بعد أشهر من تعيين نوري المالكي رئيساً للحكومة العراقية سنة 2006 كنت جالساً في مقهى الروضة بدمشق، المطل على المجلس النيابي، ودار حديث بيني وبين "حكم"، كبير نادلي المقهى والعامل فيه منذ مطلع السبعينيات.
"أبو إسراء - في إشارة إلى المالكي- كان صديقي وزبوني. كان يأتي كل يوم إلى هنا أثناء إقامته بدمشق ويجلس في ذلك الركن"، مشيراً باصبعه إلى زاوية متطرفة من المقهى. "وفي الطرف الآخر تماماً كان يجلس المام جلال (الطالباني)، وهو أيضاً من زبائن مقهى الروضة قبل عودته إلى العراق إبان سقوط حكم صدام حسين وانتخابه رئيساً للجمهورية".
ضحك حكم وأضاف: "كانوا يجلسون بعيدين حفاظاً على خصوصية مجالسهم. وإذ عدنا إلى الوراء قليلاً، نجد أن صدام نفسه كان يجلس في الروضة أيضاً أثناء إقامته القصيرة بدمشق سنة 1959".
الكل يعرف أن للعراقيين نصيباً كبيراً في سوريا، حيث عاش الكثير منهم، مثل الشعراء مظفر النواب ومحمد مهدي الجواهري، وولد آخرون وأصبحوا سوريين، مثل الممثل المعروف أيمن رضا
الروضة كانت ملجأ للساسة العراقيين، من بعث العراق وحزب الدعوة ومختلف الأحزاب الكردية، وفي سنة 2006 وفي أوج النزوح العراقي إلى سوريا، كان الداخل إليها يظن نفسه لوهلة في وسط بغداد. ولكن ماذا عن مرحلة ما قبل الغزو الأمريكي وقبل صراعات دمشق وبغداد في ستينيات القرن العشرين؟
الكل يعرف أن للعراقيين نصيباً كبيراً في سوريا، حيث عاش الكثير منهم، مثل الشعراء مظفر النواب ومحمد مهدي الجواهري، وولد آخرون وأصبحوا سوريين، مثل الممثل المعروف أيمن رضا.
أمّا في سنوات مبكرة من القرن العشرين، فقد تبوؤا أرفع المناصب السياسية والعسكرية في سوريا أثناء حكم الملك فيصل الأول الذي أصبح سنة 1921، ملكاً على العراق. ثلاثة من هؤلاء العراقيين خرجوا من سوريا مع الاحتلال الفرنسي سنة 1920، وعادوا إلى العراق ليصبحوا رؤساء حكومات في مراحل مختلفة، وهم نوري باشا السعيد وجعفر باشا العسكري وياسين باشا الهاشمي.
نوري باشا السعيد، مستشاراً سياسياً لملك سوريا
أشهرهم طبعاً كان نوري السعيد (1888-1958) الذي شارك في معارك الثورة العربية الكبرى مع الشريف حسين ونجله الأمير فيصل. دخل دمشق محرراً من فيصل في 1 تشرين الأول/أكتوبر 1918 وعُيّن مستشاراً سياسياً له. مقر عمله كان في القصر الملكي في منطقة المهاجرين، وكان لزوجته نعيمة العسكري نشاط كبير في المجتمع الأهلي، وهي من مؤسسي جمعية "نور الفيحاء" الدمشقية مع شقيقة زوجها فخرية السعيد، زوجة الضابط العراقي جعفر العسكري.
كان نوري السعيد من أقوى الضباط العراقيين وأكثرهم نفوذاً في دمشق، وبقي ملازماً لفيصل لغاية هروب الأخير إلى منطقة الكسوة إبان سقوط عرشه بدمشق على يد الفرنسيين في 24 تموز/يوليو 1920. عينه فيصل قائداً لموقع دمشق، وكلفه بالتفاوض مع الجنرال الفرنسي هنري غورو، أملاً أن يتمكن نوري باشا من التوصل لاتفاق يُعيده إلى عرش سوريا.
وكان السعيد في استقبال القوات الفرنسية على مدخل بساتين المزة –ممثلاً عن الحكومة الشرعية- وقال إن بإمكانهم دخول دمشق في أي وقت يشاؤون. انتقل بعدها إلى العراق وفيه شكل ثماني حكومات، وعاش حتى مقتله سنة 1958. لم ينس يوماً سوريا، وكانت له محاولات عدة لاستعادة العرش الهاشمي بدمشق، سواء بالتفاوض والاتفاق مع الحكومة السورية سنة 1949 أو عبر محاولة الانقلاب عليها سنة 1956.
جعفر باشا العسكري، حاكم حلب العراقي
أما شقيق زوجة نوري السعيد، جعفر العسكري (1885-1936)، فكان هو الآخر من الضباط المنشقين عن الجيش العثماني الذين انضموا إلى ثورة الشريف حسين. دخل دمشق مع فيصل ونوري السعيد سنة 1918 وعُيّن مفتشاً عاماً للجيش السوري الوليد قبل تسميته حاكماً عسكرياً على مدينة حلب شمال البلاد.
شارك في مراسم تتويج فيصل ملكاً على سوريا في 8 آذار/مارس 1920، وعُيّن في قصره كبيراً لأمناء الملك. حاول جاهداً توحيد الضباط العراقيين المقيمين في سوريا لنصرة الثورة العراقية ضد الإنكليز (أيار/مايو–تشرين الأول/أكتوبر 1920)، وكانت له اليد العليا في ترفع الأكفاء منهم وإبعاد من دارت حولهم شبهات، ومنهم اليوزباشي محمد شريف الفاروقي، ابن الموصل المقيم بدمشق والوزير السابق للشريف حسين في مصر.
ثلاثة عراقيين خرجوا من سوريا مع الاحتلال الفرنسي سنة 1920 وعادوا إلى العراق ليصبحوا رؤساء حكومات في مراحل مختلفة، وهم نوري باشا السعيد وجعفر باشا العسكري وياسين باشا الهاشمي
انتقل العسكري إلى العراق حتى قبل وصول الملك فيصل إليه وكان أول وزير للدفاع في حكومة عبد الرحمن النقيب الأولى في تشرين الثاني/نوفمبر 1920. شكل جعفر باشا حكومته الأولى سنة 1923، والثانية عام 1926. وفي سنة 1936 كان وزيراً للدفاع في حكومة صديقه ياسين الهاشمي عندما وقع عليه انقلاب بقيادة الضابط العراقي بكر صدقي. خرج العسكري لمفاوضة الانقلابيين وقتل على يدهم يوم 29 تشرين الأول/أكتوبر 1936.
ياسين باشا الهاشمي، عراقي يرأس الجيش السوري
وكان ياسين الهاشمي (1884-1937) مثله مثل زملائه نوري السعيد وجعفر العسكري، من ضباط الشريف حسين العراقيين الذين دخلوا دمشق مع فيصل سنة 1918. عينه الأخير رئيساً للمجلس العسكري بدمشق، ثم رئيساً للأركان مكلفاً بإنشاء الجيش السوري على مخلفات العثمانيين. اختار الهاشمي ألمع الضباط السوريين للمناصب القيادية، وفضل تسلّم العراقيين مناصب ثانوية لكيلا يقال إن جيش سوريا يقوده عراقي وكل ضباط صفوفه الأمامية عراقيون.
اصطدم مع الإنكليز سنة 1919 واعتقل بأمر منهم، أو بالأصح خُطف وهو على رأس عمله. كانت تهمته التخطيط لانقلاب عسكري ضد البريطانيين في سوريا، ومحاولته تجنيد عشرين ألف مقاتل لهذه المهمة، ما بين سوري وعراقي.
وقد أثارت قضية اعتقال الهاشمي -أو اختطافه- ردود عنيفة داخل سوريا، فأطلق سراحه بعد ستة أشهر وانتقل إلى العراق مع فيصل ليشغل عدة حقائب وزارية قبل تعيينه رئيساً للحكومة سنة 1924 وتسميته رئيساً للمرة ثانية في عهد الملك غازي بن فيصل عام 1935. كان ضحية الانقلاب العسكري الذي قام به بكر صدقي عام 1936 –والذي قتل بسببه جعفر العسكري– وعند تنحيه عن رئاسة الحكومة قرر العودة إلى سوريا والإقامة بدمشق.
توفي بعدها ببضعة أشهر، يوم 21 كانون الثاني/يناير 1937، ودُفن خلف الجامع الأموي وضريح صلاح الدين الأيوبي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...