عندما اندلعت الثورة السورية في آذار من العام 2011 لازمتني فكرة واحدة... كم هو محظوظ من يعيش خلال عمره تجربة الثورة! وهذا لا يعني تجاهل الخسائر الفادحة والأحزان والآلام الرهيبة التي سببتها استجابة النظام السوري العنيفة للانتفاضة الشعبية، ولكنه بالنسبة لي كان يُختَصَر بذلك الشعور الغامض والجارف بالأمل والحب، أمل بغد أجمل وبلاد تليق بشعبها وبمستقبل لشبابها وبناتها وأطفالها لا يعانون فيه من القهر والحرمان من الحريات، وحب غامر لشعب سوريا العظيم الذي جابه الرصاص الحي بالمظاهرات السلمية والرقص والغناء. عام كامل بدا فيه الحلم قابلاً للتحقق، وبدأ مفهوم الوطن والانتماء له يصبح ملموساً وذا معنى خارج الشعارات والأغنيات الوطنية.
كان العام الأول من الثورة السورية عاماً من التفاؤل والحماس، وكانت الروح الثورية تحول كل مانعيشه يومياً إلى حلم. ورغم أخبار الاعتقالات وضرب الرصاص، كانت المجموعات الشبابية التي تتشكل وتنظم وتغيث وتساعد مبتسمة، والتي تروي صورتها عن البلد بعد رحيل النظام، كافية كي أحافظ على شعوري بأنني أسير على الغيم وبأن الوطن المنشود ممكن وقابل للتحقيق بهمة شجعان وشجاعات لم يهابوا المواجهة مع النظام الوحشي مقتنعين بقدرتهم على الانتصار عليه بتفوقهم الأخلاقي وبحبهم لسوريا.
لم يفهم أصدقائي الذين كانوا خارج سوريا في حينه تلك الروح التي كانت تغمرنا جميعاً. كان كل من في الخارج لا يشعر إلا بالقلق والخوف، في حين كانت تجمعنا في الداخل روح لا أعلم مصدرها. فكرت كثيراً بعد أن وصلت المنفى ووجدت أنها كانت بلا ريب مرتبطة بشعورنا بأننا كثرة وأن كل ثوري يُقمَع يولّد عشرات غيره.
كان كل من في الخارج لا يشعر إلا بالقلق والخوف، في حين كانت تجمعنا في الداخل روح لا أعلم مصدرها. فكرت كثيراً بعد أن وصلت المنفى ووجدت أنها كانت بلا ريب مرتبطة بشعورنا بأننا كثرة وأن كل ثوري يُقمَع يولّد عشرات غيره
لم نكن محظوظين. لم تجر رياح التغيير بما اشتهته سفننا الثورية، وتحولت الثورة إلى صراع مسلح عنيف استعمل النظام فيه كل أشكال العنف لقمع الثورة واستدعى حلفاءه من كل بقاع الأرض. تشظى البلد وتفتت هويته الوطنية، هُجّر ونزح نصف سكان سوريا، وأصبح اليأس العام هو ما يحكم حياتنا اليومية وأصبحت سوريا التي نشتهي أبعد فأبعد. وفيما النظام السوري يحتفل بانتصاره على شعبه فوق أنقاض البلد الممزق، فجأة، ومن رحم اليأس، ولدت احتجاجات محافظة السويداء.
فيما النظام السوري يحتفل بانتصاره على شعبه فوق أنقاض البلد الممزق، فجأة، ومن رحم اليأس، ولدت احتجاجات محافظة السويداء.
هذه المرة، اندلعت الانتفاضة الشعبية وأنا في الخارج، أتابع من منفاي الأوروبي كل فيديو وكل صورة وألهث وراء أخبار المتظاهرين وأنا قلقة. أشعر بالخوف الشديد ولا أستطيع منع نفسي من تخيل أسوأ السيناريوهات التي يمكن أن يتفتق عنها خيال النظام السوري المجرم. أراسل الأصدقاء للاطمئنان ولتلقط الأخبار، أحاول ربط السياقات واستنتاج السيناريوهات القادمة، وأتذكر أولئك الذين كانوا يرسلون لي رسائل اطمئنان عند كل خبر يخص دمشق. كنت أضحك حينها وأستغرب من أن يفترض أصدقائي في الخارج أنني في كل لحظة سأكون في موقع الحدث. ولكنني اليوم أفعل ما كانوا يفعلونه تماماً. إنه مزيج غريب من القلق والخوف والإحساس بالعجز والرغبة بالمشاركة، وإن عن بعد.
لم نكن محظوظين. لم تجر رياح التغيير بما اشتهته سفننا الثورية.
أتأمل المتظاهرين وهم يهتفون، قلبي ينبض بشدة، اتحمس وأدندن معهم أغاني وهتافات الثورة حيناً، وأعدّهم حيناً آخر لأطمئن أنهم كثر. أفكر في مشاركة الفيديوهات على صفحتي، أنظر في وجوههم ملياً، فأجدها واضحة زيادة عن اللزوم. يخطر في بالي أن تكون صفحتي مخترقة وأن يؤدي فيديو أنشره إلى تعرف الأجهزة الأمنية إلى وجوههم فأحجم عن النشر، ثم أنتبه إلى أن الفيديوهات منشورة أصلاً على صفحات عامة على شبكات التواصل الاجتماعي وأن التعرف إليهم ممكن على كل حال. أتردد، ثم أعود فأبحث عن فيديوهات مصورة عن بعد للجموع، لا تبدو فيها الوجوه واضحة وأنشرها.
أحاول البحث عن وسائل أخرى للدعم، أرى الأصدقاء وهم ينظمون الوقفات لمساندة أهلهم في الداخل، أحاول أن أفكر بوسائل أخرى، بدعم أكبر، لا أجد أمامنا كمنفيين الكثير من السبل. لعل الأهم الآن هو إعادة التذكير بقصة الثورة السورية، أقتنع، فأعود لأعمل على مشاريعي الفنية التي تحكي حكايتنا، ولكنني لا أزال أشعر بالعجز وبقلة الحيلة.
أنشغل ببعض الأمور الحياتية واليومية، فأشعر بالذنب وأعود إلى شبكات التواصل لألاحق ما فاتني وكي أتأكد أن الاحتجاجات مستمرة وأن المتظاهرين بخير. يصل خبر عن قطع الإنترنت في السويداء، أبدأ بالقلق مجدداً، ما الذي يمكننا فعله في حال قطع الاتصال بيننا وبين ساحات الكرامة؟
في إحدى اللحظات أشاهد ابتسامة على وجه متظاهرة في السويداء فتعود ذاكرتي إلى السنة الأولى من الثورة، أفهم ما تشعر به، فتلك الابتسامة المنيرة والأمل الذي يشع من العيون أعرفهما جيداً، قابلتهما كثيراً، إنها تلك الروح الثورية التي عادت لتنبعث من تحت الرماد، عادت لتحيي في نفوس السوريين الأمل بعد أن كاد اليأس يخنقنا. أتفهم فجأة لم لا يخاف المتظاهرون بقدر ما أنا خائقة، لماذا لا يملؤهم الرعب كما يملأ قلبي، لأنهم كثر، لأنهم معاً، لأنهم يحبون بلدهم ويرغبون بأن تصبح على غير ما هي عليه.
أقرر أن أتجاهل يأسي وأن أترك لنفسي فسحة للعودة إلى الحلم. وأفكر كم أنا محظوظة، فقد عشت الثورة مرتين
أتخلى قليلاً عن قلقي وخوفي وأحاول أن أتماهى مع تلك الروح الأولى، أن أستعيد حالة الأمل، ولكن اليائسة فيّ تحذرني من الخيبة. أقرر أن أتجاهل يأسي وأن أترك لنفسي فسحة للعودة إلى الحلم. وأفكر كم أنا محظوظة، فقد عشت الثورة مرتين، مرة في الداخل ومرة في الخارج، وقد يعيش الناس حيوات كاملة يحلمون بالثورة وينتظرونها ولا يشهدون حدوثها، لذا يبدو القول الذي خطته المخرجة وعد الخطيب على فستانها في الأوسكار: "تجرأنا على الحلم ولن نندم على الكرامة" منطقياً.
قد يبدو كل ما سبق لمراقب خارجي سوريالياً، فنحن شعب أعزل يواجه سلطة مستبدة غاشمة تمتلك قدرة غير محدودة على العنف، ولكننا ننتصر بقدرة سحرية تجمعنا وهي القدرة على الحلم، التي لا تستطيع قوة في الأرض مصادرتها، سنحلم وسنبقى نحلم، عل الحلم يوماً يصبح حقيقة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...