم الاجتماعي يعمّق من معاناة المتبنى، مبيّناً أن أنشطتنا الأساسية هي أنشطة حول الحديث، بمعنى أن عادتنا تقريباً مرتبطة بالحديث، بما يعني أن الحديث اليومي هو مصدر سعادتنا وهذا الحديث في جزء كبير منه حديث عن الأشخاص وليس عن المستقبل ولا عن المشاريع، وإنما حديث عن عيوب الآخرين وأشياء من هذا النوع، وتالياً فإن الوصم معطّل حقيقيّ لاستمتاع الإنسان بحياته بصفة عامة.

كما شدّد الخبير النفسي على أن الوصم من أنواع العنف المسكوت عنه، وهذا ما يتطلب وعياً كبيراً من المجتمع على أساس أنه نوع من الاعتداء على الآخرين، وتالياً يجب التحفظ عند الحديث عن الآخرين وعدم المس بأعراضهم وتاريخهم ونسبة أشياء إليهم، مشدداً على أن الأصل والهوية مجال من الخصوصية لا يهمّ إلا المعني بالأمر والعائلة التي تبنّته.

وبيّن الفقيه أن المتبنّى بإمكانه أن يعيش حياته بشكل عادي، لكن الجروح النرجسية قاسية جداً، ولا يسعه أن يُشفى منها لأنه بالنسبة إليه قام ببناء كيانه على صورة معيّنة، وفجأةً يكتشف أن تلك الصورة فيها شرخ كبير، فتصبح في بعض الأحيان مصدر أمراض نفسية، عادّاً أنه ليس من الهيّن أن يعيش الإنسان، خاصةً في محيط وبيئة بُنيت فيها صورته، على أبعاد معيّنة وفجأةً يكتشف أن تلك الأبعاد ليست حقيقيةً، وكأن كيانه مزيّف وغير منتسب إلى أصل.

"انفصلت عن زوجي لأجله"

أسال موضوع التبنّي الكثير من الحبر، وعادةً ما يكون محور اهتمام الكتّاب أو القرّاء هو الطفل المتبنّى؛ نشأته وحياته ومشاعره في شبه تجاهل للعائلة الحاضنة التي تقدّم أفضل ما في وسعها لأبنائها بالتبنّي وتسعى جاهدةً إلى إرضائهم ومساعدتهم على تجاوز المصاعب التي يتعرضون لها، نفسيةً كانت أو معنويةً.

تقول راضية، وهي امرأة خمسينية وأم لبنتين وطفل بالتبنّي، إنها تزوجت في سنّ السابعة عشر من ابن عمها الذي يكبرها بنحو عشر سنوات، ولم تنجب طوال خمس سنوات على الرغم من عدم وجود أي مانع طبي، لذا قررت وزوجها تبنّي طفل يؤنس وحدتهما، ويكفّ ألسنة الناس عنهما، ويجنبهما السؤال الذي لطالما أرهقها نفسياً: "فَمَّاشْ حْويجَة؟"، أي هل هي حامل أم لا؟

"لم يعد يبادل ابننا مشاعر الحب نفسها كما في السابق. تفطّنت إلى ذلك، ومنذ أن فاتحته في الموضوع، خيّرني بين الرجوع عن تبنّيه وزواجنا. طبعاً اخترت عزيز، ذلك الولد الذي لم أحب أحداً بقدر ما أحببته، وانفصلت عن زوجي"

"في بداية التفكير في موضوع التبنّي، قرر زوجي تبنّي طفل مع أني كنت أحلم منذ صغري برعاية بنت، فلم أمانع خاصةً أني كنت أفكر في التبنّي مرةً ثانيةً. جاء عزيز وملأ حياتنا فرحاً وبهجةً وكان زوجي يحبه حباً لا مثيل له. بعد نحو سنتين، كانت المفاجأة، فقد حملت ببنت واخترت لها من الأسماء غالية، لما لها من مكانة في قلبي. بدأ تعلّق زوجي بغالية، وكلما زاد تعلّقه بها فترت علاقته بعزيز. لقد كان يقوم بواجبه تجاهه فقط، لكنه لم يعد يبادله مشاعر الحب نفسها كما في السابق. تفطّنت إلى ذلك، ومنذ أن فاتحته في الموضوع، خيّرني بين الرجوع عن تبنّيه وزواجنا. طبعاً اخترت عزيز، ذلك الولد الذي لم أحب أحداً بقدر ما أحببته، وانفصلت عن زوجي".

تؤكد راضية في حديثها إلى رصيف22، أن فيض مشاعرها وأحاسيسها تجاه ابنها لا يوصف، كما تؤكد أنه يبادلها المشاعر نفسها، حتى بعد مصارحته بحقيقة تبنّيها له: "في الحقيقة لم أواجه أي مشكلات مع ابني، كما أني لا أمانع إن فكر في البحث عن والديه البيولوجيين، بل سأساعده حتماً في ذلك".        

إقبال على التبنّي وإجراءات معقدة

تُعدّ ظاهرة الإنجاب خارج إطار الزواج من أبرز الظواهر التي تحاول السلطات التونسية مجابهتها لتلافي تبعاتها التي يكون ضحيّتها عادةً الطفل والأم العزبة، وعلى الرغم من ذلك فإن الأرقام المسجلة مفزعة.

كشفت دراسة قدّمتها وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن، عن تسجيل أكثر من 800 حالة ولادة خارج إطار الزواج سنة 2021، خلافاً للحالات التي لا يتم التفطن إليها، وغالباً ما يتم التخلي عن هؤلاء الأطفال وتركهم لمصيرهم المجهول خوفاً من العار والفضيحة لتتعهد بهم مصالح رعاية الطفولة.

إلى جانب هذه الفئة، هناك عائلات تقرر التخلي عن أطفالها بعد عجزها عن تحمل عبء مصاريفهم، ليجد هؤلاء الأطفال بدورهم أنفسهم مودَعين في مؤسسات الرعاية التابعة لمؤسسات الدولة. 

تُعدّ تونس أول بلد عربي شرّع قانونياً التبنّي ونظّمه بالقانون عدد 27 لسنة 1958، الذي يجيز في فصله الثامن التبني وفقاً للعديد من الشروط

ولئن يقضي الأطفال مجهولو النسب والذين يتم التخلي عنهم، حيواتهم في دور رعاية الأيتام وقرى الرعاية "SOS"، فإن العديد من العائلات التونسية تقبل على تبنّي أو كفالة هؤلاء الأطفال خاصةً منها المحرومة من الإنجاب.

تُعدّ تونس أول بلد عربي شرّع قانونياً التبنّي ونظّمه بالقانون عدد 27 لسنة 1958، الذي يجيز في فصله الثامن التبني وفقاً للعديد من الشروط، التي من بينها "أن يكون المتبنّي شخصاً رشيداً ذكراً أو أنثى، ومتزوّجاً متمتعاً بحقوقه المدنية وذا أخلاق حميدة وسليم العقل والجسم وقادراً على القيام بشؤون المتبنَّى".   

إذا كانت تونس تسجل نسب إقبال مهمة على التبنّي، فإن التعقيدات الإدارية تحول دون تمكّن بعض العائلات من تبنّي طفل يؤنس وحدتها. وقد أعرب العديد من الراغبين في التبني عن انتهاجهم مساراً قانونياً شاقاً ومواجهتهم تعقيدات إداريةً عديدةً حتّى أن ملفاتهم تظل عالقةً لسنوات.

طالب المجتمع المدني في العديد من المناسبات، بتسهيل إجراءات تبنّي الأطفال وإلغاء العديد من الشروط بما يتماشى مع المعايير الدولية المنظمة لحقوق الطفل، وقد طالبت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بإقرار حق التبنّي لغير المتزوجين والعمل على تعزيز ثقافة حقوق الإنسان التي تضمن الحق في التبنّي، لافتةً إلى وجود انسجام بين القانون التونسي والتشريعات الدولية على المستوى النظري فقط، بينما التطبيق تتخلله إشكاليات عديدة تؤدي إلى حرمان الكثير من الأطفال من بيت يأويهم وعائلة تحبهم. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image