شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
يمن واحد، زمن واحد، وصفان متناقضان

يمن واحد، زمن واحد، وصفان متناقضان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب نحن والتاريخ

الأربعاء 13 سبتمبر 202312:07 م

قدِم الرحّالة السوري نزيه العظم إلى اليمن برفقة المستر شارلز كراين، الثري الأمريكي عضو اللجنة المعروفة باسم لجنة "كينغ كراين"، وكان قد طلب منه كراين مرافقتَه في رحلة إلى اليمن والحجاز في 1927، ثم قام العظم وحده برحلات عدة إلى اليمن كانت أخيرتها رحلته التي دوّنها في كتاب بعنوان "رحلة إلى العربية السعيدة"، صدر في دمشق عام 1936.

في أثناء تحوّل شمال اليمن إلى أراضٍ محرّمة على الرحّالة من الغرب، بسبب نفور الإمام يحيى من النفوذ الأجنبي، ظهرت رحلات عددٍ من السياسيين والكتّاب العرب مثل الريحاني والثعالبي والعظم، وعُقدت الآمال في مذكرات بعضهم على شخص الإمام على خلفية استقلال شمال اليمن عن الأتراك وموقعه كدولة حاجز أمام الاستعمار البريطاني في جنوب البلاد. ولكن ماذا فعلت هذه الهموم الوطنية في رحلة نزيه العظم إلى اليمن؟

سبق أن تهكّم نيبور (الناجي الوحيد من البعثة الدنماركية)، على تسمية اليمن بالعربية السعيدة، في رسالة مطولة إلى ملك الدنمارك، عزا فيها سبب التسمية إلى خطأ لغوي أو التباس في الترجمة بسبب الواقع المأساوي. خلافاً لأقرانه من الرحّالة والموثّقين، يقدّم نزيه العظم عن اليمن صورةً مقاربةً لمفارقة تسمية العربية السعيدة، إذ يستفيض في الحديث عن بلد يشيع فيه العدل والأمن والتعليم والرعاية الصحية والطموح الإسلامي، في جو لا يخلو من المقارنات أحياناً بين اليمن وبقية الدول العربية، ويمضي في لوم الطبيعة القاسية والبيئة الجبليّة في هذه اليوتوبيا دون أدنى إشارة إلى دور حكومة الإمام يحيى في هذه العزلة التاريخية.

تصدير "الإمامة" إلى الخارج

اتسمت السير والمراجع اليمنية الكلاسيكية في التأريخ بطابع نخبوي، حيث ركزت بشكل حصري على حياة الحكام والملوك والشخصيات النافذة، مع إهمال الشعب ووضعه الاجتماعي والسياسي. في رحلته، يغطّي العظم جميع مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية. ولكن تحضر سرديات بديلة حول السياق الاجتماعي والسياسي وعلاقات القوة في المجتمع اليمني، إذ يستكشف الأحداث التاريخية والحياة الاجتماعية من منظور روايات رسمية تؤكد مركزية التأريخ وتحكُّم السلطة في إنتاج المعرفة.

في رحلته، يغطّي العظم جميع مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، ولكن تحضر سرديات بديلة حول السياق الاجتماعي والسياسي وعلاقات القوة في المجتمع اليمني، إذ يستكشف الأحداث التاريخية والحياة الاجتماعية من منظور روايات رسمية

ففي تأريخه، يذهب إلى الضد من المجتمع والناس: تغيب المجاعات، الأمراض والأوبئة، والرق. فبرغم أن الإمام أغلق جميع المدارس والمحاكم والإدارات التي أنشأها الأتراك، بشهادة ما رواه الثعالبي والريحاني عن تفشّي الجهل، يُصرّ العظم على تقديمه كرجل علم!

لا إنسان غاضباً

لا يكتفي العظم بمدح السلطة والتغاضي عن جرائمها ضد فئات المجتمع، بل يعمد دوماً إلى استنطاق الضحية، التي تم قمع صوتها ومنظورها، والانتقاص منها وتشويهها، ليقول إنها على أفضل ما يرام بفضل الإمام؛ ففي سياق الأقليات الدينية، يتحدث أحد اليهود في مناخة إلى العظم بالقول: "إنهم يتمتعون بحقوق لا يتمتع بها المسلمون أنفسهم، فهم لا يدفعون ضرائب ولا أعشاراً ولا رسوماً، بل يدفعون الجزية وهي شيء زهيد بالنسبة إلى ما يدفعه المكلّف المسلم إلى حكومته من أنواع الضرائب المختلفة". ويضيف أنهم يملكون مدارسهم الخاصة ومعابدهم الخاصة. أما الإسماعيليون فلم يتكلّف معهم عناء تكذيب اضطهادهم، والأفظع أن يصف ترويع الإمام للإسماعيليين ومصادرة حقهم في المعتقد بأنه "تجديد لإسلامهم".

يُخفي العظم ذاته بشكل حذر خلف شخوص الرواية، حيث يستحضر الفئات المهمّشة والفاعلة كأصوات شاهدة على العالم المثالي الذي بناه في كتابه. ففي الجانب الصحي، يُنطق العظم "حسين الروضي"، وهو عسكري، وصيدلاني، يقرأ اللغة الإيطالية، في بلد بلا تعليم أو مدارس، ويؤكد أن الدواء مجاني: "نحن لا ندفع على علاجاتنا جمركاً لأنها تخص الحكومة، وقد أمرتنا هذه الحكومة أن نمنح العلاجات إلى الفقراء المرضى مجاناً". ويشكر العظم هذه الحكومة التي تهتم بشأن "رعاياها".

يُخفي العظم ذاته بشكل حذر خلف شخوص الرواية، حيث يستحضر الفئات المهمّشة والفاعلة كأصوات شاهدة على العالم المثالي الذي بناه في كتابه.

ومن المفارقة، أنه يورد في صفحات لاحقة، حكايةً رواها له أحدهم عن نفسه ومفادها أنه "تزوج من تسع زوجات طلق منهن ستاً وبقيت عنده ثلاث وقد رزقه الله من جميع زوجاته 25 ولداً مات منهم 16 وبقي عنده ستة". وهو ما ستؤكده بعد عقدين الطبيبة الفرنسية كلودي فايان، في كتابها "كنت طبيبةً في اليمن"، فقد وصفت الوضع الصحي بالكارثة الإنسانية لأن الناس كانوا يموتون لأتفه الأمراض.

بدلاً من الحديث عن المجاعات، يعزو العظم الإهمال الزراعي إلى المواطنين عوضاً عن السلطة، حيث ينقل على لسان فيصل بن علي، عن أحد الملاك النافذين أنه "يملك أرضاً واسعةً وعنده الخدم والحشم والجواري والخيل والإبل، ولكنه كغيره من شيوخ القبائل كسول ويفضل أن ينام على الطوى على أن يبذل جهوداً في الكد والعمل"، وينهي العظم حديثه بقوله: "وأظن أنه على حق في شكواه من أمراء البدو وشيوخهم"، مُعَلِّلاً ذلك بخمول أصحاب الأراضي من البدو.

يعيد العظم توجيه التاريخ والأحداث السياسية حيث يضع الإمامة في مركز التأريخ، فبعد قيام الزرانيق بأولى الانتفاصات ضد الحكم الإمامي، يصف العظم تلك المحاولة بالفوضى، والتخوين، والمروق، ولا يفوِّت أن يضيف لمسةً حانيةً من الإمام في حربه ضدهم كونه قام بحصار المدينة حفاظاً على الأرواح لا ضربها من الجهتين بالمدفعية كما سيوثّق البردوني لاحقاً.

وينقل عن أحد سكان مدينة ذمار حديثاً مطولاً يمدح فيه الإمام ويهب نفسه للقتال: "نحن ومالنا وعيالنا فداء للإمام وإذا دعانا للحرب والجهاد فإننا سنجاهد في سبيل الله" (ص 289)، ويمضي العظم في تبرير أبشع ممارسات النظام، وهو ما عُرف بنظام الرهائن، حيث كان الإمام يسجن ابن كل حامٍ له كي يضمن خضوعه لإمامته. هذه الصورة القائمة على الاستبداد تتنافى تماماً مع ما يقدّمه، إذ يتعاطف مع الإمام ويتفهّمه، ويبرر ممارساته بأنها سياسة حكيمة مستعملة في الغرب.

ومن أجل تعزيز روايته، لا ينسى أن يوجه ضربته الأخيرة إلى خصمه الرحالة أمين الريحاني، الذي من شأنه أن يقوّض مصداقيته، ففي رحلته التي سبقت العظم بسنوات قليلة، يكشف الريحاني بشاعات الحكم الإمامي، بقوله: "كأنك في السياحة في تلك البلاد السعيدة قولاً وتقليداً تعود فجأةً للقرن الثالث الهجري. لا مدارس. لا جرائد. ولا أدوية ولا أطباء ولا مستشفيات في اليمن"، فينقل العظم حواراً على لسان بعض السكان عن كرههم للريحاني، بالقول: "لقد اطّلعنا عليه فوجدنا فيه أشياء كثيرةً بعيدةً عن الصحة وأخرى مبالغاً فيها والله يسامح الأمين على هذا العمل لأنه لم ينصف اليمن".

لا يكتفي العظم بمدح السلطة والتغاضي عن جرائمها ضد فئات المجتمع، بل يعمد دوماً إلى استنطاق الضحية، التي تم قمع صوتها ومنظورها، والانتقاص منها وتشويهها، ليقول إنها على أفضل ما يرام بفضل الإمام

أمام سقوط آخر خلافة إسلامية وتزايد النفوذ الغربي، ينتقد العظم بنبرة هادئة وبصورة عامة هذه العزلة الخانقة ويطالب بضرورة إرسال بعثات محلية إلى الغرب أو استقدام خبراء أجانب، من أجل توازن القوى، ويأمل "بعقد معاهدات هجومية دفاعية بين الملوك والأمراء استعداداً للطوارئ". هذه الهموم الوطنية، في ظل تناوب الدولة العثمانية والانتداب الفرنسي على احتلال المنطقة العربية، دفعت العظم إلى تحويل الاستبداد الكهنوتي، برغم بشاعة الجهل والقمع والموت، إلى أنموذج وطني، لمجرد أنه يتحدث بالعربية وينطق بالشهادة في أرض نالت الاستقلال.

البردوني... من الفضاء الشفوي إلى الفضاء الكتابي

في القراءة السابقة، نفترض أن العظم كان يكتب للمتابع العربي من خارج اليمن، أما البردوني، فراحَ يكتب للمتابعين اليمنيين من الداخل، حيث يعيد الاعتبار إلى الأصوات المهمّشة وإن في مركز التاريخ، عوضاً عن الواقع الذي كان ما يزال يتلظّى بتبعات التقسيم الإمامي والإماميين الجدد. وقد تناول جل ما عرضه العظم، من أحداث ووقائع وملابسات، ولكن من منظور أولئك الذين تم تهميشهم وسلْب أصواتهم من قبل السلطة الحاكمة.

تمثل مرويات البردوني أبرز تحولات ثورة 26 أيلول/سبتمبر 1962، إذ تنتقل مركزية التأريخ من السلطة إلى الشعب، ويتحول التاريخ من سجل ملوكي إلى تحليل شعبي على غرار كتاب "الخطط" للمقريزي، وديوان "العِبَر" لابن خلدون. وزيادةً على تولي الفئات المهمشة سردَ التاريخ، عبر مصادر الأعراف والأمثال والحكايات ووصايا الحكماء وسير الأبطال الشعبية، ينقل البردوني الأصوات المسلوبة من الفضاء الشفهي إلى الفضاء الكتابي، حتى تمنح هذه الروايات إضاءةً جديدةً على التاريخ اليمني.

وهكذا توثق كتب البردوني الانحدار الثقافي والسياسي والإنساني في عهد المملكة المتوكلية، فحكاية الدودحية العاشقة في كتاب "فنون الأدب الشعبي في اليمن"، تسلّط الضوء على أجواء القمع ووضع الفنانين في أسفل التراتُب الاجتماعي والاحتقان الشعبي ضد السلطة الإمامية، و"مُلالات" النساء (زجل ريفي مغنّى)، ترصد إرث القهر النفسي، وزواج ابن الطبري الإسكافي من ابنة الهادي يحيى بن حسين في كتاب "الثقافة الشعبية، تجارب وأقاويل" يوثّق تاريخ نشوء التقسيم الاجتماعي في عهد المملكة المتوكلية، والأغاني الريفية في الفنون الشعبية تفصح عن السخط الطبقي ضد السلطة الحاكمة وهيمنة المدينة على الريف.

أما كتاب "اليمن الجمهوري" فيتناول التحولات السياسية والانتفاضات الشعبية ضد الإمام. ومهما يكن من أمر، تكشف حياة الأفراد تاريخ المجتمعات، بحيث تبدو هذه الروايات الشعبية في كتب البردوني، وكأنها تسترد أصواتها المقموعة في كتاب العظم "رحلة إلى العربية السعيدة".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard